إنتاج الدلالة المسرحية…صراع التلقي والعرض/ بقلم: ناصر بن محمد العُمري
تساءل ما كسفيلد يوماً بنشوة -كما أتخيل – فقال : ((أي مجد يحصل عليه الإنسان أعظم من بناء المعرفة والجمال للأجيال؟! ))
في المسرح تحديداً لو تتبعنا بتأمل كيفية صناعة هذه الحالة الجمالية سنجدأنها تمر عبر طريق طويل يبدأ من الوقوف ملياّ عند التلقي المسرحي كقضية مُلحّة في المسرح أكثر من أي نمط إبداعي آخر .
ورغم عدم وجود اهتمام في المسرح بهذه النظرية في حقل التحليل المسرحي، إلا أن علاقة التلقي بالعروض المسرحية جوهرية ومؤثرة في صناعة الحالة، ويعد المتلقي مشاركاً أصيلاً في إنتاج الدلالات المسرحية ،
(بافيس ) و(ياوس ) يجمعان على أن العلاقة تبدأ بأفق التوقع الذي يعد مفتاحاً مهماً فيها كعلاقة تتنوع بين الحميمية والتفاعل بين العمل وبين المتلقي .
وفي المقابل كانت (سوزان بينيت) تتحدث عن تحدي العروض الطليعية والتجريبية لأفق التوقع التقليدي للجمهور ودورها في صناعة عقلية مسرحية ناضجة .
لكن على أرض الواقع غالباً ما ينفر المتلقي من العروض التي تعنيها بينيت -ولا يتقبلها لأنها لا تحقق له شروطه الخاصة كالإضحاك مثلاً أو حتى المتعة الدنيا التي ينتظرها من المسرح أو لمصادمتها مشاعرهم،وتعارضها مع قيمهم الاجتماعية -رغم حقيقة أن مشاهدة المختلف ومالم نتعوده تصنع وعياً جديداً ومختلفاً -.
وهنا تنشأ منطقة شائكة تتعقد فيها العلاقة بين المتلقي والمسرح ويصيب العلاقةً التوتر وربما القطيعة .
ولأن التلقي أمر بالغ الأهمية في العملية الإبداعية وفي غيابه لايمكن الحديث عن عمل فني أو منتج إبداعي وهذا يؤكد الدور الإنتاجي الذي يضطلع به ((الجمهور – الناقد )).
قد يكون مفهوماً وغير مستغرب أن متفرجاً في مسرح متقدم وحضاري يكون على مستوى تأهيلي خاص يستطيع معه إلتقاط آثار عمل المخرجين والكتاب وصورهم الفنية ويحولها إلى استراتيجيات تلقي رفيع المستوى تتماهى مع قصديات الإخراج وصياغاته.
وفي المقابل لا يمكن لمتفرج قريب عهد بالمشاهدة المسرحية أن يرتفع إلى أطروحات المخرجين الفنية الرفيعة ، ومن الطبيعي أن يقوم هذا المتلقي بتأويل ما يشاهده بما تنزع إليه معرفته المحدودة وقد يدمغه بهدف وتفسيرات متواضعة أو قد يقصر تصوره عن فهم مرامي وماهية العرض وينساق وراء غرائز عادات المشاهدة للسطحي من الأعمال فيفضل عمل تهريجي على عمل آخر شديد الرصانة.
هذا الشأن الثقافي يمكن تمييزه على مستوى معارضة بعض العروض المسرحية الفكرية والإنصراف عنها ، بل وصمها بالتهويم والبعد بالمسرح عن المتفرجين وإغراقه- في نظرهم -بفلسفات فكرية هشة ولا طائل من ورائها .
ولا يقتصر الأمرعلى المشاهد العادي بل نلمس أن الحال نفسه قد يتكرربين الناقد وبين المسرحيين ، فالناقد يريد الموضوعية التي يؤمن بها معياراً في حكمه النقدي ،
بينما المخرج والممثل والكاتب والسينوغراف وفني الإضاءة والديكور والماكياج والأزياء يؤثرون تبرير خياراتهم الخاصة ، ويذهبون نحو تسوير تجاربهم الإبداعية بسبب طبيعة عملهم نفسه ،
فهم يختارون ممكناً واحداً من بين عدة ممكنات ، وهذا يحفز النقاد على مناقشة هذا الخيار المسرحي وسبب اختياره ، فينشأ خلاف بين وجهات النظر الخاصة ووجهات النظر النقدية يتشكل معها منطقة (صراع مسرحي) .
وهنا ينبع السؤال العريض : كيف يمكن إدراك القيمة التي يمكن أن ينتجها هذا الصراع على مستوى إنتاج حالة مسرحية حقيقية في عمقها تتكون قدرة عالية على عقلنة النشاط الإنساني بعد أن تتخلص من شوائب الغرور الشخصي نحو آفاق الخلاف المنتج.
وهذا لن يحدث إلا حين تتخلص الممارسات لدى المشتغلين بالحقل الإبداعي من الإرث التقليدي وإيثار منطق خاص في التعاطي مع إلى الفن كجامعة تنضوي تحتها الرؤى المتصارعة وتتحول فيه وجهات النظر المختلفة إلى حالة خلق مهمتها إنتاج الأكثر جمالاً كما يرى -ماكس فايبر –
هذه الحالة تمثل قمة النضج الفكري حين تنجح المجاميع في تحويل الخلاف في الرؤى ووجهات النظر والتأويلات إلى بناءات فكرية تساهم في صنع تمثلات مسرحية متلاحمة ، وحين لا تستهلك هذه المدركات الخلافية نفسها في الجوانب العرضية للظاهرة المسرحية تكون قد رسمت طريقاً للتلقي الفعّال الذي يساهم في خلق عقل مسرحي بناء يحقق المجد الذي أشار إليه ماكسفيلد بصناعة المعرفة والجمال للأجيال المتعاقبة