المنجز في المسرح الجزائري بعد 58 سنة /بقلم: أ.د. أحسن تليلاني
يحتوي التراث الشعبي الجزائري على عدة ظواهر مسرحية :مثل شكل القوال و الحلقة ، و مثل خيال الظل و القراقوز ، و غيرها من الأشكال الاحتفالية في مختلف المناسبات الدينية و الاجتماعية . غير أن هذه الأشكال و إن كانت غنية بالفرجة و المتعة ، إلا أنها لم تتطور لتصبح شكلا مسرحيا له أصوله و قواعده على غرار المسرح الأوروبي الذي كان موجودا في الجزائر تحت إشراف الإدارة الاستعمارية الفرنسية ، و لكن هذا المسرح أيضا لم يؤثر في الثقافة الجزائرية لأنه كان مسرحا ميتروبوليا خادما للسياسة الاستعمارية في أرض الجزائر. فكان لزاما انتظار ولادة المسرح الجزائري حتى العشرينات من القرن الماضي، حتى يتأسس تحت ظلال الحركة الوطنية، و بفضل تلك الزيارات التي قامت بها بعض الفرق المسرحية العربية للجزائر مثل فرقة جورج أبيض سنة 1921 . الأمر الذي شجع الجزائريين على تأسيس جمعيات و فرق مسرحية استطاعت بعد جهود متواصلة استنبات فن المسرح بشكله الأوروبي في التربة الجزائرية، و ذلك بداية من عام 1926 حيث يعد سلالي علي المدعو علالو و محي الدين باش تارزي و رشيد قسنطيني من أبرز رواد المسرح الجزائري الأوائل .
الكاتب و المخرج عبد الرحمن كاكي (18 فيفري 1934-14 فيفري 1995)
و قد تميز المسرح الجزائري منذ تأسيسه بالطابع الشعبي، و تأثره الواضح بالتراث، كما تميز في مضامينه و أهدافه بإصلاح المجتمع و مقاومة الاستعمار الفرنسي، حتى أن قادة الثورة قاموا بإنشاء ما عرف بالفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني عام 1958 بتونس أوكلت لها مهمة التعريف بالقضية الوطنية الجزائرية للرأي العام العالمي و هي الفرقة التي أنتجت 04 أربعة مسرحيات ثورية قدمتها في عدة بلدان صديقة داعمة لقضية الشعب الجزائري في مكافحته للاستعمار الفرنسي .
و بعد استقلال الجزائر عام 1962 ، كان الحدث التاريخي البارز في الساحة المسرحية إنما يتمثل في صدور المرسوم رقم 63-12 المؤرخ في 08 جانفي 1963 المتعلق بتنظيم المسرح الوطني الجزائري بوصفه المشرف على جميع النشاطات الثقافية و الفنية عبر كامل التراب الوطني. حيث تم إثراء الحركة المسرحية المحترفة بعشرات العروض على يد أعلام مسرحيين كبار من أمثال مصطفى كاتب و عبد القادر ولد عبد الرحمان كاكي و عبد الحليم رايس، كما أثريت الحركة المسرحية الهاوية بفضل مسيرة مهرجان مسرح الهواة بمستغانم منذ عام 1967.
و لقد نهض المسرح الجزائري بمهامه الفنية و الثقافية حيث انخرط في الحياة العامة للمجتمع مشخصا همومه و معاناته و معبرا عن طموحاته و أحلامه، و يعد كاتب ياسين و عبد القادر علولة من أهم أعلام المسرح الجزائري التي شرفت تلك المسارح الجهوية، و صنعت الفترة الذهبية للحركة المسرحية الجزائرية المحترفة. و هذا قبل أن تتأثر تلك الحركة بالمأساة الوطنية التي شهدتها الجزائر في التسعينات من القرن الماضي حيث اختطف الموت أبرز رجالاته، كما اغتال الإرهاب الهمجي بعض أعلامه من أمثال المرحومين عبد القادر علولة و عزالدين مجوبي الذي قتل غدرا على عتبة المسرح الوطني و هو يشغل منصب مديره العام، مما أدى إلى إغلاقه و إعادة ترميمه قبل فتحه من جديد سنة 2000 ، حيث عادت الحياة الثقافية إلى عطائها فعاد المسرح إلى جمهوره بتنظيم الشهر المسرحي و تحضير سنة الجزائر في فرنسا العام 2002 ،كما تأسست مسارح جهوية أخرى في أهم المدن الجزائرية بلغت اليوم 15 خمسة عشرة مسرحا ينتج كل واحد منها سنويا على الأقل عرضا واحدا للأطفال و ما لا يقل عن 02 مسرحيتين للكبار صارت تتنافس سنويا على جوائز المهرجان الوطني للمسرح المحترف المنظم على مستوى المسرح الوطني الجزائري الذي يعد أهم واجهة مسرحية جزائرية و أكثرها نشاطا بإنتاج حوالي 150 مسرحية و تقديم ما يزيد عن 3000 ثلاثة آلاف عرض مسرحي منذ تأسيسه إلى اليوم.
الممثل و المخرج و الكاتب (عبد القادر علولة) (8 جويلية 1939-10 مارس 1994)
الممثل والمخرج و مدير سابق للمسرح الوطني الجزائري (عز الدين مجوبي)
و الحقيقة فإن النشاط المسرحي الجزائري الموزع ما بين محترف و هاو يستقطب جمهورا يزداد و يتناقص بحسب الفترات و حسب جودة العروض المقدمة في مختلف الفضاءات منها :
- قاعات العروض المسارح المحترفة و هي في العموم مسارح كبيرة و جميلة موروثة عن الاستعمار الفرنسي تم بناؤها على النمط الإيطالي على شكل أوبرا .
- قاعات قصور و دور الثقافة المنتشرة في مختلف المدن الجزائرية الكبرى التي تفوق 50 الخمسين مدينة .
- قاعات المراكز الثقافية و دور الشباب المنتشرة بالمئات في مختلف المدن و القرى و الأحياء السكنية و المناطق العمرانية.
و تعد تلك العروض المسرحية واجهة وطنية و دولية لما يجري في أرض الجزائر من حراك ثقافي خلاق، حيث إن العروض المتوجة في مختلف المهرجانات الوطنية على غرار مهرجان المسرح المحترف و مهرجان مسرح الهواة عادة ما يتم اختيارها للمشاركة في مختلف المهرجانات المسرحية العربية و الأجنبية، و ما أكثر ما توجت تلك العروض بجوائز دولية، على غرار تلك التتويجات التي حققها المسرح الوطني الجزائري على يد مسرحيين كبارا من أمثال المخرج زياني الشريف عياد الذي توج بعدد من الجوائز منها الجائزة الكبرى لمهرجان قرطاج الدولي / تونس بمسرحية : ” الشهداء يعودون هذا الأسبوع ” و الفنان القدير امحمد بن قطاف ، كما نذكر المسرحي الكبير عبد القادر علولة الذي صنع مجد المسرح الجزائري بتوظيفه شكل القوال و الحلقة المستلهم من التراث الشعبي الجزائري خاصة في ثلاثيته الشهيرة : ” الأقوال ” و” الأجواد ” و ” اللثام ” و هي التجربة المسرحية التي نالت شهرة عالمية .
مسرحية : ” الشهداء يعودون هذا الأسبوع “
و مما يميز المسرح الجزائري أنه نشأ و تطور على يد مواهب شعبية بعيدا عن النخب الأكاديمية ، مما جعله بعيدا عن اهتمامات المعاهد و الأقسام الجامعية المتخصصة حتى السنوات الأخيرة حيث أصبحت الجامعة الجزائرية تولي اهتماما للمسرح ، و تؤسس كليات للفنون و أقسام لدراسة الفنون الدرامية بالإضافة إلى تخصيص عدة شعب و تخصصات و مسارات في مجال المسرح ، و كذا تشجيع الفرق الجامعية و دعمها للمشاركة فيما يعرف بمهرجان المسرح الجامعي ، كما قدمت عدة أطروحات و رسائل بحث في قضايا المسرح ، و نشرت عدة بحوث و مؤلفات تتناول الظاهرة المسرحية ، و هي كلها نشاطات عززت من مكانة فن المسرح في المشهد الثقافي الجزائري الذي تعزز أكثر بتأسيس بعض المهرجانات المسرحية الأخرى في العشرية الأخيرة كمهرجان المسرح الفكاهي في المدية و مهرجان المسرح الأمازيغي في باتنة و مهرجان المسرح النسوي بعنابة و المهرجان الدولي للمسرح في بجاية إضافة إلى عدد من الأيام المسرحية المقامة هنا و هناك و المخصصة لمسرح الكبار و لمسرح الطفل أثناء العطل المدرسية و منها مهرجان مسرح الطفل في مدينة خنشلة ،بل إن المسرح قد اقتحم مدن الجنوب الجزائري حيث الصحاري و العطش للفعل الثقافي و للفرجة المسرحية .
و تجذر الإشارة في هذا المقام إلى أن المسرح الجزائري الذي نشأ مقاوما للاستعمار متشبعا بمبادئ الثورة التحريرية قد ظل خلال مسيرته بمنأى عن أي رقابة سياسية ،و قد استفاد المسرح الجزائري من هذه الحرية فانتهج لنفسه خطا إبداعيا متحررا جعله مجالا خصبا لتقديم تجارب متعددة فيها ما هو متأثر بالتيارات المسرحية العالمية كمسرح الطريقة الإيطالية ،أو المسرح الملحمي لبرتولد بريخت ، و فيها ما هو مستلهم من التراث الشعبي مثل تجربة مسرح القوال و الحلقة ، و قد تفاعلت تلك التيارات كلها ضمن تجارب مسرحية متنوعة توجه لمختلف الفئات العمرية كبارا و صغارا ضمن طبوع ميلودرامية تحقق المتعة و الفائدة بعيدا عن أي طابع تجاري استهلاكي لأن المسرح الجزائري في عمومه هادف ملتزم بقضايا المجتمع يتناول مختلف المواضيع السياسية و الاجتماعية والتاريخية مراهنا على خلق الوعي لدى الملتقي و تحريضه على تغيير واقعه المعيش.
الممثل،المخرج و الكاتب ومدير سابق للمسرح الوطني الجزائري ( امحمد بن قطاف (20 ديسمبر 1939 – 5 جانفي 2014) /
الممثلةو المخرجة و المديرة صونيا (اسمها الحقيقي سكينة مكيو)،(31 جويلية 1953 ـ 13 مايو 2018)
و قد تأثر المسرح الجزائري في السنوات الأخيرة كغيره من مسارح العالم بظاهرة مسرح ما بعد الدراما حيث تراجع حضور النص المكتمل ، ليفسح المجال لطغيان السينوغرافيا و الاستخدام المفرط للوسائط السمعية البصرية فسيطر الشكل على المضمون و حضرت الفرجة الممتعة على حساب الرسالة الهادفة ، و ذلك ما نجده في عديد التجارب المسرحية الشبابية الداعية لأولوية الجمال الفني و صناعة الفرجة .
إن المسرح الجزائري اليوم في حاجة إلى استعادة ملامحه وبصماته ممثلة في معالمه وأعلامه، إنه في مواجهة هذا الارتباك يحتاج إلى استلهام مصادر قوته وثروته، يمكنه أن يغرف من التجارب التي شكلت منابعه الكبرى وصنعت مسيرته الحافلة بالمكاسب والتتويجات وتحيات الاعتراف أيضا .
تجربة مصطفى كاتب – رحمه الله – مثلا في تأسيس مسرح نضالي شعبي يستجيب لتطلعات البسطاء ويعبر عن مختلف القضايا المعيشة بواقعية وصدق، فالمسرح الجزائري في أصل ولادته كان شعبيا بمعنى أن الكوادر التي أطرت فعالياته لم تكن من النخب الجامعية، بل كانت من رحم الشعب البسيط المحدود التعلم على غرار جيل الرواد :- رشيد قسنطيني – علالو – داهمون – باشتارزي – محمد توري – رويشد … وغيرهم من رجال المسرح الموهوبين، أسلاف هذه المواهب الشابة اليوم التي نجدها خاصة في المسرح الهاوي طامحة إلى النهوض بالمسرح بواسطة إمكانيات مادية بسيطة جدا. فوحدها الموهبة هي الرصيد.
مسرحية:” جي بي أس” للمحرج محمد شرشال
يمكن للمسرح الجزائري وهو يواجه إشكالية النصوص، أن يستأنس بتجربة عبد القادر ولد عبد الرحمان كاكي في الاقتباس من المسرح العالمي وتطعيمها بحكايات من التراث الجزائري كما فعل في مسرحيات » القراب والصالحين « و» ديوان القراقوز« و» كل واحد وحكمه « وغيرها من المسرحيات التي امتزج فيها الضحك والقراقوز والمهرجون والنقد والمزاح بأسلوب جعل كثيرا من النقاد ينعتون ولد عبد الرحمان كاكي بكونه برتولد بريخت العرب .
– بإمكان المسرح الجزائري أيضا أن يسترشد بتجربة المرحوم: عبد القادر علولة في استلهام وتوظيف فعاليات وأشكال التعبير المسرحي في التراث الشعبي الجزائري، وهو الاتجاه الذي وضع المسرح الجزائري في طليعة المسرح العربي، بعد تتويج كل من: » الأجواد « و» اللثام « بجائزتي مهرجان قرطاج الدولي في الثمانينيات، ومن دون شك فإن تجربة استلهام وتوظيف أشكال التراث في حاجة اليوم إلى من يحييها ويطورها بعد استشهاد أكبر مطبق لها المرحوم علولة، رائد مسرح المونولوج أيضا عندما أدى ببراعة مونولوج: » حمق سليم « والملاحظ أن تجربته تلك قد ألقت اليوم بظلالها على الكثير من التجارب المسرحية التي تمثلت وتبنت مسرح الوان مان شو، مثل: دليلة حليلو – المرحوم عز الدين مجوبي – صونيا – فلاق – دكار – كعوان – وحتى أحميدة العياشي في وقت من الأوقات.
– تجربة أخرى تشكل معلما هاما ما يمكن للمسرح الجزائري اليوم أن يشرب من نبعها وهي تجربة الأديب الكبير والمسرحي القدير: كاتب ياسين – رحمه الله – الذي عرف بمسرحية السياسي، ملتزما في ذلك بقضايا المضطهدين، مبرزا كفاح المستضعفين على غرار مسرحياته: » محمد خذ حقيبتك « و» الجثة المطوقة « و» فلسطين المخدوعة « و» الرجل ذو النعل المطاطي « وغيرها من المسرحيات التي جنحت للتوثيق وتميزت باستخدام الفكاهة الشعبية وإباحة الإرتجال للممثلين محطما بذلك فكرة قدسية النص، فالمسرحية تعد مشروعا يجري تطويره واستكماله على الركح. ومن وحي هذه التجربة ولمواجهة أزمة النصوص اتجهت الكثير من الفرق الهاوية وحتى المسارح المحترفة مثل مسرح قسنطينة الجهوي إلى فكرة التأليف الجماعي للنص وقدمت عروضا ناجحة رغم أن النقد المعياري لبعض الدارسين لم يستحسن هذه الفكرة. لقد أثرت تجربة ” كاتب ياسين ” على توجهات الكثير من المسرحيين مثل فرقة ” الدبزة ” ومسرحيات ” سليمان بن عيسى ” مثل ” بابور غرق ” وغيرها. وما أحوجنا اليوم إلى من يبعث الحياة في مسرح كاتب ياسين ويطور خصوصياته.
– المعلم الآخر الذي يمكن الإشارة إليه في هذه العجالة، هو ذلك المسرح الأدبي المكتوب باللغة العربية الفصحى، والذي يستقي مرجعيته من مسرح الأديب الشهيد: أحمد رضا حوحو ونكتشف تأثيراته في نصوص أحمد بودشيشة وعز الدين جلاوجي وهو في العموم مسرح كثيرا ما يرتبط بفضاء المدرسة. ولسنا في حاجة إلى التذكير هنا بما للمسرح المدرسي من أهمية باعتباره رافدا أساسيا في تطوير الحركة المسرحية حتى أن المسرح في دولة البحرين مثلا نشأ وظل إلى اليوم مدرسيا. واعتقد أن واحدة من آليات النهوض بالمسرح الجزائري تتمثل في اعتماد النشاط المسرحي كمادة: في المنظومة التربوية. فالفضاء الطبيعي لنهضة مسرح الطفل مثلا هو فضاء المدرسة قبل فضاءات دور الشباب والمراكز الثقافية والمسارح عامة .
– التجربة الأخيرة التي يمكن أن تكون رافدا هاما هي تجربة مسرح الهواة باعتباره مصدرا لتخريج الطاقات والمواهب وباعتباره أيضا أحسن فضاء للتجريب .
ولأن المسرح فن إبداعي فهو يحتاج إلى مغامرات التجريب إذ لا شيء ثابت في الإبداع الثابت الوحيد هو المتغير، وما أكثر ما قدم المسرح الهاوي الجزائري من تجارب جديدة أكد بها حضوره وتجدده وأغنى بها الحركة المسرحية المحترفة .
إن تشكيل ريبرتوار المسرح الجزائري من شأنه رسم خريطة الطريق لتطوير الحركة المسرحية اليوم والنهوض بها، وإن المعالم والأعلام هما الضفتان في هذه الطريق.
أ.د. أحسن تليلاني