المسرح في زمن الكورونا / بقلم : يوسف الحمدان
بمناسبة اليوم العالمي للمسرح ..
في زمن الجائحة الكورونية العالمية التي عصفت ذراتها النووية الكاسحة الساحقة كل ممكنات الحياة على هذا الكوكب الكوني ، وأربكت كل التحديات التي من شأنها أن تزيح عن هذا الكوكب غول الموت الزاحف بلا هوادة نحو أرواحنا ، وغرست في دواخلنا بذور الشك والخوف والهلع من قادم مجهول لا تضمن مغادرته حتى في أقصى لحظات اطمئنانك بأنه زائل لا محالة ، ذلك أن الفدح أقوى من العلاج وأسرع من ريح الوهم الميتة التي معها تزول سموم آخر بويضة أنتجها فيروس الكورونا .
في هذا الزمن الفجائعي الغرائبي الهوائي الأثيري السائل الهيولي الذي نرقبه وكما لو أنه صرعة جديدة من صرعات الـ ( 3D ) أو الميتا غرافيك ، كم نحن بحاجة إلى ملامسة العمق وجوس تضاريسه المركبة المعقدة حين يعن لنا التصدي لهذا الزمن مسرحيا ؟ وكم نحن بحاجة إلى أن ندرك بأن الحرب القادمة أكثر شراسة وضراوة ، إنها حرب الفيروسات والتي معها ينبغي ألا نستبعد بأن العالم سينتهي بها ، وأن بطل المرحلة القادم هو الداء وليس المستداء ، إنها كورونا الحدث والدور في آن واحد .
ولو تأملنا التحولات العصفية التي رافقت وانبثقت من هذا الداء النووي اللهاثي ، سنلحظ أن الداء هو من يقود الزمن وليس العكس ، وأنه هو الزمن ذاته الذي يتحكم بمصائرنا ويزجها في لجة التيه والحيرة والزوغان والكارثة والموت ، وأنه من يربك كل قناعاتنا ورؤانا وتخيلاتنا ويجعلنا أسرى حالات لا نعرف طبيعة أو نوعية ملامحها أو هويتها او مصدرها ، وأنه من يعيد صوغ تكهناتنا في كل لحظة وكما لو أننا فقدنا بوصلة التحكم بما تكهناه أو ارتأينا صائبيته ومصداقيته ، لنصل في نهاية الأمر إلى شك فادح في وجودنا ذاته ، فهل نحن أسرى ما يمليه علينا هذا الفيروس ويقترحه في صناعته الجزيئية الدقيقة الهيولية الفارطة ، أم نحن مكونات أخرى من هذا الفيروس نظرا لتجزأ رؤانا النووية في تركيبته الدقيقة اللانهائية التحول والانبثاث في أثير هذا الكون ؟
إن التصدي لمثل هذا ( الحدث الدور ) مسرحيا ، لا يتطلب منا مواكبة طارئة عابرة أو وقتية أو ( سلقية ) كما اعتادت عروض كثيرة في مسرحنا العربي التمثل به ، إنما يتطلب ويقتضي منا اشتغالا فكريا رؤيويا ينطلق ويتشكل من العمق ، أو يكون موازيا نداً لحالات التشكل في هذا الفيروس ، فالرؤية في المسرح هي قلب الفكر وصنو الإبداع وفسح التخيل بلا حدود ، وكلما كانت التجربة المسرحية أكثر قدرة على تجاوز زمنها ومعطيات واقعها ، كانت أكثر اتصالا وانتماءً للإبداع ولعصرها ، وأكثر تأثيرا وقدرة على مواجهة وتحدي كل ما يستجد في هذا العصر .
وفي هذا الصدد يهمني أن أشير إلى مختبر المسرح الجسدي النفسي الروسي الذي حاول أن يواكب مباغتات العصف الكوروني النووي للخارطة الكونية باستقصاءاته للجسد التخيلي ، وكيف ينبغي أن يرى ما سوف يمكن أن ينعكس عليه مباشرة ويحوله إلى كائن آخر ، فهذا المختبر الإبداعي الاستثنائي ، تعمل فرقته في كل الظروف وتختبر أجسادها وأفكارها وتغامر بلا حدود ، فهم وإذ يتصدون لمثل هذا الكائن النووي المباغت ، فإنهم يخلقون الجمال في أقصى لحظات القبح والألم التي تحاصرنا في كل الجهات ، ويصنعون الأمل في أقسى لحظات اليأس ، إنهم يفكرون بأجسادهم وأحلامهم ويطلقون أجنحة الإبداع في كل فضاء تتجسد وتحيا فيه أرواحهم ، هن الساحرات اللواتي يتباهى المسرح بحضورهن الخلاق أينما تواجدوا .
هو مختبر ينصرف إلى جهده الإبداعي انطلاقا من إيمانه بأن المسرح حياة لا تتوقف بانتهاء العرض المسرحي ، إنها مختبر اكتشاف وبحث دائم ودائب ، مثل هذا المسرح هو من يأخذنا نحو العمق ، وهو ما نحتاجه لقراءة كل مستحدث صادم للفكر والمخيلة معا .
إنها القراءة العميقة الرائية للحياة والكون ، إنها رؤية العالم الفيزيائي استيفن هوكينج الذي تنبأ بالحرب القادمة في العام 2005 ، حيث يكون التلوث البيئي في هذا الكون أخطر إرهاب يواجه العالم كله ، وما ذهب هذا العالم
الفيزيائي بعيدا عن قراءة العمق لدى المخرج التونسي المبدع توفيق الجبالي في مسرحيته ( المجنون ) وقبلها ( كلام الليل ) ، اللتين كانتا أشبه في أحداثهما بعوالم منشطرة مفتتة يصعب الإمساك بتلابيبها ، وكما لو أن هذه العوالم في تكوينها البنائي أشبه بانشطارية وهيولية هذا الفيروس الكوروني أو الأوكفيدي القادر على إدارة دفة الكون واختراق مؤشراته الزمنية التي تطمئن لحالات التحول التراتبي فيه .
مثل هذه القراءة ( الجبالية ) العميقة لكونه المسرحي ، هي المؤهلة وباقتدار لمناورة التحولات العصفية في هذا الكون ، إذ لم تتشكل هذه القراءة من منطلق منحنيات مضطربة في التجربة المسرحية ، وإنما من مشاكسات وتحديات ومنازلات اصطدامية مع مالم نتمكن من رؤيته في هذا الكون ، إنما مع ما يمكن أن نتبنبأ بحدوثه في زمننا هذا أو الأزمان التي سوف تأتي ، لذا نلحظ الجبالي في عروضه المسرحية ممسكا بالهيولي السائل الذي تسبح في لحظة زوغانه منها رؤى جديدة قادرة على ملاحقة المغاير في تدشين ( الحدث الدور ) .
ولعلني في هذا الصدد أيضا أذكر صرخة المخرج المسرحي البحريني الصديق عبدالله السعداوي عام 1994 في مسرحيته ( الكمامة ) لألفونسو ساستري وهي تضج في فضاء العرض : ( العاصفة قادمة .. من يوقفها ؟ ) ، وكان حينها السعداوي من خلال رؤيته يتخيل ما سوف يحدث في الأزمان القريبة القادمة ، حيث الكائن سيكون مغيبا إزاء سلطات تصنع كل ما من شأنه التهام هذا الكائن والقضاء عليه كليا ، وهي المسرحية التي حصد فيها جائزة أفضل مخرج مسرحي بمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي .
إن فعل هذا الزمن الكوروني ( الجائح ) و ( الجائع ) الذي يعصف بهذا الكون ، أقوى وأسرع من أزمنة مضت وأزمنة ربما سوف تأتي وربما ستشكل خلقا جديدا قادما لا ينتمي إلينا في ملامحه وقيمه ومنعطفاته ، زمن يتجاوز ما بعدية الأزمنة والاتجاهات والأيديولوجيات والأنساق ، زمن يتجاوز روح الأسطورة ليشكل أسطورته الجديدة ، زمن نعتقد أننا نراه متباعدين وهو أقرب إلى ذواتنا من حبل الوريد ، زمن تخترق أصداؤه ومرعباته وتحولاته كل أنسجة التكنولوجيا الاختراقية الميكروفيزيائية النووية الدقيقة ليكون حاضرا بيننا أكثر من حضور الممثل واقترابه منا في قاعة العرض .
إنه فعل يتمسرح في هذا الكون ليصبح المسرح الذي نعهده صغيرا ضئيلا أمام حضوره الغددي المتمدد المتحرك بقوة وبهوادة حتى في لحظات اختباؤنا عنه أو انحيازنا لزاوية صغيرة جدا في معتزلنا البيتي ، فلا نعتقد أننا نحتفل بمناسبة اليوم العالمي للمسرح ونحن بمأمن من حضوره الفاره الباذخ بين خلايا وجودنا الفردي أو الجماعي ، إنه يدعونا مضطرين للاحتفال به في كل مكان ، فهل تسعفنا رؤية العمق والخلق على فعل ذلك ؟ هل تسعفنا هذه الرؤية على أن نتذكره دائما ونحياه مثلما تذكر وأحيا المسرحي الباكستاني شاهد نديم صاحب رسالة اليوم العالمي للمسرح للعام 2020 في أوعر الطرق وفي ( الأوقات السيئة التي رآها وقت ازدهار المسرح ) الشاعر الصوفي الكبير بلهى شاه الذي ظل الشعبين الباكستاني والهندي يتذكرانه ويعيشان مواقفه النضالية والإنسانية حتى هذه اللحظة ومن بعد ثمانية عشر عاما جابت فيه عروضه المسرحية أرجاء هذين البلدين ؟
إنها إذن الرؤية في أقصى تجلياتها الكونية، فهل نلامس أعماقها حتى نكون أكثر جدارة بزمننا وعصرنا ؟