ظاهرة ( المشاية) بوصفها فرجة درامية/ د. أحمد شرجي
يثير كتاب مجاهد ابو الهيل ( موسم الجنون: المشاية في مراسم الزيارة الاربعينية؛ قراءة سوسيولوجية) ، الكثير من الاسئلة المهمة فنيا ،بعيدا عن قصدية دراسةظاهرة ( المشاية) في بعديها السوسيولوجي والعقائدي،التي يمتد عمقها وتفاصيلها( الدرامية) إلى عمق حادثة مقتل الحسين بن علي (ع) وعائلته ومواليه في عام (61) هجرية في واقعة الطف.
منها؛ لماذا لم تتم دراسة ظاهرة ( المشاية ) فنيا ، بوصفها ظاهرة درامية فرجوية، بعيدا عن مرجعيتها العقائدية؟لماذا تعامل النقد والبحث العلمي معها بتعالي وتثاقف قصدي وغير قصدي ؟ رغم ان النقد العربي تعامل مع مظاهره الدرامية بحفر معرفي مهم وكبير ، وبدا ينظر لكل ممارسة اجتماعية بوصفها ظاهرة درامية وفرجة شعبية كما عند ( علي عقلة عرسان: الظواهر المسرحية عند العرب) ، وترسيخه لـ (حلقات الذكر الصوفية، الطقس الديني، المولد النبوي، خميس المشايخ، الحج، صلاة الاستستقاء، المنافرة” التباري شعريا”) وغيرها الكثير، بوصفها مظاهر درامية عربية ، بل ذهب إلى أكثر من ذلك ، حيث قسم في كتابه المظاهر إلى ما قبل الاسلام /عند عرب الجاهلية ، ومظاهر بعد الاسلام .ولعل النقد المغربي سباقا في تأصيل فرجاته الشعبية بعيدا عن مرجعياتها العقائدية والجغرافية ، بل وضعها تحت البحث الابستميولوجي الواعي والعميق ، ومن خلاله تعرفنا علىفرجات ( الحلقة، سلطان الطلبة، البساط، سيدي الكتفي ) وغيرها الكثير ، ومن ثم اصبحت مادة مسرحية عند الطيب الصديقي، الذي تعلم الدرس جيدا من استاذه الفرنسي جان فيلار، والذي اخبره ( عندما تعود إلى وطنك، عليك بنسيان كل ما شاهدته هنا، وتذكر فقط التقنية)، وعمل الصديقي وغيره الكثير من المسرحيين المغاربة على مسرحة الظاهرة الدرامية وصناعة فرجة مسرحية ، تدخل فيها كل انواع الاداء ، واصبحت المظاهر الدرامية مادة مسرحية ذات خصوصية ثقافية .
كان الشرق مهاد خصب للكثير من المنظرين والنظريات المسرحية ومنهم ؛ ارتو ومسرح القسورة ،مايرهولد ومسرح الحركة ، برتولدبريشت والمسرح الملحمي ، وكروتفسكيوايجيونوباربا في أنثروبولوجيا المسرح.ولكن النقد العراقي لم يتخذ من” المشاية” وغيرها، بوصفها حالة أنثروبولوجية أو ثقافة طقسية داخل المجتمع العراقي، بل تعامل بفوقية ونرجسية عالية في دراسة الفرجات الشعبية بوصفها مظاهر درامية ثقافية، وكذلك الحال مع مسرح التعزية ، التعازي / التشابيه الحسينية ، رغم ان الاخيرة تتوافر فيها الكثير من مسطرة ارسطو للتراجيديا ، لكن الجانب الطائفي كما تقول الباحثة الروسية (تمارا الكساندروفنا) قوض فكرة صناعة تراجيديا عربية تضاهي التراجيديات الاغريقية ، لتوفرها على خصائص التراجيديا ومميزاتها ،وربما سنعود إلى ذلك بمقالة اخرى .
وهنا نؤكد بأن الحديث عن ظاهرة( المشاية) ليس بوصفها مسرحا ، بل ظاهرة دراميةفرجوية لتوفر عناصر الممارسة فيها ، حالها حال المظاهر الدرامية الاخرى، لأن( المشاية) تؤدي فعلا متكاملا بقصدية اتفاقية في جوهرها وتعبوية جمعية في ظاهرها، يصف ابو الهيل ظاهرة المشاية بوصفها ( سلوكا جماهيريا اوكتلياَ لها شكل الرأي العام، لأنها تشكلت من خلال اتفاق او اجماع آراء مجموعة افراد و تطورت بمرور الزمن لتشكل رايا عاما او اتفاقا جماعيا لدى غالبية فئات الجمهور اتجاه امر او ظاهرة..).(1) مصطلح (المشي) فعل ارتبط بالحركة وعدم الثبات، ممارسة تتصف بالديناميكية ولهذا اخذت الظاهرة صفة الموصوف، وعماد الفرجة هو الفعل وعدم الثبات على مستوى التقديم والممارسة ، ولا يمكن تكرار الفرجة مرتين بذات الروحية والديناميكية، بل تخضع لظروف تقديمها ومدى تفاعل المشاهد والممارس في ذات الوقت ، يحكهما القدرة التواصلية، وينطبق عليها مقولة هرقليطس ( لا يمشي المرء على النهر نفسه مرتين).
إن ظاهرة ( المشاية) تقوم على اساس التفاعل الاجتماعي، فالتمثلات الجمعية التي هي نتاج اندماج وانصهار العقول الفردية للأفراد الذين هم في ترابط أو تعايش او اشتراك اجتماعي (2) ، وركائز ظاهرة المشاية ، نجدها في الفرجة ، حيث ترتكز الفرجة وفق طروحات الباحثين على مسألتين مهمتين : الأولى ؛ البعد التواصلي ، والثانية من خلال الفعل الفرجوي والممارسة في حد ذاتها، ويؤكد رتشادر بومان بأنه( ليس فقط التواصل الذي يتشكل اجتماعيا ، ولكن المجتمع أيضا متشكل تواصليا ، بما أنه ينتج ويعاد إنتاجه عبر افعال تواصلية) (3)
و يتمثل في ظاهرة “المشاية “الكثير من المضامين الفكرية الروحية والعقائدية والسياسية ، والاهم هو ؛ طقس اجتماعي شكله الناس/ المجتمع ، لأنه نتاج التشاركية والتوعية والتعبئة الاجتماعية ويزداد مريديها وممارسيها من عام إلى آخر ، رغم انها بدأت عن طريق مجموعة اشخاص ، وتعددت الروايات على تاريخ بدأ الظاهرة ، منهم من اعادها الى مهدها الاول من خلال عودة راس الحسين (ع) من الشام إلى العراق، حيث اعاد مريدو الحسين الراس من الشام إلى الجسد في كربلاء ، وتيمنا بهذه الحادثة بدأت ظاهرة ( المشاية) ، وهناك من ربطها بمواليين الحسين من البحارنه و البصريين الذين جاءوا إلى كربلاء لنصرة الحسين واتباعه لكنهم وصلوا متأخرينبعد انتهاء المعركة و وجودوه مقتولا ، لكن المهم بالنسبة لنا هو فعل المشي، وهو فعل قصدي جاءت الاقدام/ مشت، لإنقاذ او مناصرة او ايحاء ذكرى الحسين بن علي ( ع). ولعل اقرب تاريخ ( مؤسس) حديث لهذه الظاهرة وفق مجاهد ابو الهيل هو موكب عزاء طويريج قبل 300 عام. والمهم بأن عمر هذه الظاهرة ذو عمق كبير ومهم وترتبط بمصدر مؤسس لها ، وبدأت مع مجموعة من الناس داخل المجتمع واخذت بالتوسع ، وفي الوقت الحاضر يمارسها الملايين من الناس ومن بلدان عدة يقصدون مدينة كربلاء لاداء طقس المشي ،فظاهرة المشاية ذات تأثير روحي وعقائدي وفكري وسياسي داخل ذهنية وروحية الممارس ، فهي تعبوية تعرف الناس (بثقافتهم)، وكذلك وسيلة اثنوغرافية لإنتاج وعي وثقافة الممارس ، وفي مضمره ينم عن موقف مناهض للسلطات التي رفضته ومنعته بشكل قطعي منذ بدءثمانينيات القرن الماضي ، وحتى زوال النظام عام 2003، وذلك بسبب تأثيراته السياسية في التحريض الجمعي عند” المشاية” ،مما يشكل وعي ثوري للممارسين وللفرجة ذاتها، و ايضا تأصيل الظاهرة كفعل اجتماعي مقدس، والأهم بان كينونة الظاهرة يهدف إلى ترسيخ بعدها الثقافي كطقس اجتماعي عقائدي. و هذا ما تمتاز به الفرجة بخلفيتها المسرحية ايضا ، او العوامل التي يتوجب تواجدها بالفرجة عبر فعلها التواصلي.ويؤكد خالد امين أنه يمكننا ( اعتبار الفرجة أكثر من مجرد محاكاة أو تمجيد لبناءات ثقافية متعالية ومثالية[…] وتبرز الفرجة في الوقت ذاته الذي يتم فيه بناء المجتمع من لدن ممثلين اجتماعيين عن طريق إيحاءات ثقافية مصوغة تحيل على أحداث وتجارب ماضوية بطرق متأثرة)(4)
ونكرر بان هدف المقالة ليس اعتماد ظاهرة ( المشاية) عرضا مسرحيا ، بل ظاهرة درامية فرجوية ، ثقافية،تكتنزها الكثير من العناصر الدرامية وفق ما طرحه الباحثين والنقاد العرب، وليس هذه الظاهرة ” المشاية” فقط جديرة بالدراسة والتنقيب ، بل هناك الكثير غيرها مثل ( الكوامة العشائرية، جلسة الفصل العشائري، مجالس العزاء، العراضة ، المهوال، مراسيم الزواج ) وغيرها ، علينا البحث عن الفرجات الشعبية والدرامية في المجال العمومي والاماكن العامة ، ليس من اجل الريادة او التأصيل، بل من اجل التدوين العلمي والثقافي؛و هنا تكمن اهمية النقد ،الحفر المعرفي والتنظير والاكتشاف ، وليس التعالي والتثاقف على المهمش والمهمل في المجتمع. علينا ان نعيد اكتشاف وتدوين الظواهر ذات البعد التواصلي ، وكذلك الظواهر ذات الممارسات الاجتماعية بين افراد المجتمع.
*مجاهد ابو الهيل : موسم الجنون: المشاية في مراسم الزيارة الاربعينية؛ قراءة سيسيولوجية، دار العالم للطباعة والنشر،بغداد، ط1، عام 2019.
الإحـالات:
(1) : ابو الهيل، ص38
(2): ابو الهيل، ص45،
(3): خالد امين،الهويات الهاربة، ص32.
(4) : امين ، ص20.
د. أحمد شرجي