فضاءات التفاعل بين أنسنة الحركة و التَّشيُؤُ الحركي في المسرح الايمائي مسرحية أنتروبيا Entropy للمؤلف (علي العبادي) / تقديم: د. زينب لوت

توطئة:
الصمت هو حالة من حالات التّعبير عن حركة ثنائية بين الايماء والتّماثلات الفكرية، والانتقال من السكون إلى الحركية المثيرة للتحولات ودرجة قياس هذا التحول جَسَّدَهُ الكاتب في مفهوم (أنتروبيا)، حيثُ تمنح علاقات مباشرة بين مدركات الأشياء والأفكار الّتي تترابط باختلافها وتتآلف بتباعدها المسرح يمنح هذا التَّخوم الجمالي للأفكار وربطها بالفيزياء والهندسة أين تُمارسُ اللغة وقوع الفعل في المفهوم الشيئِي وتنسجُ الاختلاط المتجانس بين اللامعقول والعبث والماهيات التي تثير النظام، وتتفاعل في الاختلاف والتباعد لتخلق عالما انتقالياً متنامياً يربط بينه وبين متلقي يبحث عن بدائل أكثر، فالعقل هو مركز الاشتغال في تحديد المفاهيم وتحقيق وضعيات التلقي، ومن المبدأ الفيزيائي لتلقي هذا المتعاليات النصية في الأشياء ذاتها تتمثل هذه المعادلات الفيزيائية في الأنتروبية الذي:” يتغير يحدث تلقائيا في نظام فيزيائي لا بد وأن يصحبه ازدياد في مقدار «إنتروبيته»” وهو كل تحول في التفاعلات الفيزيائية بين الاشتغال التفاعلي وما يمكن تعينه و مقدار تقدم عملية التحول والتوازن هذه تمثلُ درجة  .
الفضــاء وكينونة الصمت:

  • الفضاء الأول(مركز الاقتراع):

يصور الكاتب (علي العبادي) منظور الرؤية في قاعة اقتراع حيث توجد طبلة تحمل فوقها قنينة حبر مخصصة للاقتراع، ترميز الأشياء وخصوصية توزيعها بالتوازي يمثلُ جانب من المحاكاة بين الأشياء وما تحملُ من معطيات تشخصُ الصمت الذي يحول الواقع الكلامي إلى متوقع ايمائي،  مقابل الفهم المتدرج في اكتمال النص المفترض عند المتلقي( الجمهور) ثم يتحول المنظر إلى المرحاض حيث يرمي الرصاص فتخرج الصراصير وهنا ترتبط صورة الحشرات بالخوف أو الدنس أو الاندثار الإنساني للإنسان ذاته.

  • اللوحة الثانية(طفولة + سبايكر)

“فضاء العرض يشهد تحولات من مكان للعب الطفل في الحديقة إلى ضفة نهر” (1) تحولات العرض تمنح ولوج العناصر المؤثرة في الخشبة بين فضاء اللعب وضفة النهر قدرة على  تمويه جملة من الخطابات بين طفل يمتطي حصانا بلاستيكياً والصفعات التي حددها الكاتب يمينا ثمّ شمالاً وعلى الرأس وهي معارك لطالما جمعت الشرق والغرب والعقل الذي يتخذ صفة الهوية فلا تفكير بلا خريطة ذهنية تحدد الماهيات الحقيقية للإنسان ما يحولنا إلى العبث في المسرح ما يمزج  مفهوم (البيركامو) Albert Camus علاقة الأشياء باللامعقول ومن خلال فلسفته يرى أن شخصية (سيزيف) تثير إلى وضع  الانسان في الوجود حاملٌ للشقاء مثل صخرة سيزيف في الأسوار اللامجدية: ” في أي زاوية من زويا الشارع يمكن للاجدوى أن تصفع أي إنسان على وجهه، وهي في عريها المقلق، وفي ضوءها بدون بريق مضللة” (2)

  • الفضاء الثاني / ضفة النهر:

الحركة في المسرح هي قدرة على محاكاة الفكرة وتقمص أدائها الناطق بدلالة الفعل ومقصديته يتحول الخطاب إلى مرجعيات التأويل الجماعي عند المتلقي(الجمهور) حسب المؤول المرجعي أو دوافعه المشتركة للفهم وتفسير المواقف التي تنتجها مهارات الأداء فاليد لها علاقة بالإنتاج حسب قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ) . وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿٩٥ البقرة﴾
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴿١٩٥ البقرة﴾
علاقة اليد بالأعمال وطبيعة الفعل نحو عملية الجزاء منظور ديني ووجودي، والكاتب يشخص الموسيقى ونزاع القوة في الآخر التي تسلب منه إرادة التحكم بالفعل أو أداء حرية الحركة حيث يكتب:”ترقص اليد على إيقاع الموسيقى المصاحبة للحدث، تحاول اليد أن تسحب يده اليمنى فتجد مقاومة منه ومن ثمّ تحاول أن تسحب يده اليسرى فتجد مقاومة أيضا ، تقوم اليد بمسك كلتا يديه ووضعهما خلف ظهره ، يبدي مقاومة في إفلات يده لكن لم يوفق في ذلك……. ،”(3) . تتكاثف تفاعلات اليد التي تمارس الظهور لضرب الشخص الذي تحول من طفل فوق الحصان البلاستيكي لرجل قرب ضفة النهر لتتابع وهي صراع بين الأيادي محاولة البحث عن حرية الحركة لكننها تتحول “تظهر اليد على هيئة مسدس يطلق منه رصاص يسقط الشخص في النهر ليتحول الماء إلى أحمر.(4) وهي صورة لا تحتاج لمنطق الدلالات والقيم الفكرية فاللون وتحول الماء للحمرة هي صفة دموية لهذا الصراع.

  • اللوحة الثالثة( المتحف):

يتصل المتحف بالذاكرة القومية والحضارية أما التماثيل فهي حاملة للقيم المتوارثة والمتجذرة واختلالها يؤدي بالضرورة لاختلال الحياة الثقافية والفكرية فالنماذج هي صورة حقيقة للهيئة يصف المؤلف (علي العبادي) ذلك بالتمثيل الحركي لمجموعة من الأجساد “فضاء العرض متحف فيه آثار لعدة تماثيل وأيضا شخصان أحدهما واقف والآخر جالس على هيئة تمثال” (5)  تلك الآثار تتشبث بوجودها رغم محاولات التغير فتتدخل قوى التخريب بأدوات أكثر دماراً يحدد صفتها في المطرقة “كل هذه المقاومة تثير غضب اليد المخربة مما يدفعها للقيام بتغيير هيئة يدها على شكل مطرقة تهدم بها الشخص الواقف ومن ثم تفعل فعلتها مع الشخص الجالس” (6). تناوئ حالة الفزع من انهيار الأشياء وهي حالة مسبقة عند الجمهور لكنها تتخذ البناء التصويري في ذهنية المتلقي فالتمثيل هو رؤية لكن التلقي تمثيل مدركات المرئي “تتسم الصورة بكونها تعمل وفق منطقها الخاص المستند للجاذبية و الإغراء و الغواية، تستنجد بالإغواء بدل الحجاج ، وبالجاذبية بدل الإستدلال، وبمطلب الأداء و النجاعة عوض مطلب الحقيقة” (7)

  • اللوحة الرابعة (لعبة المنضدة )

فضاء العرض مكان ما :
الفضاء حامل لمجموعة من اللوحات المتكونة على دافعية التلقي وجاذبية التقاط البدائل الكلامية بموقع الأشياء ومنظور الممثل في تجديد الخطاب بالحركة وانتماء الدلالات لدوالها ومرجعيتها “تبدأ اللوحة بظهور الشخص الأول من المسرح منحني الظهر وهو يفرش الأرض بالكاربت وما أن ينتهي من فرشه يومئ إلى شخص ثان بالدخول ، و الذي لا يظهر منه سوى قدمه .
بعد أن يدخل الشخص الثاني ويخرج من الجهة الأخرى من المسرح….” (8). تنتهي اللوحة بصوت انفجار بعد رمي رمانة وبعد ذلك كتاب وتتعدد الأشياء لتتعلق بمعاني وضعيتها في ذهن المتلقي وهاجس الفهم الجمالي.

  • اللوحة الخامسة (خط أحمر):

الفضاء نصب الحرية.
الحرية والانسان هل يدركها بوعي التحرر أم بممارسة منحى العبث  ” الشخص الأول جالس على قطعة ديكور مربعة في حين يجلس الشخص الثاني بجنبه، كلاهما ماسك بدف الشخص الأول ينقر بالدف فيما الآخر ممتعض منه ، فيقوم بركله بقدمه مما يؤدي إلى سقوطه على الأرض ويستغل ذلك بالنقر هو على الدف “ (9) تنظير المواقف الإنسانية في المسرح يُشكل جدلية دائمة الحركة ذهنياً وتقابلها حركية التشيؤ المعروض على فضاءات متعددة وبذلك يكمنُ التشكيل المقابل أفق الانتظار في منح الجانب المثير أولاً والمغاير ثم المنتظم في طرح العرض للفكرة حتى اكتمالها كرؤية متكاملة أو حتى زاوية رؤية مفتوحة للتأويل بعد العرض.

  • اللوحة السادسة (الدوران في حلقة مفرغة):

فضاء العرض صحراء تجري فيها مطاردة
الاستمرارية تمنح علاقتها بالزمن وهذا الأخير يرفع قدرة التحول ودرجته في التمثيل الاستقرائي لواقع الانسان وتفاعل الأشياء بداخله رغم تجويف الخراب والدمار و التغير تعود مسافة الأمن واستقرار في ديمومة تشبع من وجودها وصارت أحدى عاداته وفطرة تواجده ، في مسرحية ( أنتروبيا) تأثير في الآخر ينتهي بعدم التأثر أو هو يجسدُ التحول والامتزاج يصبحُ حالة تجانس “يسمع صوت طائرة تستعرض في الفضاء ثم يظهر أشخاص وهم يهمون بالفرار منبطحين على الأرض، يخرجون بعدها زحفا من الجهة الأخرى” (10) بعد ذلك تتكرر عملية الزحف وتناثر الأشلاء في  الخشبة بسبب وضعية للقصف وفي الأخير يظهر أشخاص يمشون بطريقة عادية “وتتمثل الحياة في أن ندخل في هذا النسق وهذا الخيط من البشر والأشياء لا في التفكير فيهما” (11) وعملية التفكير يترك درجة قياسها عبر معادلات القيمة وإفرازات التفاعل في عقل المتلقي الذي يشتغلُ مدمجاً ومؤثرات الصورة التي تتشكل داخل الفضاء على مساحة خصبة تتصل بالتفكير.
 
** الإحـالات:
(1): “مسرحية أنتروبيا” ص.71
(2): ألبير كامو ، في أسطورة سيزيف،تر: أنيس زكي حسن، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت،  ص.19
(3):مسرحية أنتروبيا/ص.72
(4): مسرحية أنتروبيا،ص.72
(5):مسرحية أنتروبيا ص.72
(6): مسرحية أنتروبيا ص.13
(7): عبد العالي معزوز، فلسفة الصورة، الصورة بين الفن والتواصل، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2014م،ص.214
(8): مسرحية أنتروبيا ص.73
(9) : مسرحية أنتروبيا، ص.74
(10): مسرحية أنتروبيا/ ص.74
(11): كارلوس ليسكانو، الكاتب والآخر، ترجمة نهى أبو عرقوب، مراجعة: احمد خريس، مشروع كلمة هيئة أبو ظبي للسياحة و الثقافة، ط1  2012،ص.25
 

* الناقدة المسرحية الجزائرية (زينب لوت)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت