نزار قباني يمسرح الحياة (يكتب للمسرح للمرة الاولي والأخيرة)/ د. محمود سعيد
الكتابة عند نزار قباني تثير معنى الوجود الفكري للحياة والتماثل اللغوي للكتابة، ولعل التكوين الأنطولوجي للشاعر وسط زخم التحولات السياسية والاجتماعية، وانفلات سلطة العقل، جسد لديه الحاجة للتمسرح أو كتابة نص مسرحي يعري الحقائق بمكاشفة أثرها وعامل وجودها، فالشاعرية التي يمتلكها تطرح نفسها أمام وضع غير بشري حيث تتصادم الأفكار والمرجعية الذهنية الّتي لوثت التعايش بين الطوائف، والتّوحد مع الاختلافات، كذلك ينمو أثر الحقد والضغينة لتزرع في عقلية الإنسان عدم تقبل الآخر ورفض وجوده محاذاة الشتات النفسي والانسياب خلف التّضليل، جعل الكاتب يخلق من النص المسرحي حركة وجدانية تفاعلية تقدم الصور وتحرك تصوير المشاهد المناسبة بين ثنائية (المرأة/الرجل) وما يؤدي التأويل لفرز طاقة التفسير والتحليل وإضاءة جانب مهم في حقائق الأشياء، ومسرحية (جنونستان) العمل النادر عند الشاعر تنفلت في بؤر السياسة حيث دارت الحرب الأهلية بين المسيحين والفلسطينيين والحركة الوطنية واستمرت تطرح قضايا الخراب الإنساني الذي يبدأ من الإنسان ذاته.
كتبت المسرحية عام 1977 بدايات الحرب الأهلية في لبنان بعدما اندلعت مجزرة 1975م إثر حادثة عين الرمانة الواقعة في الضواحي الشرقية التي نشبت باقتتال بين مسلحين مسيحين لبنانين ومسلحين فلسطينيين وكانت نتائجها نشوب حرب طائفية، ونشرت 1988 بعد مرور إحدى عشر عام ما بين الحرب الأهلية ونشوء تعدد حزبي سياسي وتكالب مصالح السلطة، النص يحكي رجوع زوج مسلم وزوجته مسيحية من الخارج نحو (جمهورية جنونستان) كما يكتب (نزار القباني) إن ( جمهورية جنونستان) : (هي البديلُ الجغرافي والسياسي والتاريخي والحضاري , لما كان يُدْعى في قديم الزمان . . جمهورية لُبْنَانْ.) امتداد مرآوي نحو عالم، يحوم تحت وطأة الارتدادات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، والتاريخية، والأثر التُراثي، ويَمثُلُ المُؤلف إسهامه الوظيفي في تخمير الواقع المتجسد أمامه، والمتآلف معه، والمشارك فيه، كوعي فني، يُسهم في تشفير واقع اللُّغة في النص، وتقسيم سماته.
منذ البداية يضعنا أمام الثنائية، بل عالم من الثنائيات، ثنائية الأنا والآخر، وثنائية الجسد والفعل، وهنا تمثلت ثنائية الجسد والعقل في أبهى صورها، إذ أنه تم توطين الجسد كرد فعل مضاد للثقافة التي التي أقصت المرأة وحجبت عنها البوح بتخيلات هذا الجسد، إذ تدخلت الثقافة في تحديد مفهوم جسد الأنثى على أنه عورة يجب سترها.
ومن هنا جاءت قوة الأنثى على النموذج الجسدي، الذي نحته الرجل وفق مفاهيمه.
وتدرجت هنا في المسرحية مستويات الأنوثة .. من (لبنان) كأنثى تم انتهاكها وتدميرها إلى المرأة التي دخلت مع زجها إلى لبنان، لكن بعد تبدلت الأمور بعدما صعد المتأسلمون إلى السلطة .. فواجهت فعلا قسرياً بينها وبين الزوج إلا أنها اختارت الزوج.
إذ يقول الرجل .. للضابط ..
الرجل : أن سفينة نوح كانت أكثر تقدمية .. لأنها كانت تحمل على ظهرها الذكور والإناث دون تفريق (المسرحية ص27)
إلا أن الضابط يصر على التفريق بين الزوجين لاختلاف الطائفي
الرجل : وهل يعني هذا أنني سأذهب إلى غيتو المسلمين وزوجتي ستذهب إلى غيتو النصارى
الضابط : استنتاجك صحيح (المسرحية ص33)
إلا أن الزوجين رفضا الدخول وفضلا العودة على القرية
ثم دخل المؤلف في مشهد آخر .. وهو مشهد الصحفية الجريئة التي تحاول العبور أمام رجال الشرطة من جمهورية (جنونستان) ودخلوا مع الفتاة الشابة الجميلة في حوار جدلي عقيم حول (رؤاهم واعتقاداتهم وإيمانهم) بالجمهورية المزعومة إلا أن الفتاة وصلت أخيراً لتوظيفهم السليم
وهو أن جمهورية جونستان ماهي إلا حمل كاذب فما كان من الضابط إلا أن أطلق عليها النار لتموت معتقداً أنه قد قتل الحقيقة وكأننا نواجهه (داعش) منذ كتابة المسرحية 1977 من أربعين عاماً، وهنا تبدو تقدمية نزار قباني كشاعر وكاتب مسرحي لنص يتيم.
وقد وظف المؤلف لعبة الثنائيات بسهولة في العنوان حيث الجمع بين الجمهورية الجديدة والقديمة وبينهما (جنون) القادة .. وعشق الدم والخراب تحت مسمى الالتزام والتأسلم.
المسرحية بحق “مليئة باللعب الذي يميط اللثام عن رموز السلطة المهيمنة ويفضحها، كما يكشف تواطؤها وتحالفها مع القوى التي تبدو كنقيض لها من منظور المصالح الضيقة دليل التناص على كشف زيف الخطابات التي يحملها”.
لقد استخدم نزار الصدمة الحضارية فجاءت المسرحية مشتعلة عنفاً وعاطفة وصدقاً. وقد كانت حماسته شديدة لقضايا المرأة، ودفاعه الدائم عن حقها في اختيار شريكها في رحلة الحياة، وشط في ذلك شططاً كبيراً، نتيجة لتكونه النفسي الذي يميل إلى المشاكسة، والمخالفة، ويرفض المصانعة والمهادنة، وبخاصة حين لمس الازدواجية التي يحياها المجتمع العربي، حين يبيح للرجل كل شيء، ويحرم المرأة من أشياء كثيرة،
عن: أخبار النجوم مجله مصريه اسبوعيه