مضمرات النص بين ״التحديد״و״المسخ״/ عقيل هاشم

“مبغى”..

نصوص مسرحية للكاتب (علي العبادي)

 شهد الخطاب المسرحي في نهاية القرن العشرين، تحديثا لجملة من المفاهيم الثابتة، التي احتلت الصدارة دهرا من الزمن، مرجحة كفة القراءة العمودية المتسائلة، المتعمقة في أعماق النص، عن القراءة الأفقية المعيارية التي تحتكم إلى خارج النص. لذا كانت القراءة التحليلية الصرفة، تحمل في طياتها مخاطر التقنية التي لا ترى في النص سوى مساحة للتدريب على آليات التحليل النصية والسردية. وهكذا تحولت القراءة إلى مرتع لخطاب جاهز ملصق للأثر، يحضر الأول في تشكله وتبلوره المسبق ويغيب الثاني، كون أن بلوغ درجة من الاستقراء لنص ما مرحلة الفهم الكامل، هو من باب المستحيل، فهناك دوما قدر من الضياع ونسبة لا متناهية من الغموض والملتوي، تختلج صدر الإبداع وتحيله إلى صومعة تتمنع.
واما هوية النص، تتشكل من خلال تأويل للوجود في اللغة وعن طريق اللغة، وفي نفس المستوى، توجد منطقة اللاتحديد، وهو شرط أساسي للتواصل، يتجلى في المضمرات والتضمينات ومظاهر الاستهزاء و وكل ما هو إيحائي، مشكلين المعنى المزدوج أو المتعدد المفتوح. ويعدّ الانجاز المسرحي أي الكلام تحقيقا لمبادئ الخطاب الضمني، فالعملية قائمة على مبدأ البوح والتعبير داخل نسق يحدد المسار العام للأحداث، تتورط فيه الشخصيات من خلال ما يقولون، كما يتورطون من خلال ما يفعلون. وكما يتحول الخطاب إلى المستوى الضمني حينما تتوسع الفجوة التي تجمع بين ״التحديد״و״المسخ״ في المشترك بين إطار غياب السياق المرسل والمتلقي.
نصوص الكاتب علي العبادي”مبغى”اتسمت سرد نصوصها بروح الشعرية والفلسفية المتشربة في حوارات الشخصيات حيث كانت نصوصه تعيش بامكنة غير مألوف وتعايشت مع الاحداث وكانت لغة المحاورة باذخة الجمال بالرغم من التهكم الذي في النصوص ميزة ابداعية غاية في الابداع. اذن الكاتب شكل بإبداعه نقطة تحول في المشهد الحداثي المسرحي والذي يجعلك تفكر بان الشباب لهم القدرة على التواصل وبوعي. نقف عند البناء الذي امتهنه الكاتب كعامل بناء ملم بأدواته وهو يتعامل مع مفاصل المسرحية بجزئياتها الفنية والتقنية المتمثلة بالشخصية والحوار والحدث وقد اجاد بذلك فكانت نصوص مبهرة دراميا . استطاع كاتبها ان يمسك بزمام الامور من خلال بث كم هائل من الاسئلة .

المفهوم الفكري وقدرة الكاتب في جعل نصوصه المسرحية تضج بإشكاليات وقضايا اشكالية الوجود، من خلال المعنى الفلسفي لمعنى ومدلول (مبغى)، ويكشف علاقة هذا المعنى الفوقي (الفضاء) القذر بشخصيات سوية عانت مرارة سلطة هذا المكون وكيف احدثت علاقة لاتصالح معه..بمعنى آخر فالصورة التجسيدية موظفة على نحو تفصيلي يكثف بعمق أبعاد التجربة الإنسانية واتجاهات عمقها نحو المأساة حتى أن النصوص المسرحية بكافة عناصرها موظفة في سياق إنساني موحد مثل الحمام والمبغى ..و الذي يمثل بدلالته الرمزية (المهمل ) ليعطي ضرورة الفكاك منه، فالخلاص هنا يكمن في كشف ورصد أبعاد المأساة البشرية .. وفقاً لدور وماهية المسرح .. فهو لا يعالج المأساة بل يعكس هذه الماساة على المتلقي لاحداث تفاعلا “فعل مقاومة”وفقا لمدلولات المسرح من وجهة معرفية فلسفية قائمة على نقد الحياة/السلطة بانواعها فقد رسم الكاتب شخصياته وبث فيها هذا الاحتجاج وراح يختبئ داخل هذا القبح الهائل المتواجد في النفس البشرية .
عن هذا الواقع الإنساني برمته الكاتب جسّد ببراعة محاولات احداث تناصا مع النصوص وهكذا كل زاوية من زوايا هذه النصوص هناك صور مجازية تفتعل احداثا احدثت تناصا اما مع التراث الديني او الاساطير او المشاهد الغرائبية. اما بالنسبة لكتابة النص وحركية الصورة فهي بمثابة جوهر اللعبة الدرامية التي تتجلى في النص المسرحي ، فالكاتب يعتمد منطق السخرية والتهكم والغرائبية في معالجة حوارات شخصياته وهذا واضح من خلال رصد تاثير ذلك على الحالة النفسية للشخصيات وانفعالاتها في عملية التحاور ..
اقول نصوص هذه المجموعة تحمل طاقات شعورية على قدر هائل من المسؤولية التي توغل في متاهة العبارات، وقد أدرك الكاتب بقدرته الفنية على اختراق الحالة من بداية نصوصه بأن الانفعال في الحوارات هو إدراك للنقص وتذمرغريزياً محضاً. ومن هنا فالكاتب يعتمد على مسألة “المشهدية” في رصد ماهية الاحتجاج حيث يجرد الكاتب شخصياته من مستوى العفوية والابتذال إلى مستوى إبداعي أكثر شكاً وإحساسا بعمق الحالة، صور مفعمة بالإدهاش والتشويق وغرض ذلك إخبارنا بمغزى الألم الموجود في جنبات الحوار الاحتجاجي المتوتر ومن خلال الامكنة المهملة هي دلالة على عظمة المأساة إذاً المكان يعني الذاكرة التي تحمل كل أعباء الإنسان .
هذا الاسلوب التهكمي والزائف يضفي الكاتب على شخصياته طابع السخرية والتي تختزل قيم النقص والشعور بالحاجة وهي بوابة لسبر أغوار الشخصيات المستلبة، وهذه اللغة الساخرة التي دون بها الكاتب نصوصه ان كانت الامكنة او اللغة هي بمثابة العنصر الأكثر حركية في رصد حالة إنسانية مليئة بالعجز والقنوط واليأس.. فهذه الفضاءات المكانية هي الأنسب لصرخة الاحتجاج، وتعكس ظلمة النفس الإنسانية التي يراودها هاجس الانقلاب على الذات الذي يشعل هاجس الهذيان المستمر . فنلاحظ أن الشخصيات لها طابع العجز وعدم القدرة على التغير فالعالم هنا في النصوص المسرحية محكوم بحتمية لا يستطيع أحد الانفلات منها.. شخوص سيطر على عقلها الشكوك والهواجس .. بلا شك فهو ليس صراعا نسويا في نص حمام النسوان نتج عن معنى ماهية الماء وعلاقة ذلك بدرجات الحرارة ، بل يتضمن عدة معانٍ والتي تبعث على القلق الفلسفي علاقة الماء واشكالية الطهر الفلسفي ..
نصه الاخر ساعي البريد يحاول الكاتب اسقاطه على مابعد التحول الذي حصل من غزو امريكي وضياع الدول بالخراب السياسي وتعبه خراب ثقافي واجتماعي، والاستياء والاحتجاج لهذا الانسان والتوجه الى الحوار مع الاله .. جاء مجسداً على خلفية اسطورية دينية وحوار الانبياء مع الاله … وقد جسد لنا الكاتب أبعاد هذه التعاسة وذروتها برؤية الافكار..النص مونودراما “ساعي البريد ” الشخص المستلب والباحث عن الخلاص والذي يجسد نقده لما يدركه واحتجاجه على واقعه.
اما النص الاخير فقد بما معناه تحريق ودلالالته واضحة في الحريق العظيم الذي يلف العلم من عولمه وخراب وقد احث الكاتب تناصا مع حركة الامام الحسين ع في مجابهة الظلم رغم قلة ناصرية وانتصر تاريخيا ..في صراعه مع الشمر كمعادل موضوعي للعدل الالهي ..كل ذلك جسد الكاتب “علي العبادي” مما يجعل هذه النصوص في إطار فلسفي تحرري بالرغم من السوداوية النفسيية والمليئة بحالات الإرهاق والاستلاب والتي شكلت معمارية البناء الدرامي ،ومن خلال طرح علامات تساؤل الكاتب ذاته وقد جسدت رغبته الشعور بالخلاص من مسببات الألم .. و الانعتاق من قيود (المجتمع/السلطة بانواعها) ومن خلال تمجيد الألم إذاً فالكاتب يربط الواقع الإنساني بعمومياته، أبعاده وأفكاره لأجل صياغة انموذج مسرحي حي وجديد ، نص يخلص المسرح الراهن من إرهاصاته ونمطيته كي يذهب إلى العمق في سبر أغوار الإنسان ونقلها الى المسرح واحياء ذاتية التفاعل والتحاور مع المتلقي المفعم بماهية التاثر والتاثير.. ختاما.. مبغى مجموعة نصوص مسرحية تتلخص في مجموعة من الناس تعيش البؤس والياس والتشرذم بأخص معانيها مع عدم القدرة على الخلاص في التغيير وعزلة الإنسان وانفصامه عن واقعه والعالم من حوله وشعوره بالإحباط والضياع والعبثية صراع تعيشه الشخصيات لتوثيق الحياة (التاريخ..)

عقيل هاشم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت