مسرحة الايهام وبهرجة المعنى الرقص على وتر الفقدان في مسرحية "مفقود" للمؤلف سامي نصر / تقديم: د. زينب لوت

توطئة:
تجسيد عالم الوقائِع وتوجيهها على الخَشَّبة، هي ارتباط عالم القِيمَة بالأفكار في مسرحية (مفقُود) للمؤلف التونسي (سامي نصر) تحتلُ القضبان زاوية رؤية مركزية في الذاكرة وهو يرسمُ قدرة مكاشفة العمق من خلال فهم السجن الذي تحول معايشته نمطاً وهمياً يحاصر الانسان في قابلية التحرر من ألام تكتظُ منافذها بداخله فالعلاقة التي تجمع الانسان مع السجن قد تكون واقعية أو رمزية تحقق جسدا وروحا تنثالُ في خطابات متعددة، تحصي مجال الحياة ودرجة امتداد الحرية “يبدو المسرح والسجن عالمين غير قابلين للامتزاج، حيث إن السجون هي في الأساس أماكن غرضها العقاب وما يصحبه من ألم، والمسارح هي غرضها الامتاع والترفيه، حيث يمثل الموقعان مساحات محددة تعكسُ وتقوم بإعادة تشكيل ومن المحتمل إعادة تصوير سبل التأقلم  في العالم حيث يقوم كل منهما ببحث العلاقة بين الفرد والجمهور/ المجتمع وبالتالي الدولة” (1) بين المسرح والسجن ترجمة لحس ينبعثُ في أوتار متعالية تحاول النظر لأفق بعيد فتحمل المتلقي (الجمهور) لمسافات متباعدة تنبني بينها من تباعد الديني والقومي والفكري والجمالي.

  • مسرحية مفقود:

مسرحية (مفقود)إخراج الدكتور (مرشد راقي) سنة 2019 في مهرجان المسرح  سلطنة عمان السابع، وهي من تأليف الكاتب التونسي (سامي نصر)” المقيم في السلطنة نصر سامي، وأدى الأدوار فيها أربع شخصيات، شخصية سعيد الذي أداها الممثل رامي بن عمر المشيخي، وشخصية الشيخ الذي قام بتأديتها الممثل محمد جمعان باشعيب، وشخصية حسن وأداها الممثل هشام بن عبدالله اليافعي، وأخيرًا دور المرأة وأدتها الممثلة سارةفهمي.”(https://www.omandaily.om/) تتحدث المسرحية عن قضايا إنسانية عالقة بلا حلول ولكنها تعرضُ كونية البشر في متاهة التلاشي في حضرة البقاء.
2- خصوصية الفعل الحواري وجدلُ الذات:
تساؤلات تتضافر في أصوات متتالية محملة بالقضبان التي تختلف أشكالها في حياة الانسان وبهذا بدأ الكاتب (سامي نصر) مسرحية (مفقود):
“- القضبان في كلّ مكان.
– القضبان هي الإنسان.
– في الظّلمة لا يوجد إلاّ القضبان.
– قضبان لا مرئيّة، لكنّها موجودة، وضاغطة. لا ألمح أشجارا في اللّيل، ولا
ألمح أطيارا، بل قضبان. من يقطع تلك القضبان السّود؟
– القضبان السّود لا تقطع أبدا.
القضبان السّود تكبر في الظلّ، وتنمو.” (2) تترامى عبارات الضغط والسواد الذي يمتثلُ في نفسية متعبة مثقلة تنقلُ جسد الواقع وتتوقعُ مماثلات يدركها (الجمهور) أو يكتنزها في ذاكرته،تحديد التشكيل البصري للتلقي يتمحور في بنية الإيقاع اللغوي تكرار القضبان مثلاً هي تحديد مناخ شعوري يتموقع في رسم المكان كلجوء داخلي للإنسان، مفارقات الزمن تتصل مع بعضها حيث يستمرُ التكتل اللفظي (المتاحة للغة النص والمناسبة لحركة التمثيل والمنقادة نحو حوارية المبنى النفسي و السلوكي نحو المشهد لا يكتفي الكاتب بمشاركة اللغة وضعية الخطاب بل يجعلها تؤنس مهرة الجسد في فتق معاني المعاناة والقلق الوجودي ويمكن تمثيل فكرة التلقي بهذه الأفعال من كتاب(المرئي واللامرئي) “رؤيتي للعالم ذاته تتم انطلاقاً من نقطة معينة من العالم، بل وأكثر من ذلك حركاتي وحركات عيني ترجان العالم مثلما نهز بالإصبع نصبا دون زعزعة صلابته الأساسية، فمع كل رمشة جفن ينزل ستار ويرتفعُ دون أن أفكر آنياً في عزوِ هذا التوازي إلى الأشياء ذاتها” (3) إذا قمنا بعملية تشبيه السِّتار المسرحي بالعين ما يجمع بين (الكاتب/المخرج/الجمهور/الممثل) تتخذ المسألة توازي يحقق توازن مستمر بين الالقاء التمثيلي للنص وما يترسبُ في بصرية المتلقي ويكون الجسد والأشياء وفضاء الحركة منظور التلقي، فهنا لا يختلفُ الفهم بل  درجة التأثير الذي يحققه المشهد، هل يصل للحقيقة الشعورية؟ ، ويمكنه إثارة ردة الفعل المكثف بالتعاطف والتصفيق والمناداة وتكرار الجمل أحيانا، الضحك…الوقوف..، أو ربما الحزن التفاعلي، فالأثر في المسرح محاولة تأثِير وخاصية تأثُر  عند تشغيل فعالية النص ومحاكاتها ومماثلة النص مع الفهم الجمالي للعرض، وصناعة المشهد، واقتدار اللّغة بالتوظيف المركز نحو ما يُمكنُ الانتباه المتجدد ويحولُ الأفكار حول قضايا متعددة بملامح جمالية بين مجموعات خلف حبال تشبه القضبان تكشف منابع حزنها وتصف همومها فيكون السجن المجاز الذي يكتفي خلفه الكلام بالإيجاز المباشر للجمهور.

الرؤية في المسرح تمارسُ مواضع تمحور الذاكرة الإنسانية حول قضاياها العالقة،تستمرُ حالة تغير السجن الوهمي المعتق بأوجاع الغربة والقمع والهجرة، والتفكك بين العلاقات الإنسانية فالشبكة التي تنسجها الخيوط هي “تنسدل في الجهة اليمنى حبال تشبه القضبان الغليظة، وتعدّ الطّاولات بشكل يشبهقضبان السّجون. ويتواصل في الخلف الحراك. تخرج المجموعة الثانية، وتدخلمجموعة ثالثة”(4)  وهكذا يستمر المهارات التمثيلية في تشفير العالم الخارجي والغوص في معاناة ذات الانسان.

  • الخشبة وأوتار المعنى:

يتداخل العزف في وطن يستوطنه الخوف فتصبح الطبلة شكلا يتنافى ووتر الحرية التي يكسره الحتف بمقام الكون الذي يتشكل داخل الانسان، تتحدى المسرحية مسافة الأمان بين المواطن والوطن ومعاني الوطنية ” – وأنا أبيع.
– من يشتري وطن؟ وطن بسرير، وطن بلحاف، وطن بمخدّة!
أنا أشتري –
وأنا أبيع –
من يشتري وطنا؟ وطن بهضابه، وطن بجباله، وطن بمراعيه!
أنا أشتري –
وأنا أبيع. –
وطن مقابل رغيف؟ مقابل حفنة تراب؟ وطن مقابل أحلام؟ وطن بأي شيء، –
من؟ من يشتري؟
أنا أشتري.” (5) يتفتت الوجود البشري بجميع همومه فوق الخشبة وخلف القضبان تعلوا أوتار المعنى بين وطن يبيع ويباع في لفظة ” الخوف تحول أوطانا”(6) استراتيجية الفقد التدريجي للموجودات يتخذ مزاولة الصورة التي تتعلق بالحلم حيث يصبح مفقودا  بضياع تدريجي للإنسانية “يمكننا هكذا أن نرى العالم ولو من وراء زجاج! ونموت في صمت. يمكننا ونحن نموت أن نتابع الأخبار، ونرى الجثث والدم والأطفال فاقد يالطفولة، ونستمتع، ويمكنكم أيها السادة أن تجلسوا وتستمتعوا حسب مزاجكم بلقطات الموت!” (7) تتغير الملامح البشرية والمعاني في أفق استبدالي للوظائف حيث يصبح الوطن موحشاً، ملوثاً، ممزقاً، في تمثيل المرأة /الممثلة(سارة فهمي) مرايا الوطن والانتماء المشوه بالغربة والغرابة، حيث تتلاشى الأحاسيس وسط منفى الذاتية،أثناء الأداء المسرحي تتجهُ المعطيات  في مشاهد صاخبة ولغة بلاغية تعكس قوة التحكم في نسيج الملفوظات (نربي الموج- أكلنا الجوع و القهر-أصبحت بيوتنا متروكة للرياح (8) -ورقها الناعم- ثمرها اليانع (9) هي تنتجُ حنكة لغوية أدائية تعبيرية، والتراكيب الكلامية (الأطفال- العالم- صمت- نموت-نتابع- أخبار….)، تلتقطُ مَوَاطِن الاختلال الاجتماعي للإنسان في سوسيولوجيا مجتمعاته ويزعزعُ بؤر المعنى المثير في ذلك التوتر بين شيخ يبحثُ عن السكينة وشباب تضيعهم الأحلام وتفقدهم هويتها الكامنة، يصبح زمن الانتظار حالة انهيار في حديث حسن مع سعيد: “حسن:(…………)هربنا هربناهربنا، هرمنا ونحن نبحثعن ألم جديد.
– سعيد: هنا لا أحباب لا أصحاب لا أغان لا أحلام لا أشجار لا تراب.معلّقون نحن في الفضاء. مرميون هنا في غربة وعلى الحدود بلا قلب وبلارحمة ودون ذاكرة. كم أفسدتنا تلك المرأة وقتلتنا.” (10) حيث تتمكن المرأة أن تكون مركزا مُهما لبناء الهامش في تحطيم أحلام وتشكيل حزمة من الممارسات التضليلية بين فتنتها وتكسير مواطنتهم التي مثلها  لها فتخرجهم من حياتها بعدما تسلبهم إيجابية الحياة وإرادة العيش.
3- الفقدان التدريجي ايهام القصد:
في المسرح يصبح الوجود إيهامي عبر تنظير المشهد وتعليق الرؤية تشهدُ الأحداث انتقالا بين مساحات مستطيلة الإضاءة تكشفُ حركة الانفلات بين ظهور شخصية المخرج والعمال الأربع ودرجة استيائهم من معاملتهم كالعبيد، فيظهرون حالة الرفض وعدم الانصياع أثناء العمل–”العامل الرّابع: لولا بعض التّقدير للجمهور الجالس، لكسّرت الأضواء..أيّها المخرج، اسمعنا، نحن المجهولون، نحن الحاملون عبء العرض،نحن الذّين جعلنا هذا العرض ممكنا، نحن.. لا أنت. الليلة سنكملهنا، لا العرض بك إذا صمتّ، أو بدونك، نحن عصب الحياة الحقيقيأنت، نحن ملح الأرض. سلطتك مرئيّة، لكن سلطتنا مطلقة، وسارية في هذاالفضاء كلّه. لا نظهر بإرادتنا، ولو شئنا لظهرنا كما نحن الآن” (11) حالة استنباط عالم الإخراج وعوالم التأثيث يجعل الجمهور أقرب لمعطى القوة والضعف والسلطة ومعيار التسلط في تفهم المخرج وهو يجمل خطابا آخر:”- المخرج: أنا هو السّلطة المطلقة، هذا الفضاء كلّه لي وحدي، أنا هوالساري في هذا الفضاء كلّه مثل الضّوء والظلام. من أنتم؟ من أنتم؟ فاتكمالآن بسبب العرض؟ لكن، تذكّروا أنّهالقطار، فاتكم القطار، تتآمرون عليمجرّد عرض، وسوف ينتهي” والمعنى يكتفي بالممثل  حسب نمط بياني للكلام”(مسرحية مفقود،ص.31) في ما يتخذُ المخرج ركنا ويجلس مترقبا عملهم وهو مكدود ويترقب في نفسه، بينما يُكملُ العمال وتسقط الظلمة، حين تطفئ الأضواء حالة سكون يتبع المربع الوسك المضاء.

القصد من المرأة تشيد القضبان التي يراها المتلقي خلف الحبال هذا السجن العبثي الذي يتجاوز الظاهر فهي تسقط (الشيخ- حسن- سعيد) وتصبح بمراحل العرض أكثر بشاعة من مكاشفة حقيقتها وتعري الواقع الذي يلف وجودها”تريد قلب المرأة؟ وهل للمرأة قلب؟ هاهاهاه، هل للذّئبة قلب؟هاهاهاه، هل للصّخرة قلب؟ في الماضي، كان العالم أصغر، وكان الورد، سريرا أبيض، والعشب شبابيك، وكان لتلك المرأة قلب. أمّا الآن فتلك، المرأة ليل، ليل أسود، بمخالب وأنياب. ليل أسود يتحرّك مثل نمور خائفة.
– لعلّ لها قلبا مزيّفا أو ملوّثا” (12) 
أما شخصية سعيد تظهر بشخصية تهتز فيها أسئلة الانسان المغترب مع نفسه والمتعثر والمنهك كما هو الحال مع (حسن) “سعيد: أنا أيضا خارج، مللت صنع الطغاة، سأصلح ما أفسدته تلك المرأة،سأعود لزوجتي وأولادي، وسوف أكتب جميع ما عشته. لعلّ الكتابةتطهّرني.” (13) عملية تطهير الذات تكمن في ازدراء الوضع الذي يفقد صلاحية هويته في مناطق فقدتها الإنسانية لحسها ولأن عالم الفقدان يكسوا عالم الرجوع لانكشاف ذاتي وسط ركام الوطن وتلاشي الأفق، يستوطن السجن قلوبهم وأعماقهم وبذلك يصبح العمى حالة توهم فكري يتمثل في انغلاق السجن نحو دورانهم داخله دون معرفة مسار للتحرر من قضبان العتمة.
 
** الإحـالات:
(1) : (كايوميمكافنشي، المسرح والسجن ، ، تر: ياسمين أحمد فتحي، مراجعة : محمود كامل، المركز القومي للترجمة، القاهرة، مصر،  ط/1، 2018، ص.60)
(2): (مسرحية مفقود،ص.03)
(3): (موريس مرلو-بونتي، المرئي واللامرئي، تر: عبد العزيز عيادي،المنظمة العربية للترجمة، بيروت،لبنان، ط/1، 2008، ص.58)
(4): (مسرحية مفقود ص.04)
(5) : (مسرحية مفقود، ص.09)
(6) :(مسرحية مفقود، ص.04)
(7) : (مسرحية مفقود، ص.07)
(8) : (مسرحية مفقود ص.17)
(9) : (مسرحية مفقود ص.23)
(10) : (مسرحية مفقود.ص.18)
(11)  :(مسرحية مفقود،ص.30)
(12): (مسرحية مفقود، ص.12)
(13) : (مسرحية مفقود ، ص.46) 
 

الباحثة المسرحية الاكاديمية الجزائرية (دكتورة زينب لوت) 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت