الحسين الشعبي.. وفي الليلة الظلماء، يفتقد البدر / بوح لعبد المجيد فنيش
قد يتساءل البعض عن دافع هذا البوح، وقد يذهب آخرون إلى استهجان ثقافة البوح جملة وتفصيلا، خاصة في الزمن الرديء الذي سادت فيه ثقافة الأنانية والذاتية المشيطنة لكل ما لا يناسبها.
وأحسم الأمر مبكرا، إذ أقر أن الأصل هو حق الناس في اختيار النظارات التي يرون عبرها الآخرين، كما أن للناس الحق في اختيار لغة وحمولة وسياق التعبير عن بوحهم..
ولأن الذي ينطلق بشرط تعاقدي واضح، فإنه بالضرورة ينتهي نقيا شفافا لا مجال فيه لأيتأويل، من قبيل حمل الخاص على العام، أو الظاهر على الخفي.
هذا بوح وانتهى، جاء في سياق المسعى إلى ترسيخ صلات الأجيال الفنية، عبر استنهاض ذاكرة غنية بمحطات باذخة بكل معاني النبل .
ولأن لكل مقام حديثا، فإن السياق الخاص جدا لهذا البوح، هو تنقيبي في بعض الوثائق التي قد تكون ذات معنى في منظومة توثيق المسرح المغربي، هذا المشروع الكبير الذي لم يسلم هو الآخر – يا حسرتاه- من محاولات تبخيسه والادعاء بكونه فعلا شيطانيا .
ففي هذا الخضم، تستوقفني وثائق تعود إلى مثل هذا الشهر من سنة 1992، وهي عبارة عن تقرير طويل حول “الإمكانات البشرية والبنيوية المتوفرة في المغرب الكفيلة بالمرور بالممارسة المسرحية الهاوية إلى احترافية مهيكلة”.؟؟
وقد صيغ هذا العمل داخل لجينة انبثقت عن المناظرة الوطنية الأولى لمسرح الهواة، التي تمت في الرباط بعد شهر من انعقاد المناظرة الوطنية الأولى للمسرح الاحترافي في الدار البيضاء، أيام 14- 15- 16 ماي 1992.
واللجينة التي تحملت أعباء إعداد مخرجات مسرح الهواة، تكونت من السيد عبد الحكيم بن سينا، رئيس الجامعة الوطنية لمسرح الهواة (في آخر أيام أمجادها)، والسيد مولاي أحمد العراقي رحمه الله (المؤلف الدرامي والشاعر، كممثل للوزارة الوصية في اللجينة)، والعبد الضعيف صاحب هذا البوح، والسيد الحسين الشعبي (المؤلف،الناقد،الصحافي، عضو إدارة ملتقى أكادير المسرحي…..).
والجميل الدال بغنى، هو أن هؤلاء الأربعة كانوا في نفس الوقت في مقدمة المشاركين في مناظرة المسرح الاحترافي، والتي جاءت كمحطة ضمن سلسلة المحطات التي تلت الاستقبال السامي الذي خص به جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، المسرح المغربي عامة، من خلال المسرحيين الذين كانوا قد شاركوا في برنامج تلفزيوني شاءت الأقدار أن يتابعه الملك الراحل، فيبادر إلى ذلك الاستقبال التاريخي، الذي تم ذات ليلة رمضانية ظلت مرجعا إلى يوم الناس هذا .
وكان السيدان عبد الحكيم بن سينا، والحسين الشعبي من بين الذين تشرفوا بحضور ذاك الاستقبال.
واليوم وقد مرت قرابة ثلاثة عقود على تلك اللحظات التي مهدت عمليا لحدوث نقلات نوعية في مأسسة المسرح المغربي، ها أنا ذا أمام الوثائق التي تؤرخها، وكلما تم إمعان النظر فيها، إلاوتراءت حقيقة جميلة مفادها أن الأخ الحسين الشعبي، منذ ذاك الأمد- وقبله في سياقات أخرى-، وهو يشكل رقما أساسيا في معادلة المقاربات النظرية والإبداعية والنقدية والإجرائية الهيكلية، التي سعت إلى تمكين المسرح المغربي من أسباب الارتقاء وتجاوز مطبات الهشاشة في أعمق معانيها.
لقد تساءلت وأنا أعيد قراء تلك الوثائق، عن طبيعة بناء هذا الرجل الذي كان يقهر كل مبررات الغياب عن أي واجهة من الواجهات المتعددة في حربالمسرح المغربي: أ يكون أولا يكون؟؟؟؟؟
فما كانت الجغرافيا بقساوتها، تحول دون ركوبه الصعاب مابين أكادير، وآي مدينة في الامتداد المغربي لحضور ندوة وتأطير ورشة، وإجراء مواكبات صحافية، أو تقديم عرض مسرحي كمشخص، وهو الممثل القدير الذي حرمته نضاليته من نجومية مستحقة، لأنه فضل الاشتغال خارج بقع ضوء الخشبات.
كلما تأملت الحسين الشعبي الذي كان، والذي هو كائن الآن، إلا وأيقنت أننا حقا في زمن الرجال الذين عاهدوا الله وما بدلوا تبديلا.
إنه الرجل الذي حمل روحه فوق كفه، وذهب منتصب القامة يجوب خرائط الفعل الحقيقي بروح وطنية متشبعة بثوابت الأمة، منفتحة على الآخر، ومحاورة للثقافات الإنسانية بكل ندية.
لن أنسى ولو أنفق البعض من أجل غسل ذاكرتي خزائن قارون، أن الرجل فرط في كل ما يمكن أن يشده إلى مهمة إدارية مغرية، لكنها قد تسلبه عشقه الفطري للمسرح كمجال لكل أشكال الفعل الراقي المنخرط في أسئلة المجتمع الحارقة التي تقف على التخوم ما بين التخلف ونقيضه.
لقد علمتني الأيام التي عشتها متفرقة عل مدار أربعين سنة، في صحبة الشعبي داخل الوطن وخارجه، وفي كل مقامات البحبوحة أو السعي إلى الكفاف، – علمتني- أن من الرجال في هذا الوطن العزيز من يصدق فيهم قول الشاعر أبي فراس الحمداني:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
وهاهي الأيام وحدها تنفض عنها غبار السنوات العجاف، فتهبنا لحظات ماتعة من بوح أحبة في حق حبيب.
وكم هو طيب محمود، الاحتفاء بالأحبة من غير ضوضاء أو جلبة، فالبوح بخصال المحبوب مدخل في اتجاه أسمى مراتب الصفاء.
وكم الحاجة اليوم ماسة ملحة إلى إعلاء صرح الوفاء، ضدا على بؤس مسالك التبخيس والشيطنة قبحهما الله ما ارتفعت وما سدلت ستارات مسارح الدنيا من ذات يوم إلى ذات آخر.
هو بوح وقد انطلق، ولكل الآتي من الأيام كلام يناسب المقام..
سلا يوم الأربعاء 5 غشت 2020
الأستاذ الباحث والإعلامي والمسرحي المبدع (عبد المجيد فنيش)