عناصر التأليف الموسيقي في العرض المسرحي (الجزء الأول : ( الإيقاع )) / الدكتور قيس عودة قاسم الكناني
تسعى عناصر العرض المسرحي إلى إنتاج علاقات وروابط فنية تتحول إلى نموذج اشمل يتلون ويعبر ويدعم كل ما يمكن من عناصر العرض المسرحي، وبما أن الموسيقى هي إحدى العناصر المهمة في العرض المسرحي، لها لغتها الخاصة، ولهذه اللغة عناصر لا تؤدي كل منها عملها على حدة، وإنما تتضافر وتتشابك سوياً في إخراج المؤلفات الموسيقية، وأن هذه العناصر تعمل في ترابطها معاً، ولا يمكن لأحد هذه العناصر أن يؤدي عمله على حدة، وعناصر الموسيقى هي الإيقاع، واللحن والصورة فيكون هناك تناسق وتنظيم وانسجام بين عناصر الموسيقى وصورة العرض لأن هذه العناصر تنضم وتتجمع وتمتزج في داخل القالب الموسيقي الذي يقوم المؤلف بصياغته حتى يصبح العمل هادفاً ومتكاملا ومن ثم فأن هذه العناصر تنصاع إلى فكرة تنسجم مع متطلبات وموضوع العرض المسرحي بشكل متوافق وداعم لصور وأشكال الصراع الدرامي، وأن هذه الفكرة تنطلق من خيال المؤلف الموسيقي على وفق الحالة الشعورية المطلوبة في العرض المسرحي وما يفرزه من مؤشرات تحرك مخيلة المؤلف الموسيقي نحو إيجاد موسيقى ملائمة ومناسبة ومتطابقة لرؤية المخرج ومنسجمة مع الجو العام للعرض حتى تكون صادقة ومعبرة وحقيقية في انسجامها مع المكونات الأخرى للعرض المسرحي، أو تكون ملائمة لما يتطلبه دور الممثل المسرحي الذي يعد المتلقي الأول للموسيقى كونه المحرك الأساسي في العرض ليقوم ببناء أداءه بشكل واضح ومدروس لمقتضيات وضرورة العرض المسرحي منطلقا من أصوات الموسيقى التي تنبعث مع تحركاته وتنقلاته وحواراته لتكون داعمة بشكل ايجابي لصورة العرض والأداء ككل، لأن المؤلف الموسيقي ضمن المجموعة المسرحية بكونه يساعد المخرج في دعم الصورة الإيقاعية للعرض مما يتيح إمكان المحاكاة الحقيقية للموسيقى الداخلية لذلك على الموسيقى أن ترتبط بجميع عناصر وأدوات العرض المسرحي وأن تكون داعمة لأفكار وأهداف وصور العرض المسرحي وأن يأخذ المؤلف الموسيقي دوره في تماسك وانسجام عناصر الموسيقى مع عناصر العرض وذلك حسب ما يقتضيه العرض وما تتطلبه الرؤية الإخراجية بمنظورها الفلسفي والفني والإبداعي والجمالي لتكون صورة صادقة ومعبرة ومهمة في تفسير حالات المشهد المسرحي لتصل به إلى التشوق والجاذبية عند المتلقين, لأن الموسيقى تشكل جزءاً هاماً وأكيداً وفاعلاً تماماً في أهميتها كالممثل والإضاءة والديكور, وغيرها من المستلزمات الهامة في تكوين العرض المسرحي وعليه أن ترتبط الموسيقى مع جميع الأدوات المعروفة للعرض المسرحي من أجل التكامل الفني في العرض المسرحي.
لذلك سنستعرض العناصر الموسيقية المهمة في العرض المسرحي وهي (الإيقاع، اللحن، الشكل أو اللون الموسيقي) أما ملاءمتها للعرض المسرحي فأن الأمر يتطلب إلى صياغة كل عنصر من هذه العناصر إلى قراءة تحليلية لفكرة العرض المسرحي. لذلك سأحاول ان استعرض هذه العناصر الأساسية في موسيقى العرض المسرحي والتي هي المادة الأساسية للمؤلف الموسيقي الذي من الممكن ان يتعامل مع كل عنصر على انه العنصر المهم والرئيسي في عمله الموسيقي والتصويري, وبما ان هذا الموضوع طويل وذو مساحة واسعة حيث يتطلب ان نجزئ الموضوع إلى ثلاث أجزاء أساسية حيث سنبدأ أولا بعنصر الإيقاع لأنه الأساس في الموسيقى بصورة عامة .
الجز الأول : ( الإيقاع )
الإيقاع هو عنصر أساسي وجوهري في الموسيقى وفي كافة الفنون السمعية والبصرية ويشكل جانباً مهماً في إنضاج وتقويم العمل الفني .
وتشتق كلمة الإيقاع (rhythm) في اللغات الأوربية من لفظ (rhuthmos) اليونانية، وهو بدورهِ مشتق من الفعل (rhein) بمعنى ينساب أو يتدفق، وفي اللغات العربية لفظ الإيقاع مشتقة من (التوقع) وهو نوع من المشية السريعة، إذ يقال وقع الرجل أي مشى مسرعا، ومن المعروف أن مشية الإنسان من أهم الأصول الحيوية التي يرجع إليها الإيقاع .
ويلعب الإيقاع دوراً مهماً في الموسيقى وفي جميع الفنون الأخرى فالإيقاع هو الوجه الخاص بحركة الموسيقى المتعاقبة خلال الزمان، أي أنه النظام الوزني للأنغام في حركتها المتتالية وهو عنصر التنسيق والتنظيم المطرد في الموسيقى، وهو صورة لنظام تكرره ضربه (نقرة)، أو ضربات أو نبضات متتالية مرتبة موسيقياً بشكل صاعد أو نازل .
وبذلك يتابع الإيقاع تنظيم القيم الزمنية من خلال تناوب الأنغام الموسيقية ليرسم شكل القطعة الموسيقية بانسجام وتناسق، وبدون التلون الإيقاعي لا يبلغ المؤلف الموسيقي في مقطوعتهِ اجتذاب المتلقين وتشويقهم لأن الإيقاع يرسم ملامح العمل الفني فهو دائم الحركة مما يعطيه صفة الاختلاف والتلوين، وبذلك فهو ينظم ويدعم الخطوط والأشكال والحركات والانفعالات التي يخلقها اللحن، وهو النظام والتناسب في المكان والزمان والذي يكون نتيجة لذلك أفضل تنظيم للخطوط والأشكال والحركات والأصوات، لذلك يعد الإيقاع من العناصر الأساسية والمهمة للعمل الفني، فكلما تناسق الإيقاع وأنسجم مع مضمون اللحن أصبح أكثر فهماً وأوضح صورة.
فالإيقاع يساعد في تنظيم وترتيب قيم الأشكال والحركات والانطباعات السمعية والبصرية وفي بناء وتصاعد الصراع الدرامي ليصل إلى بنية الإبداع فهو عنصر مهم من عناصر الإبداع المؤثر في درامية البناء الفني ويُعد عنصر بناء وتعبير، عنصر تلوين وتواصل ومن دون الإيقاع لا يبلغ المبدع خلاصات رؤاه التي تعتمد على ما في الإيقاع من إمكانات على التلوين والتنويع الأدائي والتصعيد والتطوير، لذلك يجب التركيز بدقة في تدوين وتفعيل وتحديد الإيقاع في العمل الفني ليكون سندا وعونا في تحقيق الجمالية المشهدية وإبراز عنصر التشويق والجاذبية للمتلقين .
وبذلك أصبح الإيقاع يتحدد من خلال تكرار الفعل أو الصوت الذي يتخللها فواصل زمنية أو مساحات صمت متساوية أو مختلفة أو ما تسمى بالحركة والسكون ويتنوع الإيقاع بتنوع وحداته ونسبة الأزمنة ونسبة المساحة التي تفصل أو تقطع مفرداته وهذه الأزمنة والمفردات تتغير وفقاً لتغير المحفزات وردود الأفعال وقوة تأثيرها داخل الوحدة الإيقاعية، ويمكن للإيقاع أن يتنوع وفق عوامل السرعة والبطء أو الرتابة والتغير أو القوة والضعف.
أما دور الإيقاع الموسيقي في العرض المسرحي فهو ذو مكانة جوهرية ومهمة في تماسك عناصر العرض فـالإيقاع هو الدعامة التي تقوم عليها وحدة الفنون، من موسيقى ورقص ودراما، لذلك غالباً ما يحدد المؤلف الموسيقي شكل الإيقاع في مقطوعتهِ الموسيقية التي ترافق العرض المسرحي بنفس الصورة التي تنسجها مخيلة المخرج المسرحي عبر منظور الرؤية الإخراجية لهُ، وأن يصمم الجمل الموسيقية بإيقاع يبرر من وجود القطعة الموسيقية التي ترافق أداء الممثلين وتمنح القوة والثبات لانفعالاتهم وصراعاتهم لا سيما الصراعات المتصاعدة والمتأججة والمتفجرة، وأن يكون ضمن رؤية وشكل الصراع الدرامي في العرض المسرحي لأن عبر الإيقاع تتألف إمكانيات التأليف الموسيقي الأخرى لتقدم لنا صورة صادقة وأمينة ومن ثم تكون إمكانية التأليف الموسيقي في العرض المسرحي منتظمة ومنسجمة وداعمة لعناصر البناء الفني والدرامي لا سيما الأفعال الدرامية المتعاكسة والمتضاربة والمتصادمة والتي تثير الجاذبية والتشويق، لأن في الدرامة يعد الإيقاع عنصراً مهماً من عناصر البناء الفني، وعلى المؤلف الموسيقي الذي يختار الشكل الإيقاعي للمقطوعة الموسيقية أن يعالج نقاط الرتابة والملل في حوار وحركات وتنقلات الممثلين وتشكيلاتهم الصورية ليساعد في إبراز عنصر التشويق والجاذبية من خلال ما يقدمه الإيقاع من دعم حقيقي للصراع الدرامي في منظومة العرض المسرحي من حيث تنوعه وتعدد أشكاله، فـكلما كان الإيقاع متنوعاً كان أكثر جذباً وإمتاعاً وكلما ابتعد من تكرار الأزمنة والأشكال الإيقاعية غير الضرورية، تحقق بذلك عنصر الجاذبية والتشويق في العرض المسرحي وهو جوهر وهدف العرض المسرحي الذي تتضافر جهود عناصر وتقنيات العرض للوصول إليه.
إن للإيقاع الموسيقي في المسرح دور مهم وحيوي حيث يسهم في تصعيد وتأزم الصراع الدرامي عبر الضربات المتكرر والمتصاعدة التي تساير وترافق الأفعال المتعارضة والمتعاكسة، لأنها تدعم وجودها وتنظم حركاته فالحركة السريعة قد تدل على الارتباك أو على الحيوية ومن ثم هذا الارتباك، وهذه الحيوية هي جزء من عناصر الصراع ومعطياته، فالمؤلف الموسيقي يأخذ بنظر الاعتبار هذه المعطيات ليرسم من خلالها موضوع وشكل الصراع وبالتالي يحدد الشكل الإيقاعي الذي يساعد في تصاعد وتأزم ذلك الصراع وأن يربط إيقاع الموسيقى بإيقاعات العرض السمعية والبصرية والحركية لأنها جوانب رئيسية في العمل المسرحي، لذلك يقول: (ستانسلافسكي) الإيقاع هو اقرب صديق وخادم أمين للمشاعر لأنه غالباً ما يظهر كمنبه مباشر للذاكرة الانفعالية ولتعايشنا الداخلي ويستطيع الإيقاع من خلال تراكيبه الفنية أن يثير المشاعر والأحاسيس وأن يكون أداة في تركيب وتنظيم الحركات والأفعال وبناء وتصاعد الصراع الدرامي، لذلك يظهر الإيقاع في المسرح في عدة أشكال:
- الإيقاع السمعي :
الإيقاع السمعي في العرض يتمثل في كلام الممثلين، وفترات الصمت، والموسيقى والمؤثرات لذا على المؤلف الموسيقي أن يجد المكان المناسب لتوظيف الإيقاع الموسيقي في المكان والزمان المناسبين، وهنا تلعب إمكانية الممثل في كيفية التعامل مع الإيقاع الموسيقي ليكون أداة قوة وتمهيد لانفعالاته ورغباته الشخصية، وهذا على حد قول (مايرخولد) أن الأداء دون مصاحبة الموسيقى أسهل . فعندما تأتي الموسيقى ينبغي علينا أن نجد لها مكاناً.
ومن الذي سيجد لها هذا المكان؟ الممثل، وعلية فأن الممثل هو الذي يحدد مكان الموسيقى وكيف يتعامل مع إيقاعها، وكيف يفسح لها مجالاً دون أن تربك أدائهِ، وهنا تلعب قدرة وإمكانية الممثل في التعامل مع الإيقاع الموسيقي من خلال تركيزه وانتباهه في سماعة الايقاع الموسيقي المصاحب وفي الكيفية التي يجعل من هذا الإيقاع أداة تحقق له دعما وقوة في إبراز وتصاعد الصراع وفي تنظيم حركاته وتنقلاته الداخلية والخارجية، وبالتالي كيفية انسجام شكل الإيقاع مع شكل الصراع الدرامي ليحقق بذلك الانسجام والتوافق بين أدائه وصورة المشهد والإيقاع الموسيقي في العرض.
- الإيقاع البَصري:
أما الإيقاع البَصري في المسرح فأنه يقوم على صراع بين الكتل والأشكال المتنافرة إلا أن هذا التنافر يُظهر نمطاً من الانسجام والتناسق والتلاحم والتوازن من حيث القوانين الأساسية في الحياة وهي المعرفة والأداء، والبناء الإيقاعي ويُكون نفسه بشكل متناسق ومنسجم ليكون هنالك توازن متناسق بين عناصره وهذا ناتج من تكرار لوحدات مرئية تفصل بينها مساحات غير مرئية وقد تكون متحركة وبهذا تأخذ هذه التحركات والتنقلات بعداً زمانياً، لذلك على المؤلف الموسيقي أن يراعي هذه التنقلات وأن يحسب التوقيت المستغرق لها من خلال عنصر السرعة والبطء لأن الانتقال من الهدوء إلى التوتر يتطلب انتقاله في إيقاع الموسيقى المصاحبة للأداء وهذه الإنتقالة تحتاج إلى زمن محسوب في المساحات والأزمنة وإلا فأنها لا تبرر وجودها في العرض المسرحي وبالتالي لا تكون قد دعمت الصراع الدرامي بشكل يخدم الحدث المسرحي لأن اختلاف درجة السرعة والبطء تأتي وفقاً للعوامل الطبيعية والعوامل النفسية الداخلية أو المؤثرات الخارجية – الحافز والمحفز لذلك فأننا لا نحس بضربات القلب إلا عندما تتغير سرعته نتيجة للتعب أو التوتر.
- الإيقاع الحركي
أما الإيقاع الحركي فأنه يتمثل بحركة الممثلين وتنقلاتهم لذا فأن هذه الحركات والتنقلات تأخذ شكلاً إيقاعياً وزمناً محسوباً ومحسوساً من قبل مؤلف الموسيقى الذي يعمل على تحديد زمن حركة الممثل كلاً على حدة وكل موقف على حدة وأن يتنوع في السرعة على وفق الدورة الدرامية حيث يتسارع مع تصاعد الصراع الدرامي والعكس بالعكس ويقوم بعملية تنظيم الحركة المرئية وانسجامها وتناسقها وتتابعها في سياق المشهد الدرامي لتكون ذات أبعاد جماليه وفكرية وإبداعية .
ويأخذ المؤلف الموسيقي على عاتقهِ عملية ابتكار وصياغة وتنظيم الإيقاعات الموسيقية في العرض المسرحي، التي تكون ذات حرية تامة في إستلهام المؤلفات الموسيقية والأزمنة الإيقاعية المناسبة في تصاعد وتصادم وتأزم الصراع الدرامي بغية الوصول إلى الجاذبية والتشويق في العرض المسرحي .
وتلعب حرية المؤلف في استخدام العناصر المكونة لموسيقى العروض المسرحية دوراً مهماً في التعبير عن أحاسيسه ومشاعره التي ينقلها بدوره إلى المتلقي ليجعلها أكثر إدهاشاً وتشويقاً من خلال توافقها مع أشكال الصراع الدرامي وأنواعه، والمقصود بحرية المؤلف هي الكيفية التي ينطلق منها المؤلف الموسيقي عبر المهارات العلمية، والإمكانيات النغمية، والإيقاعية، للوصول إلى أبلغ تعبير ممكن للعرض المسرحي وتصبح عناصر الموسيقى بدورها قادرة على إثارة الشعور الجمالي والإبداعي الذي يفي بحاجات وفكرة العرض المسرحي، أي أن هذه الحرية الخاصة بالمؤلف هي حرية تنطلق من مفهوم الرؤيا الإخراجية وأسلوب العرض ومدرسة النص واتجاهاته ومذاهبه المسرحية ليحدد بذلك شكل الإيقاع المناسب للعرض وأن تكون ذات علاقة في تصاعد الفعل المسرحي وصراعه .
لذلك إن المؤلف الموسيقي يستخدم عناصر الموسيقى بشكل يناسب وينسجم مع معطيات العرض المسرحي وأن يكون داعماَ للصراع الدرامي بشكل علمي رصين ومدروس وضمن ضوابط علمية وأساسيات منهجية وأكاديمية.
قيس الكناني