الموسيقى في مسرح فاجنر …فن الافتراضات والتصورات/ الدكتور قيس عودة قاسم الكناني

ان العلاقة بين الموسيقى والدراما لم تشهد أي تطور يذكر إلا بعد المحاولات التي قام بها مجموعه من الفنانين العالميين أمثال (فاجنر) في استحضار طريقة أداء الدراما اليونانية المصحوبة بالموسيقى في عصر النهضة والمتمثل في فن (الأوبرا) الذي طوره (فاجنر) في العصر الرومانتيكي من خلال نظريته (الفن الشامل) واستثماره جميع الفنون (التشكيلية والأدبية والموسيقية والغناء والرقص…) حيث مهد بذلك في إرساء دعائم تصوير الموسيقى للدراما التي طورها المخرجون في المسرح الحديث فيما بعد، لذا فقد تأثر (فاجنر) في مراحل مختلفة من حياته بفلاسفة مختلفين كانت أفكارهم تستهويه او تكون مرجعا لتطبيقاته، لذلك “عُرف بتقلب أفكاره الفلسفية بين الثورة العنيفة على التقاليد والاستسلام الديني الصامت، فبينما كان تأثره بأفكار فويرباخ ملائماً لثورته على التقاليد، جاء تعلقه بأفكار شوبنهور التشاؤمية في مرحلة مما يسود الإنسانية من مبادئ فاسدة”([1]) كما اتفق مع أفكار الفيلسوف المثالي الألماني- فردريك نيتشه، مما حقق بذلك أفكار موسيقية جديدة ذات بعدا جماليا وفلسفيا، حيث ان المضمون الجمالي للموسيقية في الدراما تحدد من خلال قدرته على نقل الأفكار بتكامل وفاعلية فنية عالية، فتناسق الصوت الموسيقي مع الكلمة وكل متطلبات العرض الأخرى اتاح الفرصة لإخضاع الموسيقى لأدق تفاصيل أفكاره المسرحية المنبثقة من النص والمضمون الدرامي تاركاً بذلك أسلوب الغناء والموسيقى في الأوبرا التي كانت تشكل عنصرا هاماً في نجاح الأوبرا التقليدية، بالرغم من انه كان متأثراً بفن الأوبرا إلا إنهُ وجد استسهالاً في صياغة وتصوير الحان الأوبرا بحيث يمكن استبدال كلمات الألحان بكلمات أخرى من دون ان تؤثر في السياق الدرامي للأحداث وليس لها هدف سوى الترويح عن النفس، لذلك أدرك(فاجنر) نوع الألم الذي يحس بهِ المستمعون لانها جاءت مؤلفاتها بعيدة عن السياق الدرامي وخالية من أي صورة تفسر معنى العرض الدرامي، وبالتالي تستهلك طاقة المستمع بوصفها موسيقى لا علاقة لها بالصورة الدرامية التي ترافق المشهد الدرامي لان قدراتهم مشتتة .
يرى(فاجنر) ان تعبير الموسيقى عام الى ابعد الحدود ولا يمكن تحديد معانيها بوضوح يدركه العقل او الذهن عن وعي بوصفها فن الافتراضات والتصورات المجردة كونها موسيقى آلية صرفة “لأنها من الممكن ان تتسع لعدد كبير من التفسيرات والتأويلات فهي تتعلق بالمجال الباطني للنفس الإنسانية” ([2]) إلا إن هذه التفسيرات والتأويلات الموسيقية في المسرح دائما ما ترتبط بصورة العرض وفلسفته مما تسهل عملية إدراك الصورة الموسيقية التي ترافق الحدث الدرامي.
لقد استطاع (فاجنر) ان يبتكر في موسيقاه التصويرية صيغ وصور فنية جديدة اسماها (الدراما المتكاملة) فهو مؤلف الدراما الموسيقية التي أخذت من بعد (فاجنر) اهتمام الكثير من أتباع الموسيقى التصويرية، لذلك فقد” أدرك( فاجنر) من خلال خبرته الموسيقية ان الدراما أقوى السبل لتحقيق الحوار مع الموسيقى، كما انها أقوى السبل التي يستطيع من خلالها ان ينفذ داخل أعماق المشاعر الإنسانية الحساسة داخل مستمعيه، لذلك سميت موسيقاه بالموسيقى ذات المنهج “([3]) او ما تسمى في بعض الأحيان بالموسيقى الوصفية وهي التي تكتب للآلات الموسيقية والتي تروي قصة او تستدعي أفكار وصور أدبية او تستحضر مشاهد تصويرية، وقد اكتسب هذا اللون من التأليف الموسيقي اهمية كبيرة في القرن التاسع عشر حينما اصبح الموسيقيين أكثر وعياً بالربط بين الموسيقى التي يؤلفونها وبين ما وصل اليه العالم المحيط بهم، لذلك فقد ساعدهم هذا الى جعل المفهوم الموسيقي يقترب من الشعر والرسم، فالموسيقى ذات البرنامج هي عمل موسيقى” اوركسترالي متعددة الحركات يصور أحداثاً متخيلة او شخصيات من عالم الأدب”([4])
وبهذا وجد (فاجنر)، ان الموسيقى المجردة لا تكفي وحدها لإعطاء صورة جمالية كاملة فهي تستطيع التعبير عن هاجس ينذر بشر او صورة لذكريات ماضية نستشعر بها بالأماكن التي تربطنا بها ذكريات الماضي، لذلك فقد طلب من الموسيقى ان تقوم بتصوير الأحداث والتعليق المستمر عليها وتترجم ما يعجز عنه النص وحركات الممثل وإشاراته في توصيل هدف وفكرة العرض، لذلك أكد (فاجنر)  في بعض من أعماله المسرحية على ان يخلق صورا موسيقية مثيرة كركض الخيل مثلا في احد الأعمال المسرحية، وثمة الحان تشير الى أشياء قد تعجز الموسيقى عن التعبير عنها، فليس في مقدور الموسيقى مثلا ان تعبر عن الخاتم او عن الذهب، ومع ذلك فلكل منها لحن دال يشيع في النص الموسيقي أي بمعنى إن الموسيقى تصور هذه الأشياء وتتكرر معها في لحن دال يتبناها في كل ظهور وبالتالي تبقى مقترنة فيه وتنمح المتلقي صورة درامية يفهمها من خلال ظهور الموسيقى التي تقترن بذات الشيء، على هذا النحو فقد كان يصور الإيقاع القوي بدخول العمالقة، والألحان الغريبة التي يؤلفها كانت تصور البيئة التي تمارس فيها التعاويذ والسحر أي بمعنى يصور المكان المملوء بالشعوذة والسحر، لان موسيقى (فاجنر) تفضل إعطاء ” كل شيء في صورة مكتملة ولا تقتنع بمجرد  الإشارة إلى ما يجري في النفس بل تحاول إعطاءه بياناً كاملاً لذلك” ([5]) أي ان الموسيقى هنا تكون ذات دلالات نفسية وفكرية فهي تمتزج مع الكلمة لتصنع بالنهاية صورة افتراضية لواقع الحدث الدرامي وتعبر عن مكان الحدث وبيئته.
ويرى (فاجنر) بان الموسيقى هي جزء لا يتجزأ  من العرض المسرحي الا أنها لابد ان تكون تابعة له لا ان يكون العرض تابع إلى الموسيقى أي بمعنى ان تكون الموسيقى حاملة لأفكار ورؤى الإخراج المسرحي العام ولا تعمل بمعزل عنها وبالتالي ان يكون تصوير الموسيقى نابع من صورة وموضوع وفكرة العرض المسرحي لتسهم في مساندة الحوار ودعم وبناء عناصر العرض لاسيما حوار الشخصيات الدرامية، لان ” طبيعة الموسيقى الحقيقية هي مساندة الشعر، وذلك بالتمكين لقوة التعبير عن العواطف، ومضاعفة الاهتمام بالمواقف المختلفة دون الحد من سير الدراما او توقفها بوسائل خارجة عن النص لاستمالة الأذان للإصغاء او الاعتماد على تحريك الشجو بحلاوة الصوت وحدة “([6]) لذلك احدث (فاجنر) أثراً كبيراً في تصوير الموسيقى للمسرح وكذلك طالب بتوحيد الفنون بوصفه إن الفن الحقيقي هو حاصل بجمع العناصر الثلاثة (الشعر، الموسيقى، الرقص) التي تــــقابل ملــكات الإنسان (العقل، القلب، الجسد، الحركة)، ولا يمكن في اعتقاده لأي عنصر(بمفرده) منها ان يخلق عملا فنيا حقيقياً. وهذا المخطط يوضح تقابل الفنون لملكات الإنسان بالحياة .

                        

لقد حدد (فاجنر) العلاقة التكميلية بين الموسيقى والشعر من خلال مثلثيه على اساس “ان الموسيقى تتغلغل وتنفذ مباشرةً الى العاطفة والشعور في حين يعبر الشعر عن المشاعر الداخلية للإنسان من خلال الكلمات التي تثير معاني عقلية تستطيع تحديد المعنى المطلوب ونوع العاطفة، وهكذا تكمل الموسيقى الشعر اذ تنفذ له مباشرة الى النفس الإنسانية وتصور مفرداته ومعانيه، كما يعمل الشعر من جهته على تكملة الموسيقى اذ ان الكلمات بما تثيره من معانٍ عقلية تأخذ طريقها الى النفس بتوسط الذهن والعقل، وان هذه الكلمات عندما ترافق الموسيقى تكون الصورة الموسيقية أوضح وأسرع فالكلمات والمعاني التي ترافق الموسيقى عي ذات الافتراض الموجب الذي يمنح الموسيقى إمكانية بلورة دورها الدرامي في تصوير المشاهد المسرحية كونها فن الافتراض السالب الذي عندما يقترن بالحوار المسرحي تتحول الى افتراض جمالي موجب لأنها أصبحت تصور الكلمة المحسوسة والحركة المجسدة على خشبة المسرح فلم تعد  نغمات حسية فقط بل تحولت الى مكون تصويري لمشاهد مجسدة بصرية واقعية مرئية.
لذا فان الحوار المسرحي المصحوب بالموسيقى يُعد أداة توضيح وتفسير للصورة الموسيقية بل ربما يكون العكس قد تكون الموسيقى هي المكمل للمعاني التي يبثها العرض المسرحي عن طريق الحوار او عن طريق الخطاب العام للعرض لغويا كان او جسديا او فكريا ، وهنا يكون الحوار بموقف الافتراض الموجب كونه عياني ومسموع للمتلقي ويحمل خطابا ذات معنى واضح ومباشر، اما الموسيقى فتكون بموقف الافتراض السالب الذي يتبع الافتراض الموجب ويكمله، اي بمعنى ان الكلمة تسهم في إيصال الصورة الموسيقية بوضوح ومباشرة، لذلك فان (فاجنر) حقق الانسجام التام في الدراما الموسيقية من خلال (العمل الفني الشامل) الذي نادى به كأسلوب فني يجمع كافة العناصر الفنية (التكوين –التأليف-الإنتاج) ويوحدها في نسق فني واحد متكافئ من حيث الارتقاء بالفن لخلق إنسان مثالي.
لذلك فان الإنسان هو مادة المعالجة الفنية الخاصة ووساطتها، فجمع بين عناصر الدراما والكورال والباليه والمناظر والديكور والإضاءة واستخدم في أعماله (اللحن الدال*)، بشكل رئيسي، ورمز لكل شخصية بلحن دال او بعدد من الألحان الدالة، وكانت هذه الألحان تتداخل وتتكرر في حوار وصراع درامي. ([7]) 
وتبلور مفهوم فن المستقبل عندما أصبح العصر الرومانتيكي يتجه الى شمولية الفنون ورفض التقاليد الموسيقية السابقة له، وإيجاد حالة من التلاحق الفني بين عمق التراجيديا الإغريقية القديمة وفن المستقبل وعودة التوازن ووضوح الشكل من خلال ” امتزاج جمال القدم المرمري الرصين بدماء الخيال الرومانتيكي الحارة، كما أصبح للتخيلات الرومانتيكية قوام بفضل أتباعها الفني الذي كان متبعا في المأساة اليونانية “([8])، وتجلت الفكرة الفاجنرية في الدراما الى الرجوع الى النظرة البدائية كأولى المظاهر الدرامية الطقسية اشتملت على الرقص والموسيقى والتمثيل كوسيلة تصوير جمالية عبّر الإنسان من خلالها الى تطلعاته في الوجود والفكر فيما بعد ، ونتج من خلال ذلك تضافر العناصر الموسيقية مع إمكانيات الدراما بناء جمالي متناغم يحكمه التناسق والتوازن لتصبح الدراما الموسيقية عند (فاجنر) منظومة شاملة تكون فيها الموسيقى ذات علاقة بالقصة او الدراما، وأن الكلمات المغناة (الملحنة) على علاقة بالكلمات الممثلة .
لذلك فقد استفاد (فاجنر) كونه فناناً وثائراً رومانسياً أكثر من كونه مفكرا او فيلسوفا، وتكمن ثوريته في تمثيله سيادة القوة في الفن، التي اراد بها غزو العالم، ولتحقيق إرادته هذه اكتشف (فاجنر) ان الدراما هي السبيل لذلك، على ان يتحقق هذا اعتمادا على الحوار مع الموسيقى وليس الحوار القائم على الكلمات وحدها. ([9]) كما ان (فاجنر) احدث تأثيرا كبيرا في المسرح والموسيقى إضافة الى الكثير من التقنيات المسرحية الحديثة التي استمدت وجودها من نظرياته، وفي ضوء ما تقدم فان (فاجنر) مزج الصوت الإنساني وصوت الآلات الموسيقية في عمل فني متكامل أدى الى رفع شأن الصوت الإنساني والدراما معاً، حيث سار على غرار نهجه الكثيرين أمثال ابيا وكريك وغيرهم.
 
الإحـــالات:
[1])) علي عبدالله ،المسرح الموسيقي في العراق،(بغداد:دار الؤون الثقافية العامة،1995)ص23،24
[2])) عبد الغفور النعمة، عندما تتكلم الموسيقى، ط1، (دمشق: تموز طباعة .نشر. توزيع،2011)ص17
[3])) هال محجوب خضر، جماليات الموسيقى عبر العصور، مصدر سابق،ص271
[4])) محمد حنانا ، مجلة الحياة الموسيقية ، العدد(52)مجلة فصلية تصدرها وزارة الثقافة السورية، مقدمة العدد،2009،ص6
[5])) هال محجوب خضر، جماليات الموسيقى عبر العصور، مصدر سابق،ص267
[6])) د. ثروت عكاشة , مولع حذر بفاجنر, دراسة نقدية , ( القاهرة: الهئية المصرية العامة للكتاب ,1993),ص67
*(اللحن الدال): هو جملة موسيقية تشير الى فكرة او الى شخصية من الشخوص المسرحية او شيء من الاشياء ويخلق الاستماع الى هذا اللحن تداعيا من الافكار التي تسهم في تدعيم وحدة الدراما. ماكس بنشار، ، تمهيد للفن الموسيقي. ترجمة : محمد رشاد بدران.ط1.القاهرة : دار نهضة مصر للطبع والنشر . مشروع النشر المشترك مع نيويورك: مؤسسة فرانلكين للطباعة والنشر ، 1973 ، ص139.
[7])) ينظر: فرنسيس فرجسون، فكرة المسرح، ترجمة:جلال العشري، دار النهضة العربية، (القاهرة:1964)،ص159.
[8])) هوجو لايختنريت ، ، الموسيقى والحضارة، ترجمة : حسين فوزي(القاهرة:الهيئة المصرية العامة للكتاب،1998)، ص391
[9])) ينظر: الفرد اتيشتين ،الموسيقى في العصر الرومانتيكي، ترجمة : احمد حمدي محمود ،مراجعة : حسين فوزي ( القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1973) ، ص355

قيس الكناني

 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت