السخرية في النص الحديث ومسرحية (مرحاض) للكاتب علي العبادي / بقلم الدكتور : طالب هاشم بدن
صدر عن دار علي بن زيد للطباعة والنشر في دولة الجزائر المجموعة المسرحية التي حملت عنوان (تفو) للكاتب علي العبادي؛ بطبعتها الاولى من عام 2020. وضمن هذه المجموعة المؤلفة من أربعة نصوص سنتناول بالتحليل والنقد البناء مسرحية (مرحاض) .
تتألف المسرحية من خمسة شخصيات مارست لعب الادوار جاءت على وفق تسلسل درامي في تجسيد حوادث المسرحية وهذه الشخصيات ( علاء الدين ، المارد ، العم ، الاول ، الثاني ) . وقد أختار الكاتب فضاء العرض (المراحيض ) التي حملت تسمية المسرحية ( مرحاض ) كدلالة موضوعية لبحبوحة الاحداث المتنامية من هذا المكان وما شكله من ثيمة أساس في الفعل الدرامي. إذ ضم مجموعة من المراحيض الغربية وتقابلها مراحيض شرقية ومنها يهدف الكاتب إلى طبيعة تركيب دراما المسرحية ؛ إذ إن مثل هكذا نص ساخر ما هو إلا ثورة عارمة أراد من خلالها المؤلف تعرية المجتمع الخارجي الذي عبّر عنه بـ( الرائحة ) الكريهة التي فاحت بعد خروج شخوص المسرحية ( علاء الدين ، المارد) فقد أشار الكاتب إلى تحرر تلك الشخصيتين من قيودهما المتمثلة بباب يفتح وهي _ ربما _ إيحاء للفوضى والضياع التي عمت بلدنا العراق بعد الانفتاح والحرية الزائفة التي تدفقت بشكل عارم وجرفت الخوف والصمت، إلا إنها حملت من الاساءة الشيء الكثير عبر تصرفات مجتمع لا يدرك عظم المخاطر التي رافقت ذلك الانفتاح والحرية؛ تحت ذريعة الحرية والديموقراطية الهزيلة، إذ سرعان ما أظهرت الايام عدداً كبيراً من الناس على حقيقتهم وهم في عري تام، أخذ ينتظر كل منهم الموت عبر طوابير ولأسباب مختلفة. وجعل الكاتب من شخصية المارد الضعيف الهزيل الذي وصف على إنه مكتوف الايدي لا يقوى على فعل شيء سوى الاصغاء لـ( علاء الدين ) والضحك الذي عبر عن خوار قواه وعجزه عن تلبية ما يطلب منه ، إذ إن عبثية المواقف ولا معقوليتها تحيلنا إلى إن الكاتب تلاعب بمصائر الشخصيات وعجزها في تصوير ماهية الصراع الذي يشبه في جريانه كلمات متقاطعة لا يفهم منها شيء سوى دلالات وإشارات لا جدوى منها في تحقيق تقاطع الارادات فيما بينها ، لكن الهدف الاسمى يكمن في طبيعة الاحداث التي صاغها الكاتب عبر منظومة من العلامات الدالة على تفكك وتشظي المجتمع ،فرسم شخصية المارد المعطوب – كما وردت – وهو لا يدرك ما يريد أو يطلب منه وهي بعيدة عن تصورها المعهود ومواقفها التي دأب عليها وتعلم مشاهدتها الناس بوصفها شخصية العبد المطيع لصاحبه . فهنا المارد شخصية جدلية تناقش وترفض وتبدي الرأي حتى أتسم باللامبالاة . واتسمت لغة الحوار الدرامي بالجرأة والتحريض المبطن على الثلة التي تدير شؤون العراق بعد أن وصفها بصفات مذمومة جاءت على لسان علاء الدين عبر مسلته التي وضعها مخاطباً المارد قائلاً ( يحق لمن أثبت أنه من السفلة والشواذ والقوادين وممن لديهم خدمة جهادية في ذلك أن يتقدم للترشيح والافضلية لذوي الخبرة الطويلة ) إذ يحيلنا هذا النص إلى رسالة الاحتجاج التي عمل الكاتب على إظهار جوانبها بشكل مقلوب ، غير إنه نقد لاذع سلط من خلاله الاضواء على ما يحدث من مغالطات تمارس يومياً بعد ( 2003) وسوء اختيار فتك بالمجتمع وظل يعاني الالم والويلات من أجل مكاسب ومغانم شخصية لا ناقة له فيها ولا جمل .إذ إن في مجموعة شروط المسلة التي وضعها علاء الدين ما هي إلا تناص الفكرة عن مسلة حمورابي وشتان ما بين الاثنين . يرى المارد ان شروط المسلة لا تنطبق عليه وهو الطامع في منصب ما فيصاب بالاحباط وأخذ يندب حظه قائلاً ( تفو على هذا الحظ البائس ، لا أعرف هل أنا من دفنت في ذلك المرحاض أم حظي ؟؟؟ ) . إذ إن المسلة وما حملته من سخرية ما هي إلا احتجاج على كل دساتير العالم التي تضع قوانين وأعراف للنزاهة والحرية لكنها حبر على ورق وتحتها الظلم والقتل بعيداً عن العدل والمساوة والكفاءة والمهنية ، ابتعدت عنها مسلة المرحاض كتعبير عن الرفض والمغايرة التي نعيشها كل يوم . وعلى الرغم من أن المارد ينادي بكلماته المعهودة ( شبيك لبيك … ) لكنه في حقيقة الامر لا يلبي طلباً وغير مطيع لأمر سيده ؛ إذ وضعه الكاتب للتعبير عن السخرية والجدل وفي بعض الاحيان طامعاً عله يحصل على منصب وهو خارج من مرحاض محمل برائحة نتنة ، وفي واقع الامر إن الرائحة تكمن في النفس البشرية المريضة وضعها الكاتب في نص أقل ما يمكن تصنيفه على إنه جدلي ساخر. إن إختيار مكان وقوع الصراع وحلقة الحبكة غير المنتظمة ضمن بحبوحة المرحاض ما هو إلا التلميح والايحاء بوضاعة وأسانة ما قدم وما نتج من حكومات فاسدة تجلت في واقعها المرير تحت غطاء وشرعنة لا تليق إلا بمرحاض قذر يرمز إلى واقعها المتدني وسياستها الرعناء على شعب مغلوب على أمره وربما شارك في تنمرها ، تناولها الكاتب بأجلى صورها في تكنيك درامي رسم خطوطها على نسق واضح المعالم يستطيع من خلاله القارئ أن يكتشف ويتفحص ما وراء الكلمة دون الولوج في الكيف والمتى ولماذا ، فالنص إتسم بالوضوح والمباشرة دون لف أو دوران وما على المتلقي إلا ألتقاط مكامن الابداع الفني في ثناياه ويبدو أن الكاتب واكب زمن التغيير وبوصفه عاش تلك الحقبة وعبر عن خلجات النفس في تراكيب لغوية حوارية تتلى من قبل شخوص المسرحية ، إذ مزج بين المعقول واللامعقول عبر سلسلة من الحوارات والافكار التي تولدت في حديث علاء الدين وعمه ، حتى يراود الاخير الشك في أن علاء الدين يعاني الجنون أو تلبسه جني ، ويبقى الهذيان يتنقل في أروقة النص الحكائي الذي يصور المرحاض على أنه مملكة وهذه المملكة تغص برائحة كريهة ، في الوقت الذي يعبر عن الخارج برائحة أكثر قوة .
إن في تداخل العلاقات وتنوعها خلق تناغماً في تركيب الشخصيات التي وضعها الكاتب في ( العم ) مثلاً وعلاقته بعلاء الدين والمارد إذ انها تارة صديقة لعلاء الدين وتارة عبداً له وتارة أبله . وكل تلك الشخصيات تتشكل في انتقالات النص يحاول كاتبنا ايجاد فسحة من التهكم والكوميديا الساخرة عبر مداخلات المارد وردوده على علاء الدين تجلت في النص مثل ( علاء الدين : هل ثمة أخبار سارة فيما ارسلتك بشأنه ؟
المارد : سارة من ؟ … غير إن مثل هذه القفزات وتحولات النص الفنتازية تقصدها الكاتب وأكثر من تناولها عبر نص إقل ما يمكن وصفه بالجريء الاحتجاجي المعاكس ؛ إذ ان وجود السفلة وشواذ القوم والقوادين مشغولون في الزهد والعبادة وممارسة التقوى تمثل علاقة مغايرة للمكان والحقيقة وهي تفرض لا معقولية الحوادث وتعري المجتمع الملبد بالتقوى الزائفة والمبطن بالخداع على خلاف ما يحمل من قناع ظاهر ، فتجلت الاقنعة لتقابل وهم الحقيقة وتساقطت في نظر المتفحص للنص المخفي لا الظاهر ومحاولة فهم ما يطرح التي شكلت علاقة واضحة في النص . وما حمله من حنق على المجتمع المتعري . ولم يجد المارد سوى معتوهين لم يسعفهما الوقت للتوبة ولربما سيتقلدان مناصب مهمة في مملكة المراحيض وكأن الكاتب يريد الذهاب بنا إلى خلو العالم من الاشراف والقادرين على التغيير في زمن طغت صبغة اللامألوف وغير المنطقي ، إذ بعد التحقق وجد على انهما يمارسان الدعارة والعهر ، أطلق عليهما مؤلف النص ( الاول ، الثاني ) وتلك الشخصيتين صاحبت احداث النص الدرامي . إن البيئة التي اختارها الكاتب هي اقذر ما وصف في مملكة أفرزت عهر وتعري المجتمعات انتجت روائح كريهة غلب عليها الشذوذ والسفالة وهي ملمح واضح لثلة تسنمت مناصب بعقول خاوية فارغة المحتوى لا هم لها سوى ملئ جيوبها ، وهذه العقول اتسمت بالمرض وهي كوعاء فارغ لا هم لها سوى التسلط والسرقة من خزائن مباحة لا رادع يحرسها ولا رقيب يحاسب ، إذ يحيلنا النص إلى ان الكاتب ( العبادي ) ما هو إلا عين ناقدة ساخرة على أوضاع غصت بها عادات وتقاليد بالية سار على هديها شرذمة من الناس وصارت لباسهم الذي ستر عوراتهم ، إضافة إلى ما نتج عن الافرازات الدخيلة على مجتمع متقبل لكل ما يطرح ( قطعة أرض في مقبرة ، مملكة في مرحاض ، مارد معطوب ) استطاع بوعي ودراية السباق مع الزمن ونسج خيوط مسرحيته عبر مملكة اطلق عليها مملكة المراحيض . إذ أن ديماغوجية – الايهام بالكلام – ( علاء الدين ) رسمت لمملكته هالة من الخيال غير المنطقي واللامعقول حاول اضفاء جوها على شخوصه ، أراد من خلالها صناعة تابوهات تعبد في أماكن مختلفة لا وجود لـ( الا ) في قواميسها محاولة بناء صرح لها من خلال العقول الملقاة في مراحيض ولم تنتج إلا نتانة تفكير أطبق عليه واقع مرير خاوي الفحوى طيلة فترة الحكم . وسرعان ما ينتقل المشهد إلى جدلية حوارية بقصد أشراك رأي أناس أفترضهم الكاتب في شخصيات بوهيمية – غير مألوفة – ( الاول ، الثاني ) وهما يتبادلان الادوار في مشهد يرينا أستطلاع آراء الناس بمملكة المرحاض وهم يؤيدون ما جاء في المسلة ويمجدون بها ؛ واصفين حياتهم مع تلك المملكة بالسعادة الغامرة الهادئة النزيهة . يقابلها الشرف والصدق على أنه تهمة في زمن أضحت المفاهيم تقرأ بالمقلوب ، إذ أن الكاتب بوصفه ساخراً أراد تحرير رسالة لتدهور الاوضاع والواقع المزري ليس لبلده وإنما لباقي منظومة الدول الاخرى التي سادتها فوضى ما يسمى بالربيع العربي وما تبعه من ويلات على الرغم من قوة ورصانة حكامها وماضيهم الطويل ، غير إن آلة الدمار عبثت في تلك الانظمة وأخذت أحوال بلدانهم بالانحدار والفوضى وربما سيدرجون أو أدرجوا ضمن مملكة المراحيض ، ناهيك عن التحول الكبير في سلوكيات مجتمعاتها ، التي ظهرت جلية في حركة حبكة الصراع الذي تجلى في شخصية ( العم ) وتمكنه من الاستيلاء على مملكة المراحيض والتي شكلت إنتقالة مهمة سعى من خلالها الكاتب إلى ادخال عنصر الاثارة والتشويق في بناء الاحداث ، إذ ان مثل تلك المملكة من غير الممكن التفكير بالاستيلاء عليها ، لكن من قدم من الخارج بات لا يفكر بين الطالح والصالح في ضم أي جزء يراه مناسباً وعقله المتدني ، لتنتهي المسرحية في تخلي علاء الدين ومن معه عن مملكة المراحيض إلى عمه القادم من خارج البلد ليتبوأ مكانه في أحد المراحيض الغربية التي تعد إتجاهاً لتبعيته ومكاناً حقيقاً لتفكيره الغربي الدخيل .
د. طالب هاشم بدن