دراماتيكية الصّراع بين الموت والحياة في مسرحية “عمواس“ لـ (محمّد الكامل بن زيد)/ د. علي دغمان

 
«الحياة تنفلت هاربة، ولا تنتظر ساعة واحدة» فرانشيسكو بتراركا
 
تُجسِّد مسرحية (عمواس) الواقع في زمن الموت، وبالضبط: صورة العالم المتردّية جرّاء جائحة كورونا، مستلهمة التاريخ (عمواس)، والأسطورة (سيزيف) و(الغراب)، برمزية شفافة تثير في الذهن معاني: الموت، والمصير، واللعنة، والمسرحية تتألّف من مشهد واحد تحاول خلاله تسليط الضوء على زوجين محاصرين في شقتهما، يتعرّفان أخبار العالم عبر (النافذة) بالنسبة للزوجة، أو (الكتاب) و (التلفاز) بالنسبة للزوج، هربًا من عالم يسكنه فراغ رهيب، خلى من الناس، والبيوت، والنوافذ، والطيور، والشمس،والسيارات، والظلال،بينما يناقشان في ظلّ هذا الوضع المقيت موضوعات: الحبّ، والحياة، والموت، فيغدو (البيت) رمزًا للحياة، بينما يغدو (الشارع) رمزًا للموت، والمسرحية تتعالق، في هذا المعنى، مع قصص (الديكاميرون) لـ (بوكاتشيو)، وهي مئة قصة تحكي عن فظائع الطاعون المتفشي بإيطاليا عام 1348م، حيث تظهر مدينة فلورانسا رمزًا للموت، فيما يتعيّن ريفها رمزًا للحياة.
عمل المظهر الرمزي للمسرحية على إخراجها، رغم أحادية مشهدها، بصورة متعدّدة اللوحات،طالما أنّه ناظم أحداثها ومواقفها، ومُوسِّع موضوعاتها وقيمها، بقدر ما وسمها بطابع ذهني مُغرق في التخييل، ممّا يُصعِّب أداءها على خشبة المسرح، إذ لا يُمكن الجمع بين المنظرين المتعاكسين في مواجهة الجمهور: منظر الزوجة وهي تطلّ على الشارع من النافذة، ومنظر الزوج وهو يُقلّب التلفاز أو يبحث عن كتاب أو يجلس على الأريكة، إلاّ بإدارة ظهر أحدهما (الزوجة) للآخر (الزوج) و(الجمهور) معًا، أو بحجب (الزوج) وراء (النافذة) المشرفة على (الجمهور)، وهو عرض مرفوض مسرحيًا درءًا للتشويش والمغالطة، مقبول ذهنيًا بما أنّه يسرح بالذهن بعيدًا، فينفتح، بالموازاة مع تنامي حركة المسرحية، على قيم وأبعاد جديدة، ونوعية.
تتوقف فاعلية المسرحية على مدى ربطنا لحزمة رموزها، وترتيبها وفكّ دلالاتها وإشاراتها الخفيّة، بحيث تتطابق مع الفكرة الرئيسة للمسرحية، أو الوعاء الأيديولوجي  المخطّط لسياقات مضمونها، والمُنتِج لصوره ومعانيها، كما أنّه لا يُمكننا تفكيك هذه الرموز إلاّ باستتباع مظاهرها ضمن ثنائيات، نوجزها وفق الترتيب الآتي:
1- البيت/ الشارع، أحدث وباء كورونا رجّة عالمية، أسهمت في خلخلة الأفكار والقيم، ممّا ولّد انقسامًا خطيرًا في وجدان الناس: بين متقدّم نحو المستقبل يثق بصلابة الإنسان في مواجهة قدره (الزوجة)، وبين متقهقرٍ إلى الماضي يتّهم الإنسان بما أوجبه عليه قدره (الزوج)،ذلك أنّه حينما صار العالم قرية صغيرة بفعل العولمة، أصبح في المسرحية وبفعل كورونا بيتًا صغيرًا، استحال بدوره نافذة ترمز للتطلّع إلى الآتي، وكتابًا قديمًا يرمز للانكفاء على الماضي، يتعرّف عبرهما الزوجان على أحوال العالم وأخباره، وهو عالم موزّع بين عتمة سرمدية نجمت إثر الانتشار الحثيث للموت، وما تثيره آثاره من خواء رهيب في الشارع ووجدان الزوجين، إذ خلى من البيوت، والنوافذ، والناس، والأطفال، والطيور، والشمس، والظلّ، وبين توجّس من الموت الآتي بما تثيره حركة الغراب، المحوّم بالشارع قريبًا من نافذة الزوجين، في نفوس الجماهير من فوبيا حلول الموت البشع ببيت أو نافذة أحد السكّان المقبورين في بيوتهم:
«ذات1: (منزعجة) ما لهذا الشارع؟!
ذات2: (نافضًا الغبار عن كتاب أخرجه من مكتبته) ما به؟
ذات1: خالٍ..
ذات2: لا رجل؟!
ذات1: لا امرأة؟!
ذات2: حتّى الأطفال!
ذات1: والقطط والكلاب والشيوخ الذين يلعبون الدومينو في أقصى الشارع
ذات2: (في خبث) والذين يعدّون نوافذ العمارات والبيوت..
ذات1: لا أثر لهم.. حتّى السيارة القديمة لجارنا
ذات2: (يُقلّب الصّفحات دون تفكير).. ما بها.. هل؟
ذات1: على العكس.. غابت جلّ السيارات وبقيت هي
ذات2: (تضحك).. لأنّها الأرض الطيبة»(المسرحية، ص1- 2).
2- الزوج/ الزوجة، كلاهما مظهر لصورة المجتمع في زمن كورونا، حيث يكشف عن تحوّل عميق في أعراف المجتمع، فبدل الاستماع إلى حوار مشوّق يجري بين زوجين كلّه حبّ وسعادة وحياة، نستمع إلى حوار كلّه موت  وتوجّس وحزن، وبعيدًا عن تفضيل أحدهما عن الآخر، يظهر أنّ صورة التدخين ما هي إلاّ مؤشّرات تعكس معاني الاحتراق والجرأة والمبادرة بالنسبة للزوجة، بينما يظهر أنّصورة المكتبة والأريكة والتلفاز ما هي إلاّ مؤشّرات تعكس معاني الجمود والانطواء والحذر بالنسبة للزوج، بحيث يوحي أن بحلول أحدهما في الآخر، بقدر ما يوحيان بتبادل الأدوار بينهما، واختلاط مظهر الرجل بالمرأة والعكس، فهل نترقّب في ما بعد كورنا إلى مجتمع يتحلّى بملامح النسوية باعتبارها رمزًا للمجتمع الجديد القادم من (النافذة)، فيما يتنكّر لملامح الذكورة باعتبارها رمزًا للمجتمع القديم المتواري في (الكتاب)؟!! أو بما أنّ الزوجين شاهدان على العصر يُجسِّدان، بما يُعانيانه من ضيق الحجر والتوجّس من الموت، محنات الناس في زمن كورونا، وما تبعه من ويلات، يُمكن عدُّهما بناءً عليه آخر جنس في العالم، يُعوَّل عليه في إعادة تكوين العالم الجديد، بأفكار ورؤى ومواقف جديدة، تتولّد في زمن ما بعد كورونا، باعتبار اختفاء مظاهر الحياة من الشارع: الناس، الأطفال، البيوت، النوافذ، الطيور، الشمس، الظلّ، ولم يبق غير الغراب رمز الموت وهو يحوم في الأرجاء، بحيث يلتبّس جوّ المسرحية، في هذا المعنى، بطوفان نوح حينما اكتسح الأرض ومحا من عليها إلاّ قلّة قليلة من الناس أعادت إنتاج وتعمير الأرض، بأفكار ورؤى ومواقف جديدة تولدت في زمن ما بعد الطوفان:
«ذات1: أنا أعطي ما لديّ من حنان وجمال وشباب وأنت تأخذ دون أن تفقد شيئًا.. دون أن تعطي.. حتى رجولتك تفقدها حين توضع في النعش.. (تضحك).. تعطيها إلى الدود وليس إليّ..
ذات2: (يبتسم في خبث): أهذه مقاصد معادلتك؟!..
ذات1: أليست الحقيقة؟
ذات2: لا ألومك.. المرأة بطبعها تخشى الأفق البعيد
ذات1: لأنّي أرى شيًا من هنا
ذات2: والحياة في هذا الشارع؟
ذات1: في هذا الشارع.. الحياة مجهولة المعالم.. أشبه بالمتاهة العميقة.. تظلّ تبحث طويلاً بداخلها عن منفذ فلا تقدر.. وأعظم ما فيها أنّك لن تملّ أبدًا وأنت تبحث..»(المسرحية، ص3- 4).
3- الإنسان/ سيزيف، كلاهما هرب الموت، وكلاهما حاول خداعه، إمّا بالحجر الصحّي بالنسبة للإنسان في زمن كورونا، وإمّا بالمكر والخداع بالنسبة للإنسان في زمن الآلهة، وكلاهما فشل في ذلك، فقد عوقب سيزيف بدحرجة الصخرة، بينما عدّد الإنسان ابن زماننا موتته كلّ يوم، غير أنّ هذه الثنائية قد تنفتح على معانٍ عميقة، تتقاطع مع أفكار ألبير كامو عن أسطورة سيزيف، حيث تدور حول موضوعات: الجدوى والحقيقة والعبث والحياة والاغتراب والانتحار والوطن والجنة، ممّا يظهر الموت/ الانتحار بمظهر طوباوي مُشرق إذ تسعى البشرية نحوه بلهفة وحنين، كما يدفع إلى الشكّ في صحّة الأفكار القديمة القائمة على الاعتقاد والتسليم والخضوع، والاندفاع نحو أفكار جديدة تقوم على الرفض والتمرّد والثورة، فإذا كانت (سقطة سيزيف) تُمثّل عند ألبير كامو نعيًا لمجتمع غربي مأزوم، غارق بين إثنية متحجّرة حاولت إرجاعه إلى عصور الظلام، وبين علمانية متغطرسة أوشكت على إبادة جنسه خلال الحربين الكونيتين، فإنّ (عمواس) محمد الكامل يُمثّل نعيًا لإنسانية إنسان لم يقه علمه ولا تقواه في مواجهة كائن مجهري مثل كورونا:
«ذات1: (منتشية) قلتُ لك إنّي أرى ما لا ترى
ذات2: (يحاول أن يرفع صوت التلفاز أكثر وقد شدّته الأخبار) حوت الدلفين وطيور البطّ عادت إلى فينيسيا
ذات1: (كأنّها لم تسمع) أين..؟
ذات2: فينيسيا.. إيطاليا.. الأخبار تؤكّد الخبر
ذات1: وأين كانت؟!
ذات2: كانت تخشى الناس
ذات1: وأين الناس؟!
ذات2: سكنوا منازلهم..
ذات1: مثلنا نحن..
ذات2: مثلنا نحن..
ذات1: والبيتزا؟
ذات2: في هذه لا خوف عليهم.. هم من نسل سيزيف
ذات1: سيزيف؟
ذات2: (يُحدِّثُ نفسه).. هي حالهم منذ أمد بعيد.. قدرهم أن يحملوا الحجارة على أكتافهم من الوادي إلى أعلى الجبل؟»(المسرحية، ص4- 5).
4- الطيور/ الغراب، الطيور بشير خير، فهي الحياة بما أنّها تشي بمعاني البراءة والطهر والشهادة، والغراب نذير سوء، فهو الموت طالما أنّه سرق الظلّ أي الحياة،كما أنّ الغراب هو من سهّل للناس مداراة الموت حينما علّم الإنسان (قابيل) كيفية دفن أخيه الإنسان (هابيل)، بينما الطيور هي المُنبِئة بالفردوس الموعود (حمامة نوح)، و(هدهد) سليمان عليه السلام، و(عنقاء) الغزالي، و(سيمرغ) فريد الدين العطّار، أو النفس المُتقلّبة بين السماء والأرض في (ورقاء) ابن سينا، وهي أيضًا الآتية بعقاب الله على من استحقّه (الطير الأبابيل)، تُشعر هذه الأفكار المتناسلة بمقدار عمق الأزمة النفسية وآثارها الوخيمة على وجدان الجماهير جرّاء وباء كورونا، حيث بدأت بالموت وانتهت بالحجر الصحّي والتباعد الاجتماعي، ممّا باعد بين الإنسان وأخيه الإنسان، ثمّبين الإنسان وذاته، فأصبح مُفرغًا من الحياة مُستكينًا للموت يترقّبه في كلّ حين، لكنّه يرفضه بطبعه المُقبل على الحياة كما فعل الزوج حينما علم بحومان الغراب قريبًا من بيته، ولم تتعمّق أبعاد الأزمة في النفوس إلاّ بانتزاع أهمّ سمة فيها وهي اجتماعيتها، واجتماعيتها تكمن في تواصلها واحتكاكها بالناس، من خلال التواصل والتفاعل والحوار واللمس والعناق والقبل، وهذه كلّها أصبحت من المحرّمات في زمن كورونا:
«ذات1: هذا الطائر.. طائر الغراب لم يسأم التحليق منذ الصباح.. رحلت جميع الطيور ولم يبق إلاّ هو
ذات2: (سقط كالملدوغ).. غراب؟!.. غراب؟!
ذات1: نعم.. غراب!
ذات2: (في هيستيريا) أغلقي النافذة.. أغلقي النافذة
ذات1: مستحيل!
ذات2: (في غضب شديد).. السماء لن تبتسم لنا إن لم تغلقي النافذة..»(المسرحية، ص5).
5- الشمس/ الظل، كلاهما يُجسِّد دوارنية متوتّرة، تحكي تعاقب الليل والنهار المستمرّين، كما يكشف عن جوهر الحياة في صراعها الأبدي مع الموت، إذ هي في الحقيقة مظهر من مظاهره، فالحياة تُفضي إلى موت، والموت ينفتح على حياة، وهكذا في دورانية مستمرّة ما استمرّت الحياة والموت معًا، فلا نتعرّف طعم الحياة أو حظوتها وجوهرها، ما لم نعان ويلات الموت وآثاره، ولكنّها حياة مُفرغة من معانيها طالما انكمشت في (البيت)، ثمّ في عيني زوجة تترقّب الموت من (النافذة)، أو (تلفاز) و(كتاب) يتفحّصهما الزوج بفتور، أين يحوم (الغراب) قرب بيتهما وعلى مرأى من نافذتهما، ثمّ يتحرّك وراء الأرض الطيّبة (السيارة) المتحرّكة بدورها جهة مكان آخر، فينتهي بسرقة الظلّ من الشارع، والعالم، والبيت، وصوت النص المسرحي، حيث انختم بسخرية تعكس مرارتها لامبالاة الذات بمصيرها حينما يغدو قدرًا محتومًا، أو يعكس عدم خشيتها من الموت طالما أنّ الأرض الطيّبة (السيارة) قد تحرّكت نحو مكان آخر أكثر أمنًا وسلامًا، وتقدّمت في الزمن نحو آخر أكثر حيويّة وجمالاً، ممّا يُبشِّر بتخطّي الزوجين لمحنتهما في زمن كورونا، كما تجاوزت (عمواس) محنتها في زمن الطاعون، كما يُفصح عن فكرة أخرى أمعنت المسرحية في إخفائها، وهي فكرة الانبعاث من الموت، أو أسطورة (العنقاء)حينما تنبعث من جديد من رمادها إثر موتها:
«ذات1: (تخرج رأسها من النافذة)انظر.. انظر.. الأرض الطيبة تحركت من مكانها..
ذات2: مستحيل.. ليس في مثل هذا الوقت
ذات1: أجزم..
ذات2: هل تبعها الغراب؟
ذات1: إنّه يُحلِّق فوقها.. إنّهما يبتعدان.. (تتنفس في هدوء).. آن لي أن أكمل سيجارتي دون إزعاج
ذات2: (في قلق) لكنه سيعود..
ذات1: (في استخفاف) ساعتها أكون أنهيتُ سيجارتي وأغلقتُ النافذة.. يا عزيزي..»(المسرحية، ص12).
نجحت المسرحية في جعل المكان معادلاًمتعدّدًا لأمكنة العالم كلّه ببلدانه ومدنه وقراه وناسه وبيوته ونوافذها، وذلك بتعويم المكان إذ يبدو عربيًا كالجزائر مثلاً كما يبدو غريبًا كفينيسيا إيطاليا مثلاً، أو أيّ مكان آخر طالما أنّ المشترك بينهما هو جائحة كورونا، وما تبعها من موت رهيب وتوجس يتآكل النفوس وهي تترّقب مصيرها المشئوم، أفصحت عنه بموضوع عميق بما وفّرته له من رمزية ماتعة، وحركة تناسل متوترة نتجت عن التقاطعات الكبيرة مع موضوعات سابقة تناولت الموضوع نفسه كالقرآن والأسطورة والتاريخ، إلاّ أنّها تموضعت في إطار يصلح للقراءة بدل الأداء لقربها من التخييل وبعدها عن الفرجة، وذلك لعدم ضبطها لبعض التفاصيل المسرحية، من ذلك: تعاكس منظر الزوجين في مواجهة الجمهور، حركات: تعديل النظارة، ونفث السيجارة، والجلوس على الأريكة، والنهوض منها، وتعديل وضعية الجلوس: ثني الرجل على الأخرى، والتلفاز بحثًا عن قنوات الأخبار، والاستماع إلى الخبر الإعلامي، ربّما  لغلبة عنصر السرد على الكاتب، فطبيعته الإبداعية ميالة نحو الرواية والقصة أكثر من المسرح، أو ربّما مردّه لعمق المعنى في ذاته إذ لم تستطع لغته الأدائية الإفصاح عنه، فورد سرديًاتخييليًا يقترب من السيناريو الروائي أكثر من المسرح الأدائي.
 

د. علي دغمان (جامعة الوادي/ الجزائر)

 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت