المسرح الجهوي سكيكدة / بقلم د. أحسن تليلاني

إن للمــسرح في منطقــة ســكيكدة حفريــات و جــذورا قديمــة جــدا تتجــلى في المــسرح الرومــاني  الــذي يعــود تشــييده إلى القــرن الثــاني الميــلادي، كـمـا تتجســد في هذا المــسرح البلــدي الــذي تــم افتتاحــه ســنة 1932، غير أن هــذا المــسرح قــد ظــل بعيــدا عــن الجزائريـيـن لأنــه مــسرح ميتروبــوليكان مخصــصا للأوروبيـيـن فقــط ، و تجمــع الآراء عــلى أن نشــأة المــسرح العــربي في منطقــة ســكيكدة قــد بــدأت منــذ الأربعينــات مــن القــرن المــاضي ســواء مــن خــلال تلــك الزيــارات التــي كانــت تقــوم بهــا بعــض الفــرق العربيــة كفرقــة يوســف وهبــي الشــهيرة، و كــذا الفــرق الجزائريــة كفرقــة محــي الديــن باشــتارزي التــي نظمــت زيــارة إلى ســكيكدة و القــل عــام 1937، أو تلــك النشــاطات المسرحيــة لجمعيــة العلــاء المســلمين الجزائريـيـن ، و مدارســها الحــرة المنتشــرة في كل مــكان، و منهــا مدرســة الإرشــاد بمدينــة ســكيكدة ، هــذه الأخـيـرة كانــت منبعــا و مرتعــا لفــن المــسرح ، كـمـا أن بعــض الشــهادات تؤكــد وجــود نشــاطات مسرحيــة تقــوم بهــا مختلــف أفــواج الكشــافة الإســلامية بمنطقــة ســكيكدة .
 إن مختلــف الشــهادات و الآراء تذهــب في اتجــاه أن المــسرح في ســكيكدة قد انتعش بعد الاســتقلال خاصة ، و انتشر في مختلــف المــدارس التعليميــة مســتفيدا مــن خــبرات المعلمــين الأجانــب الذيــن لم يبخلــوا بدعمهم للنشــاط الثقافي و المسرحــي للتلاميــذ و الطــلاب ، و هــو مــا أدى إلى تأســيس عــدة فــرق مسرحيــة خاصــة في مرحلــة الســبعينيات مــن القــرن المــاضي عــلى رأســها فرقــة الطليعــة التــي اســتطاعت تقديــم مــسرح اجتماعــي و ســياسي هــادف. و تجــدر الإشــارة إلى أن الــتراث الشــعبي بمنطقــة ســكيكدة غنــي بالظواهــر المسرحيــة مثــل شــكل القصــاد و المــداح في الأســواق الشــعبية ، على غرار تلك العروض الفرجوية التي كان يقدمها الثنــائي الأعمــى المشــهور في ناحيــة تمالــوس باسم ( قدوربوالركايب و عيسى) إضافــة إلى الظواهــر الفرجويــة في مختلــف المناســبات عــلى غــرار خيــال الظــل و القراقــوز و بوغنجــة و غيرهــا مــن الأشــكال مــا قبــل المسرحيــة و التــي لم تتطــور للأســف لتصبــح أشــكالا مسرحيــة مكتملــة فنيــا.
أما بالنسبة لبناية مسرح سكيكدة (المسرح الجهوي حاليا) فقد تم تشييدها في عهد بول كيطولي الحاكم العام لمدينة سكيكدة بين سنتي 1912 و 1932، مــع مراعــاة توقــف الأشــغال بــها خلال الحــرب العالميــة الأولى بــن ســنتي 1914 و 1918، و قــد تكفــل المهنــدس المعــماري شــارل مونطــالان بتصميــم مخططها ، هــذا المهنــدس القدير الــذي ارتبط اســمه بعدة منشــآت معماريــة في المدينــة كمحطــة القطــار و البنــك المركــزي و غيرهــا ، و قــد تــم تأســيس هــذا المعلــم المسرحي الجميــل عــلى أنقــاض معبــد فنينــوس (آلهــة الحــب و الجــال عنــد الرومــان ) و كان هــذا المعلــم مــن الخشــب في بدايته الأولى سنة 1854، ثم ليحل محله المسرح الحالي الــذي يربــع عــلى  مســاحة 1000 م 2 مع الحديقة، و الفناء بطاقــة اســتيعاب 600 متفرج . و قد تم افتتاح مسرح سكيكدة رسميا بتاريخ 19 جانفي 1932 بحضور كاردينال قسنطينة، و ذلــك في غمــرة الاحتفــالات المخلــدة لذكــرى مــرور أكــر مــن مائة ســنة على احتــلال الجزائر.              
                                 
و الحقيقــة فــإن نشــاطات المــسرح منــذ افتتاحــه لم تتوقــف عــن تنظيــم العــروض المسرحيــة و الحفــلات الفنيــة باســتضافة الفــرق مــن مختلــف المناطــق  إلى غايــة فترة ما بعد الاســتقلال ، حيث اســتأنفت النشــاطات  بوتيرة قوية خاصة بعد أن تم ترميم بناية المسرح سنة 1979، و تم تســميته المسرح البلدي ســكيكدة بوصفه مؤسســة ثقافية.
و إذا جاز لنا الوصف الخارجي لمسرح سكيكدة، سنقول بأن الواجهــة الشرقـــية للمبنــى تعد  تحفــة معماريــة متميــزة، فـــقد صممــت وفـــق الطـــراز الإيطــالي القديــم ، و زينــت بالزخــارف ذات الأســلوب البــاروكي ، و قــد عمــد المهنــدس إلى إبــراز منتصــف الواجهــة بشــكل نصــف دائــري ، و هــو مــا أنتــج لنــا في الداخــل بهــوا بيضاويــا ، و قــد احتــوى المنتصــف عــلى المداخــل الرئيســية الثلاثــة ذات العقــد النصــف دائــري ، و التــي تتوســط القواعــد الأربعــة الضخمــة لأعمــدة الواجهــة.  و الــذي يتأمــل المبنــى يلاحــظ أن كل عقــد مــن عقــود المداخــل يعلــوه نحــت بــارز يمثــل وجهــا لشــخصية دراميــة تحيــط بــه زخــارف نباتيــة كــما تعلــو العقــود أيضــا شرفــات صغـيـرة نصــف دائريــة لنوافــذ مســتطيلة ، أمــا بالنســبة للواجهتيــن الشمــالية والجنوبيــة فقــد احتوتــا عــلى نفــس المواضيــع الزخرفيــة و العنــاصر المعماريــة الموجــودة بالواجهــة الشرقيــة مــع فــارق في  التعديــل الــذي طــرأ عــلى مســتوى الشرفــات التــي تحولــت إلى شرفــة ممتــدة لتشــمل النوافــذ الثــلاث بالإضافــة إلى الشــكل المســطح للواجهتــين و احتوائهــا عــلى مخــارج للنجــدة عــلى مســتوى الطابــق الأرضي ،في حـيـن تنتهــي الواجهتــان في الأعــلى بجــدار مائــل قليــلا نحــو الداخــل زيــن بألــواح ذات لــون أســود تتخللــه  فتحــات دائريــة تعطــي الانطبــاع بــأن المبنــى في أعــلاه يمثــل ســفينة.                                                                                                                          
أما بالنسبة للوصف الداخلي، فإن المداخــل الرئيســية  الثلاثــة تفضي إلى بهو بيضاوي الشــكل يوجد عــلى جانبه الأيمن مكتب اســتقبال و من الجانب الأيــسر كافيتريــا لا تــزال تحتفــظ بأثاثهــا الأصـلـي ، ثــم درج صغــير يليــه فــراغ تتخللــه أربعــة أعمــدة متناظــرة ، أمــا الأبــواب الخشــبية المؤديــة إلى قاعــة العــروض فقــد توزعــت مــع طــول جــدار القاعــة ، و الــذي يشــبه عقــدا عــلى هيئــة حــذوة الحصــان ، وهــو مــا أنتــج لنــا رواقيــن عــن اليمــن و اليســار ينتهــي كل واحــد منهــا بــدرج ضيــق صاعــد إلى الطابــق الأول  ،كـمـا يمكــن الوصــول إلى الطابــق نفســه انطلاقــا مــن بهــو المدخــل الرئيــسي بواســطة درج ملتــف حديــدي عليــه ترصيعــات زخرفيــة رائعــة، و يصــل إلى بهــو بيضــاوي زينــت جدرانــه بزخــارف باروكيــة منفــذة بواســطة النحــت البــارز عــلى لوحــات خشــبية مدمجــة بالحائــط وقــد خصــص هــذا البهــو كقاعة لاســتقبال الضيــوف ، كــما ينطلــق أيضا مــن البهــو الأرضي درج مقابــل ملتــف يصــل مبــاشرة إلى الطابــق العلــوي .

و تعــد قاعــة المــسرح  واحــدة مــن أفخــم المرافــق المتبقيــة مــن العهــد الاســتعماري فقــد ازدانــت بالكثيــر مــن الزخــارف الباروكيــة العملاقــة المطليــة بلــون ذهبــي بــراق ، و هــو مــا أضفــى جــلالا ملكيــا عــلىالقاعــة التــي تتكــون مــن مقاعــد أرضيــة و شرفــة و مــدرج علــوي بالإضافــة إلى الخشــبة و واجهتهــا  ،كــما تعلــو القاعــة قبــة أقيمــت فــوق أربعــة مــن أزواج أعمــدة أيونيــة ،وقــد زيــن منتصــف القبــة  بصفيحــة مــن الزجــاج الملــون ذي الزخــارف الهندســية، كـمـا  توشــحت بأفاريــز وموضوعــات زخرفيــة رائعــة . و يبلــغ طــول الخشــبة 15 م و عرضها 10 م ، و قد عرفت عدة عمليات ترميم بداية من سنة 1979 تحــت إشراف الســلطات المحليــة، غيــر أنهــا لا تــزال تحتفــظ – تقريبــا – بجميــع التجهيــزات و الإكسســوارات الأصليــة عــلى غــرار الســتائر ، و كذلــك اللوحــات العملاقــة ذات المشــاهد المتميــزة التــي تســتعمل للديكــور ، كـمـا توجــد خلــف الخشــبة غرفــة مســتطيلة الشــكل لراحــة الفنانــين واســترخائهم أثنــاء تأديتهــم لأدوارهــم المسرحيــة  ، بالإضافــة إلى وجــود مجموعــة مــن الســلالم التــي تنطلــق مــن أطــراف الخشــبة  باتجــاه مختلــف أجزاء المــسرح المتبقيــة مــن مثــل غــرف الملابــس والورشــات ، و باتجــاه الطوابــق العلويــة الخاصــة بــالإدارة و الســكن .
إن مــسرح ســكيكدة يمثل قيمــة تاريخيــة كبــيرة، و يعكــس براعــة هندســية و معماريــة متميــزة ، و لذلــك كان لزامــا تصنيفــه بهــدف حمايتــه و تثمينــه ، وتكمــن أهميــة هــذه التحفــة المعماريــة التي تعد مــن أعرق المبــاني في مدينة ســكيكدة في عطائــه الثقــافي الغزيــر و ذلــك منذ افتتاحه في عهد الاســتعمار مــرورا بفترة الاســتقلال و إلى غاية يومنا هــذا ، كـمـا أنــه يحتــل موقعــا اســراتيجيا أبــدع في تصميمــه المهنــدس المعــماري شــارل مونطــالان ، أمــا مــن حيــث القيمــة العمرانيــة لهــذا المعلــم فهي تتمثــل في روعة الطابع المعـمـاري المتميز به ، و الذي يجعلــه تحفة فنية رائعة.
لقد كان مــسرح ســكيكدة و منذ الاستقلال تحــت وصايــة البلديــة ، و هــذا قبــل أن يتــم التنــازل عنــه لفائــدة وزارة الثقافــة وفقــا لمداولــة التنــازل الصــادرة عــن المجلــس الشــعبي البلــدي لبلديــة ســكيكدة ، بموجب المرســوم التنفيدي رقم141-07 المؤرخ في 19 ماي 2007 تم تنصيب المسرح الجهوي سكيكدة كمؤسسة ثقافية، و باشر مهامه بصفة رسمية بتاريخ 01 أوت 2009، حيث شــهد حــراكا ثقافيا كبيرا من خــلال الانتاجات المسرحيــة ( كبــار– صغــار) وكــذا تنظيــم وبرمجــة تظاهــرات ثقافيــة و فنيــة وهــذا قصد تعريــف المواطــن بالتراث الثقافي الوطني و العالمي،  و ذلــك بتســطير برنامــج ثقــافي ثري متكامل خلال كل ســنة يســتجيب لدفتر الشروط ، و الذي يلزم المسارح الجهوية أداء الخدمة العمومية عملا بالمرسوم التنفيذي رقم 18-07 المؤرخ في 16 جانفي 2007 ، و لقــد حــرص المــسرح الجهــوي بســكيكدة عــلى انتهــاج سياســة تســيير تقــوم عــلى أســاس القوانيــن و التشريعــات الخاصــة بنظــام العمــل و كل المرجعيــات و المراســيم ذات الصلــة و الســهر عــلى انتهــاج اســراتيجية تعتمــد عــلى التســيير الحســن و الرشــيد ، و كــذا عــلى الاســتقرار و الحفــاظ على الجــو الاجتماعي داخــل المؤسســة و الاعتماد على الكفــاءات في التســيير و التوجيــه و تقديــم الاستشــارات اللازمــة حرصــا منــه على الاســتثمار في القيمــة المضافة فيما يخــص المــوارد البشريــة  بغيــة النهــوض و الســمو بالعمــل الثقــافي الفنــي و الإنتــاج المسرحــي إلى درجــة العالميــة .

• عن كتاب (بانوراما المسرح في سكيكدة) تأليف د. أحسن تليلاني، منشورات دار الوطن اليوم 2018