نص مسرحي: " إنقوما.."/ بقلم: محمد الكامل بن زيد
“ساعة الشيطان رملية”
الشخصيات: الأول و الثاني
الرؤيــــــــا:
المنظر:
الأول: يتخــذ من الحائط متكأ له..في جيبـــه مطرية صغيرة..الجيب مهترئ مما يجعلها تسقط أرضا بين الفينة والأخرى..
الثاني: يتخذ من عمود إنارة مجلسا له..أمامه صندوق كبير.. وضعت فوقه ساعات مختلفة الأحجام والماركات..على طرف الصندوق ربـط طائـر الصقـر معصوب العينين.. وخلف العمود نرى دراجة صغيرة..أقصى يسار الركح..نجد بابا خشبيا مثبتا بأعمدة..هو ما تبقى من بيت مهدم..
بين الأول والثاني مسافـة شـــارع..ما هو بالعريض ولا بالضيق ..
الأول: (يشير إلى ساعة في يده) انظر ..
الثاني: (يحرك نظارته السميكة) كيف لي أن أنظر وبيننا شارع
الأول: ألا تكفيك المسافة ؟!
الثاني: من هم في مثل سني يمقتون المسافات البعيدة.. إن شئت اقترب أنت
الأول: لا أدري لم يمقتون المسافات البعيدة؟!
الثاني: ألا تدري حقا ؟!
الأول: حقا لا أدري..
الثاني: لأنها المتاهة !
الأول: متاهة؟!
الثاني: نعم متاهة ..فكلما ازدادت المسافات بعدا ازدادت الأماني غورا في جدرانها
الأول: لكن رجائي بسيط..!!
الأول:لأجل هذا أردتك أن تأتي أنت ..
الأول: (في ارتباك) أنت تدرك تماما أنني..
الثاني: (مقاطعا) ماذا ؟
الأول: (في تلعثم) أنني
الثاني: لا أسمعك
الأول: (يأخذ أنفاسا عميقة) أحاول..
الثاني: (في خبث) كفاك تماطلا ؟
الأول: أتحسب أن الأمر هيّن ؟!
الثاني: عن نفسي لا أفكّر طويلا..
الأول: لا تفكّر ؟!
الثاني: نعم لا أفكّر
الأول: أما أنا ..
الثاني: ماذا؟
الأول: (يصمت قليلا ثم يهمهم همهمات متواترة..لا يقوى على المكوث في وضع واحد..تارة يقف وتارة يجلس ..يخطو خطوات سريعة إذا اتجه يمينا وخطوات بطيئة إذا عاكس الاتجاه ..لا يتوقف عن عض أصابعه )..أنا..أنا
الثاني: (مستفزا) لا تكن مثل الدجاجة التي احتار في أمرها جميع خلق الله
الأول: (يقطب حاجبيه في تبرم) وهل سأعبر مثل الدجاجة ؟!
الثاني: للأسف..هي عبرت الطريق ولم تنتظر أحدا..أما أنت
الأول: (ممتعضا) لا أزال في مكاني
الثاني: (يهز منكبيه) حتى الأعمى يمكنه تخيّل المشهد
الأول: (في صوت منخفض) أنا أردت أن أريك
الثاني: ماذا..أنا لا أسمعك ؟
الأول: (يرفع صوته) قلت..أردت أن أريك
الثاني: وأنا أردت أن تأتي كي أرى
الأول: سأحاول..
الثاني: قلت لك كفاك تماطلا..ارم خطوتك الأولى
الأول: قدمي ليست ورقة من أوراق التوت..وهذا البحر..أقصد الشارع..عميق جدا..
الثاني: (يبتسم في مكر) البحر..الشارع..بالله عليك..لم في كل مرة تحاول أن تعبر الطريق ننتظر اليوم كله؟
الأول: (في انفعـال شديد) ألا ترى أن الطريق مزدحــم بشكل لا يطاق؟ (يصمت برهة ثم يستطرد )..كأن اليوم هو يوم الحشر؟
الثاني: الدجاجة لم تلق بالا
الأول: (يمتعض) ألا تسمع هدير السيارات ..وزمجرتها تعلن أنها ستأكل الطريق أكلا لمًا؟
الثاني: لكنها خالية الآن
الأول: أتقصد..لا..لا يمكن..مستحيل
الثاني: حاول..
الأول: لا..لا آمنها ..
الثاني: هل ترفض المجيء ؟..
الأول: (يطأطئ رأسه صامتا )
الثاني: فما يمنعك هذه المرة؟!
الأول: ربما نسيت أنت
الثاني: ماذا؟!
الأول: ألا تذكر ماذا حدث يومها ؟!
الثاني: متى ؟!
الأول: يوم رحلت الشاحنات المدرعة
الثاني: (كمن يتذكر في أسف وحزن) مات خلق كثير
الأول: وبقينا أنا وأنت
الثاني: (يتنهد) أنت وأنا
الأول: وقضينا أشهرا وأشهرا نغسل دماءهم بدموعنا..
الثاني: كانت دموعا ملتهبة كأنها حمم انسابت من بركان ثائر
الأول: لكن البركان ما فتئ أن أخمد..
الثاني: قالوا لنا اصبروا حتى يأتي الفرج
الأول: ولم يأت أحد؟!
الثاني: وأصبح صبرنا إرثا تاريخيا نقرأه على بعضنا ..من حين إلى حين
الأول: فقط أنا وأنت
الثاني: (يحك جبهته بأصابعه في ارتعاش) أنت وأنا
(صمت.. يعقبه صوت صفقان الباب)
الأول: (قلقا.. يشير إلى ساعة في يده) أخشى أنها ليست أصلية
الثاني: ألا تثق في..؟!
الأول: ليست مسألة ثقة..هو إحساس
الثاني: إحساس كاذب
الأول: انظر..إنها لا تعمل ؟!
الثاني: كيف لي أن أنظر والمسافات البعيدة توهن القلب ؟!
الأول: القلب ؟!
الثاني: أقصد العين
الأول: أنا لا أكذب..هي لا تعمل
الثاني: أنا أيضا لا أكذب..جميع الساعات عندي تعمل
الأول: لكنها لا تعمل في معصمي ؟!
الثاني: (يشير إلى ساعة في يده) هي تعمل في معصمي ..
الأول: لكن ساعتي..
الثاني: (مقاطعا) أن تكون أصلية..أن تكون أكثر دقة وحضورا
الأول:وعقاربها ؟!
الثاني: ما بها ؟
الأول: انتبذت مكانا قصيا
الثاني: (يسخر منه بإيماءة) حتى لا يدركها الفزع الأكبر
الأول:إنها تأبى أن تتقدم إلى ساحة الوغى
الثاني: كفى الله شر القتال
الأول: لكنها..
الثاني:لكنها ماذا؟!
الأول: كانت..
الثاني: (يتأفف) كانت ماذا؟!
الأول: أردت أن أقول..في المرة الماضية
الثاني: متى ؟
الأول: المرة الماضية
الثاني: لا أذكر
الأول: حين كنت أحاول ..
الثاني: ماذا ؟
الأول: لا شيء
الثاني: صدق حدسي كعادته
الأول: ما به حدسك؟
الثاني: حدسي ظل يردد في مسمعي ..أننا سنمكث على هذا الحال اليوم كله..
الأول: أنا وأنت
الثاني: (يتنهد) أنت وأنا
(صمت.. يعقبه صوت صفقان الباب )
الأول: هذا عمود الإنارة الذي تجلس متكئا عليه ..ألم يكن لونه بنيا ؟!
الثاني: كان خشبيا حين أتيته أول مرة
الأول: متى ؟
الثاني: لا أذكر..وأنت..الحائط..ألم يكن طينيا ؟!
الأول: ربما..لا أذكر
الثاني: أنا أذكر..كان لا لون له
الأول: متى ؟
الثاني: حين أورقت الأشجار
الأول: أين هي الأشجار ؟!
الثاني: ألا تراها ؟
الأول: لا أرى شيئا ..
الثاني: عجبا
الأول: أترى ما لا أرى ؟!
الثاني: هنا كانت (يشير إلى الفراغ) وكانوا يستظلون تحتها
الأول: وأين هم الآن ؟
الثاني: حين ذابت الأوراق رحلوا
الأول: ببساطة؟!
الثاني: أبسط مما تظن
الأول: أراها خيانة
الثاني: في مخيلتهم تأويل آخر
الأول: وما هو؟
الثاني: لا أعلم..لم يخبرني أحد منهم..آخرهم نسي أن يسدد دين ساعته
الأول: متى ؟
الثاني: (يضحك) هذه أذكرها جيدا..منذ الأيام الباردة
الأول: الأيام الباردة ؟!
الثاني: نعم الأيام الباردة
الأول: وماذا تفعل في الأيام الباردة ؟!
الثاني: ألتصق بالعمود
الأول: وفي الصيف ؟!
الثاني: ألتصق بالعمود
الأول: لأجل هذا ثيابك ..
الثاني: (يكمل) تقطر منها المياه كأنها قطع ثلج (يقوم بعصر ثيابه)
الأول: طالما استفزني منظرها فسألت؟!
الثاني: أتريد أن تشرب ؟
الأول: لست عطشانا
الثاني: طعمها لذيذ
الأول: المياه ؟!
الثاني: لا تخف.. صافية ونقية
الأول: أقصد الساعة؟!
الثاني: قلت لك إنها أصلية
الأول: لا أشك..لكن عقاربها لا تدق
الثاني: (يضحك) هي في وضع الصامت
الأول: الصامت ؟!
الثاني: حتى لا تزعج أحدا
الأول: لكني أريدها أن تزعجني
الثاني: لم ؟
الأول: حتى لا أبقى وحيدا
الثاني: أنا معك
الأول: لم أقصد ..
الثاني: تأمل معي..هنا..أنت وأنا..وهذا الشارع وهذا الحائط ..ألا ترى أنها صحبة مباركة؟
الأول: قلت لك لم أقصد..
الثاني: (يتحسس وجهه) التجاعيد تشابكت في أفق بعيد..وما عاد يمكننا أن نبصرها من هنا
الأول: لكن أجراسها لم تقرع؟
الثاني: ليس مستحيلا..أفرغ منها المياه
الأول:المياه ؟
الثاني: هي لذيذة ..صافية ونقية
الأول: لست عطشانا
الثاني:(يمسح نظارته مرة أخرى) خيّل إلي أن جسدك يرتجف من العطش
الأول: لست عطشانا
الثاني: كفاك عنادا
الأول: لأجل هذا لم يأت أحد
الثاني: كنت أحاول..
الأول: (مقاطعا في نرفزة) ماذا؟..ماذا؟
الثاني: لا شيء..لاشيء
الأول: لا أسمعك
الثاني:(يحدث نفسه) ستندم..
الأول:أكيد ..سنبقى أنا وأنت
الثاني:(يطرق برأسه) أنت وأنا
(صمت.. يعقبه صوت صفقان الباب)
الأول: كيف أمكنك الجلوس هنا كل هذا الوقت ؟
الثاني: بقدر اتكائك على الحائط
الأول: حاولت أن أعرف السبب
الثاني: آخر المطاف لن تدرك شيئا
الأول:ربما..إلا أني لا أريد أن يذهب كل هذا سدى
الثاني: ما هو ؟
الأول: (يحك لحيته الممتلئة شيبا وفروة رأسه الصلعاء ثم يضحك)
الثاني:(يضحك) في هذه صدقت
الأول:(تسقط المطرية من جيبه فيرفعها في غضب) كفى..كفى
الثاني: تكرر سقوطها اليوم له بشائر خير
الأول:أتعتقد ؟
الثاني: أجمل سقوط هو سقوط المطر ألم يقلها المهاتما غاندي؟
الأول:(غير مبال) ربما
الثاني:(يهب واقفا منفعلا) أكيد..أكيد
الأول:رجاءً..لمالغضب..؟!..أم أن طول الانتظار ..
الثاني:(مقاطعا) عجبا..من منا سكن الحائط ؟..من منا يحمل مطرية ؟..
الأول: أعني..لا تنتظرهم
الثاني: من ؟
الأول: أعني ..أعني (في تردد) لا تنتظرهم وكفى
الثاني: لا أرى حمارا يجثم فوق لسانك..إن أردت البوح فأرسله يصدح بما في ذهنك
الأول: قبل قليل الدجاجة والآن الحمار..لا بد أنك سمعت أو قرأت عن مزرعة الحيوان
الثاني: مزرعة الحيوان ؟!
الأول: رواية كتبها جورج أورويل ..
الثاني: نعم.. جورج أورويل
الأول: (في زهو) لست وحدك من يعرف المهاتما غاندي
الثاني: ولست وحدك من يعرف رواية 1984
الأول: رواية رائعة أليس كذلك؟..قرأتها وأنا أغوص في شقوق الحائط
الثاني: حدسي ينتفــض كلما رأيت تلك الأرقام..إنها تشير بشكل ما إلى تاريخ ميلاد جدي من أمي ..
الأول :هل كان تاريخا مهما
الثاني: لا أعرف..هو حدس
الأول: حدس كاذب
الثاني: أرجوك ..احترم الشارع الذي بيننا
الأول: والعِشرة ..الجيرة ..الصداقة
الثاني: تجاوزتَ فتجاوزتُ
الأول:من حقي كجار صديق أن أصارحك..لا تنتظر أكثر مما مضى
الثاني: ربما كان عليك أن تنصح نفسك..فأنت من وجب عليه ألا يدعنا ننتظر أكثر..
الأول: سأحاول ؟؟
الثاني: الآن
الأول: ليس بعد ..
الثاني: أنا على يقين وحتى إن فعلت فلن تقف طويلا عندي
الأول: ولكني لست منهم
الثاني:(يهز رأسه ويتنهد في عمق) مرّ الكثير والكثير ولم يتوقف أحد منهم
الأول: لا يمكنني أن أتجاوزك..
الثاني: (يضحك) قالوا لي نفس الجملة
الأول: (في حزم) سأفعلها..وأقف
الثاني:(في تودد) إن فعلت فلن أنسى فضلك ..
الأول:(مستفزا) لذا تريد أن تبيعني ساعة لا تعمل
الثاني: هل عهدتني أكذب ؟!
الأول: لا ..
الثاني: لم يعودوا لأني بعتهم ساعات أصلية
الأول: (يحك لحيته ويقطب حاجبيه) ربما!
الثاني:(مقاطعا) أتشك؟
الأول: أحاول أن أفهم لمَ لم يعودوا ؟!
الثاني: (يلوح بيديه غاضبا) لأنها أصلية..لأنها أصلية
الأول: (تسقط المطرية من جيبه مرة أخرى) اللعنة..اللعنة
الثاني: (يمط شفتيه في مكر) أرأيت..!!
الأول: أليس لهاته المطرية ميقات ليهدأ بالها؟!
الثاني: اصبر ..اليوم ستمطر إن شاء الله..؟
الأول: أتمنى ألا يُخذل صاحبك غاندي
الثاني: (متحمسا) حدسي يقول أنها لن تخذلك أبدا
الأول: انتظرنا طويلا
الثاني:طويلا جدا
الأول: أنت وأنا
الثاني: أنا وأنت
(صمت.. يعقبه صوت صفقان الباب )
الأول: (مشيرا إلى الباب الخشبي ) وهذا الباب..لا أظنه سيغلق؟
الثاني: لا أظن..فلم يجرؤ أحد على أن..
الأول: (مقاطعا) لم يجرؤ أم لم يخمن
الثاني: لا أعرف..لكني أنصحك ألا تقترب
الأول: طالما استفزتني رؤيته
الثاني: لست وحدك
الأول: ولم تحاول أن تطرق بابه ؟
الثاني: لم أفكر ..
الأول: لم؟!
الثاني: لا أعرف..أحيانا كثيرة تكون بجانبك أشياء إن طال الأمد بها تصبح كأنها لا حدث
الأول: في هذه أصبت
الثاني: ومع ذلك أنصحك ألا تقترب منه
الأول: لكن ..
الثاني: ماذا؟
الأول: لا أعرف..إلا أني أحس بشيء غريب يتحرك في داخلي..يريد أن يمزق أحشائي كي ينطلق خارجا كأنه المارد
الثاني: (في انبهار) داخل ..أحشاء ..مارد
الأول: (يضغط على صدره) إنه شيطاني..المارد اللعين
الثاني: (متعجبا) شيطانك..المارد..اللعين!!
الأول: كان نائما
الثاني: (يضحك مستهزءا) أخيرا..كم كان سباته عميقا؟!
الأول: المهم أنه استيقظ
الثاني:نعم..حتى لا ننتظر أكثر فأكثر
الأول:(يمسك بمطريته حتى لا تقع) أتعرف..؟
الثاني: ماذا؟
الأول: أيقنت الآن ..
الثاني: ماذا؟
الأول: هو من أتى بي إلى الحائط
الثاني:أكان عليه أن يفعل ؟
الأول: نعم.. كان عليه أن يفعل
الثاني: لم ؟!
الأول: كل ما أذكره ..أنه بعدما تلّبدت السماء بدخان أسود وتشابهت الأزقة واختلط الحابل بالنابل حتى أوشكت المدينة أن تغرق في بحر لجي ..وضاقت الأرض بما رحبت بعد أن تأزمت سبل خلاصي من تلك الفتنة ..
الثاني: وبعد ؟
الأول: جاء هو وأمرني أن اتخذ الحائط ملاذا إلى أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود
الثاني: هكذا ..ثم ماذا؟
الأول: أخذته إغفاءة ثم غلبه النوم العميق
الثاني: (مذهولا) نام..؟!
الأول: (في أسى) نعم..نام دون أن يدرك الفجيعة
الثاني:والآن ؟!
الأول: ماذا ؟
الثاني: تظنه سيعبر بك الشارع الآن ؟
الأول: (يشد بقوة على المطرية) سيفعلها..نعم..بعد هذه السنين..سيفعلها
الثاني: أتمنى؟
الأول: لن أغفرله..ولن أسامحه إن أبى..سأصارع جبروته بكل ما أملك من قوة..حتى لو اضطررت أن أعبر زاحفا ..المهم أن أعبر الشارع
الثاني:حلمي أن أراك تعبر دون أن يوقف زحفك شيء
الأول: ماذا تعني ؟
الثاني:خلف الباب متاهة مظلمة
الأول: حقا ؟
الثاني: إن دققت البصر ستراها ..
الأول: (يدقق البصر) الظلام أراه من هنا
الثاني: وتريد أن تجرب ؟
الأول:الشيطان ..
الثاني:إن كان..فمره أن يعبر بك الشارع إلي أولا حتى أرى ساعتك..رغم يقيني أنها أصلية..
الأول:سأحاول..(يستدرك) لا..لا..لن أحاول بل سأفعل..سأجعله طوع أمري
الثاني: (في صوت بائس) أتعرف أن هذا الباب دخله الكثير والكثير ممن مروا أمامي..منهم من أحب ومنهم من أكره؟
الأول: وأنا ..؟
الثاني:عشرة طيبة..مباركة
الأول: لا أكثر ولا أقل
الثاني: ألا تكفيك؟!
الأول: (في أسى) هي ..أنا وأنت
الثاني:(يتفقد ساعة من الساعات الموزعة فوق الصندوق الكبير أمامه) أنت وأنا
(صمت.. يعقبه صوت صفقان الباب)
(يحاول “الأول” جاهدا وضع أولى خطواته فوق إسفلت الشارع ..نسمع موسيقى تحفيزية وأصوات مختلفة وفوضوية..منها من يشجعه ومنها من يحاول ثنيه ..يتردد زمنا..يلتفت يمينا ويسارا ..يجذب من جيبه المهترئ مطريته ليفتحها في ارتعاش ثم يسرع مغمض العينين عابرا الشارع ..وعوضا أن يقف عند “الثاني”تخونه السرعة فيقترب كثيرا من الإطار الخشبي للباب)
الأول: هل وصلت ؟
الثاني: تجاوزتني
الأول: إلى أي مدى ؟
الثاني: افتح عينيك
الأول: (يفتح عينه) أنا لا أصدق..لا أصدق (يقفز فرحا)
الثاني: أحيانا الريح تأخذنا بعيدا
الأول:(يضحك) ريح قوية
الثاني: لكنك تجاوزتني فعلا
الأول: ليس بيدي..
الثاني: ولم تتوقف عندي؟!
الأول: ألم تقل أنها ريح قوية؟
الثاني: (متذمرا) فعلتها أنفاس الشيطان المارد اللعين
الأول: (متحسرا) أرأيت..لم أقو عليها؟!
الثاني: لكنك وعدت
الأول: ظننت أني سأفعل لكن الشيطان خذلني
الثاني: تمنيت ألا تكون واحدا منهم
الأول: أنا أيضا..
الثاني: (في استياء) ليس لدي ما أقوله
الأول: لا تقل..
الثاني: (يشير إلى الحائط ) نسيت شيئا
الأول: لم أنس ولن أنسى
الثاني:(يشير إلى بقعة سوداء على الحائط ) أقصد معطفك ؟!
الأول:(يضحك) أأعجبك ؟
الثاني: يبدو جميلا
الأول: حقا ..لكنه
الثاني: لا يهم ..أريد أن أحمي هاته الثياب من الجفاف
الأول:الجفاف..؟
الثاني:الأشياء الجميلة طالها تغيير جذري..فكيــف أضمن أن الطقــس سيبقى على حاله ..
الأول: أمتأكد من رغبتك ؟
الثاني:أتقصد ؟
الأول: هو لك
الثاني:لكني ..(يتردد) أنت تعلم
الأول: لا يمكنك الذهاب إلى الحائط..أتخشى الشارع؟
الثاني:أتردها إلي؟
الأول: لن أفعلها فالعشرة الطيبة تقف سدا (يضحك)
الثاني: (يمط شفتيه) نعم العشرة الطيبة
الأول: وهاته الدراجة لم لا تزال هنا؟!..لم لا تستعملها كي تعبر الشارع؟!..(يقترب منها كي يلمسها)
الثاني: (ينتقض) لا تلمسها
الأول: لم ؟!
الثاني: هي له
الأول:من ؟!
الثاني: (يغالب البكاء) آخر قطرة سقطت من السماء
الأول: أتقصد ولدك الذي عبر الجسر ؟
الثاني: ولدي لم يعبر..
الأول: لكن الناس ..الشرطة
الثاني: الناس..الشرطة وآهاتي وجوارحي المفجعة.. أليس من حقها أن تقول أشياء وأشياء..؟
الأول: أنا آسف..فعندما أتيت قيل لي أنه كان هنا..
الثاني: ألم يقولوا لك حين أتيت أنه كان جميلا..بهيا..ذكيا؟
الأول: سمعت..
الثاني: ألم يقولوا لك حين أتيت أنه كان يحب الشارع والشارع يحبه ؟
الأول: لذا لم تدع أحدا يلمسها..حتى أنا
الثاني: عاهدت نفسي..لن يركبها أحد غيره
الأول: وأصبحت تتحاشى الشارع إلا بقدر معلوم
الثاني: بل أراقبه..فأنا أخشى إن عاد ولم يعثر علي في مكاني سيغضب مني كعادته..فهو لا يزال صغيرا كما تعلم
الأول: الأفق البعيد يتشكل كالسراب
الثاني: وكلنا يعلم أن الطيور جميعها تعود إلى أوطانها
الأول: (يشير إلى الصقر) وهذا الصقر..ألن يذهب إلى أي مكان ؟
الثاني: لا..
الأول: أليس له أفق؟
الثاني:إنه ينتظر..
الأول: طال انتظاره..مثلنا..
الثاني: ليس الأمر بيدي
الأول: لمن ؟
الثاني: هو ملك له
الأول:أتقصد؟
الثاني: كان هدية عيد ميلاده
الأول: ما أروعها من هدية؟!
الثاني: حاول الكثيرون سرقتها مني
الأول:الأنذال
الثاني: لم تشفع معهم ساعاتي الأصلية
الأول:الأنذال
الثاني: ولا أعتقد أنهم سيهدأ لهم بال إلا بعد أن يتم لهم الأمر
الأول:الأنذال
الثاني: سأقف لهم بالمرصاد ..
الأول:عنيد.. ستفعلها
الثاني: لن أخون الوعد
الأول: قلت لك: الشيطان فعلها
الثاني:(في غضب ) مارد ..لعين
الأول: قلت لك: الشيطان فعلها
الثاني: أقصد الصقر
الأول: لم هو معصوب العينين ؟
الثاني: حقا ..لا تدري لم ؟
الأول: لا
الثاني: لأنه سيد..
الأول:سيد ؟
الثاني: والسيد لا يحب أن يرى إلا سيده
الأول: لم أكن أعلم
الثاني: لأنك لم تسأل..
الأول: ظننت أن طول الانتظار خصنا أنا وأنت
الثاني: (يمرر يديه فوق الصقر بلطف) أنت وأنا
(صمت.. يعقبه صوت صفقان الباب)
الأول: سأدخل..ألن تأتي ؟
الثاني:مستحيل
الأول: ستندم
الثاني: الشمس لن يمتد غيابها إلى أمد آخر
الأول: أتمنى
الثاني: ولهيب شوقي كلما انتظرت كلما استطعت أن ألجمه
الأول: ربما عَبَرَ الباب ولم يعبر الجسر
الثاني: كل الذين مروا أمامي أكدوا لي أنه ليس معهم ..
الأول: ربما غافلهم
الثاني:مستحيل..
الأول: أتمنى..(يصمت برهة ثم يستطرد) ألن تأتي ؟
الثاني: ألم أقل لك أنا لا زلت أنتظر ؟
الأول:(راجيا) أنس أنها مسافات بعيدة
الثاني: لا يمكن..
الأول: هي خطوة أولى.. ارمها ولن تندم
الثاني: أتذكر ..أن قدمي ليست ورقة من أوراق التوت
الأول: أتذكر.. قلت لك كفاك تماطلا..ارم خطوتك الأولى
الثاني: أتحسب أن الأمر هيّن ؟!
الأول: عن نفسي لن أفكّر بعد اليوم
الثاني: قد تكون الكلمات ذاتها غير أن الموقف هنا يختلف
الأول: كيف ؟
الثاني: أتدري كم خطوت من خطوات قبل أن تأتي ..؟
الأول: لا أدري ؟
الثاني: لأجل هذا لن آتي معك ..
الأول: ستندم
الثاني:(صمت)
الأول:(يتأمل الثاني بإشفاق) أرجو أن تشتغل ساعتي هناك
الثاني: (يضحك) لا تخشى شيئا..لنتعود..لنتعود..فهي أصلية
( دون تردد يسرع “الأول” إلى داخل الباب الخشبي ويغيب دون أن ينتبه إلى سقوط المطرية من جيبه ..
“الثاني” ينهض بصعوبة بالغة.. يتقدم نحو المطرية بخطى عرجاء يحملها في رفق وحين يجلس في مكانه يفتحها.. يتأملها مليا ثم يجول بنظارته بين الشارع وصندوق الساعات والمعطف المعلق في الحائط ..لحظات قليلة ينتبه إلى قطرات المطر تتهاطل ببطء ثم تنهمر بغزارة )
الثاني: (يضم الصقر إليه)..لا تحزن..قريبا سيعود سيدك
(مع سقوط المطر إنارة العمود ترتعش عدة مرات ثم تنطفئ ليخيم ظلام دامس وصمت رهيب يعقبه صفقان الباب لتضيء من جديد أكثر توهجا..)
بسكرة في 30جويلية/ يوليو 2020
مراجعة نهائية 29 أوت 2020