السينوغرافيا .. وتأثرها بفن العمارة/ مجيد عبد الواحد النجار
السينوغرافيا هذا المولود العشريني، وجد عند ظهوره الكثير من المسرحيين ينتظرون قدومه، فكانت له مساحة واسعة من الاهتمام، في مخيلاتهم، فقد تناوله الباحثون والدارسون في بحوثهم واظهروا دوره الكبير في العرض المسرحي، وما هي الدلالات والعلامات التي تبث من خلاله، وعن الدور الذي يلعبه مصمم السينوغرافيا في لم شمل هذه العناصر وجعلها تتحدث بلسان واحد عن مبثوثات العرض المسرحي، بعد ان كان مشتت بين اختصاصات عديدة، فكان لكل عنصر دورا يضطلع به لوحده. كما استفاد منه المخرجين في تأثيث العرض المسرحي وإبراز كل ما لديهم من معني وقيم جمالية وفلسفية وفنية.
لقد ساهمت السينوغرافيا ومنذ ظهورها، في بناء المشاهد المسرحية وتماسكها والتعبير عن مضامينها الفكرية، والفنية ،ولهذه الاهمية راح الباحثون يبحثون في اصل وجودها، فمنهم من يعتقد ان مفردة سينوغرافيا تعود للحضارة البابلية والفرعونية، و(التي ترجع الى سكينو غرافين (Scenographie) أساس مفردة السينوغرافيا، وتعني باليونانية تصميم الديكور او تزيين واجهة المسرح بالألواح الخشبية المطلوبة بالرسم)([1]). بينما يرى البعض ان اصل كلمة سينوغرافيا يرجع الى الاغريق.
اما البعض الاخر فقد بين انسوفوكلس اول من ادخل المنظر في العرض المسرحي، وكان يمتاز بالبساطة، وليس له علاقة بالأحداث الجارية على خشبة المسرح، كانت المهمة الاساسية للمنظر اشغال مساحة من خلفية خشبة المسرح فقط.([2])، لم يبقى المنظر المسرحي لأشغال المكان فقط ،بل اصبح فيما بعد جزاء لا يتجزأ من العرض المسرحي، وأخذ مكانه في زحمة العناصر الأخرى للمسرح.
لم يستخدم الاغريق ولا حتى الرومان مفردة الديكور او المنظر المسرحي المجسم او ذات الثلاث ابعاد، بل كانوا يستعينون برسم المناظر الخاصة بالمشهد على لوح او على قماش ولذلك كانت المناظر لا تتغير نتيجة لحجمها وثقلها، بمعنى كانت المناظر ثابته، وهي عادة ما كنت عبارة عن قصور، او الأماكن المهمة.
اما في العصر الجريكورومانيا فكانت الدراما تمثل امام منظر معماري ثابت، ولم يكن مصطلح السينوغرافيا في افضل حال في إيطاليا، فكانت المفردة تعني العمارة، ولم يأخذ المصطلح مكانه الا في عصر النهضة والقرن السابع عشر، والذي اقترن في حينها بفن الديكور والعمارة. اما في القرن الثامن عشر فكانت هناك قفزة نوعية في رسم المنظر المسرحي، بل درجت العادة في تقديم العروض المسرحية، بان يبنى الحدث فيها انطلاقا من مواضيع لوحات معروفة، وتنتهي بجمود الممثلين في وضعية تحول المشهد الى لوحة، وفي القرن التاسع عشر، تم التأكيد على أهمية الرسم في تحقيق الايهام، وفيما بعد اصبح اهتمام جديد في استغلال تقنيات المسرح، مثل الإضاءة، والزي المسرحي, في خلق صورة مشهدية لها بعد فني على الخشبة([3]).
وهذا يدل على ان رسم المناظر لم يكن موجودا من اجل الفعل المسرحي، او لتطوير موضوعة معينة في الدراما، بل كان من اجل اشغال مساحة معينه من خشبة المسرح، او من اجل ان لا يبقى مكان الخلفية فارغا، لان جل الاهتمام يرتكز ويركز على الممثل وما يقوم به من فعل مسرحي،حيث كان مفروض عليه ان يصل كل رسائل العرض من خلال حركة وصوته الجهوري المبالغ به.
ولان الفن جزء من المجتمع دائما ما يكن منهم واليهم، فلابد من التقدم والتطوير والتغيير، لذلك لم يقف المشتغلين في الفن وتحديدا الذين ليهم اهتمامات في عناصر العرض المسرحي مكتوفي الايدي إزاء التطورات التكنولوجية التي ظهرت في العالم فكانوا متابعين لها، ومسايرين لوجودها، فقد استخدم البعض نظام الديكور المعروض سينمائيا، بينما كان للمصمم الإنكليزي (اينيكو جونز) الدور الكبير في خلق حركة الفضاء السينوغرافيا في المسرح وذلك من خلال تطوير حركة المناظر المسرحية المرسومة على (مسطحات) تتحرك بدورها فوق خشبة المسرح بعد ربطها ببكرات تتحرك على سكة موجودة على خشبة المسرح، ويتم تحريكها وفقا لطبيعة المجال الخاص بالتمثيل ووفقا لنوعية المنظر المسرحي المطلوب. وقد فعل هذا من خلال مسرحيات (الأقنعة) في البلاط الملكي (رويال كورت) من عام (1605 – 1642)([4])، وما فعله جونز هو من اجل إضافة زخم للفعل المسرحي، او العرض المسرحي، ولخدمة الفكرة، لكي تصل الى الجمهور الرسائل التي أرادها مخرج العرض. وكان يراعي جونز الفعل المسرحي وحركة الممثل الذي له الدور الكبير في إيصال الرسائل المسرحية، وفق الإمكانيات التي اتاحتها له التكنولوجيا، وذلك بوجود المواد الأولية التي انتج منها عمله هذا.
ان هذا التحول المهمفي العرض المسرحي، باستخدام السينوغرافيا، جاء نتيجة ربط المناظر المسرحية بفن العمارة, وفن العمارة يعني التجسيم في الشكل، يعني إعطاء الشكل ابعاده الثلاثية، اذن فن العمارة هو السبب في ظهور السينوغرافيا في عصر النهضة، فن العمارة هو السبب بتحفيز ذهنية المشتغلين في المسرح باتجاه اكتشاف او إضافة عنصر جديد لخدمة العرض المسرحي.
وهذا فتح الباب امامالاخرين، وبدأت محاولات التجريب من اجل إعطاء السينوغرافيا بعدا دراماتيكيا واعتباره أساسا وقاعدة كبيرة للعرض المسرحي، ينطق من خلال عناصره– الإضاءة، الديكور، الأزياء، الاكسسوار، المناظر، الموسيقى والمؤثرات الصوتية – بكل ما هو مشفر ومرمز، ويدفع بالعرض المسرحي بتجاه فلسفي جمالي، وفي هذا المجال برز (ادولف ابيا) الذي أسس الى هذا الدور الكبير للسينوغرافيا، وجعل أهميتها لا تقل شئنا عن أي عنصر من عناصر العرض المسرحي، جعل السينوغرافيا عنصرا ناطقا مرة ومشفرة مرة أخرى من اجل منح العرض المسرحي ابعادا فلسفية وجمالية أخرى تضاف الى ابداعات المخرج والممثل وتكون داعمة لهما في إيصال رسائل العرض، لقد تمكن ابيا من تحويل الاضاءة من مجرد (اضاءة فضاء المسرح) الى عنصر مضاف له مبثوثاته وفلسفته، جعل الإضاءة تلعب دورا مهما مع الممثل في تحرك الفضاء المسرحي باتجاه إيصال الرسائل لجمهور العرض، ان ابيا انطلق من التغيير الجذري للديكور عندما قال ( تأثيث المسرح)، بمعنى الغى بموجب هذه الكلمات عملية رسم المنظر المسرحي واعتباره عملية تجميلية، وزخرفية للمسرح، فقد أراد لهذا التأثيث ان يكون عاملا مساعدا للممثل حامل الفكرة والرسالة، وان يستثمر هذا بالتالي من قبل الممثل نفسه ليكون له العون في بث رسائله الى الجمهور، وان يكون التأثيث اجسام وقطع توزع على خشبة المسرح، يتحرك الممثل حولها وامامها، لا ان تكون خلفية له، وبهذا (( خلق ابيا عرفا مطلقا بمهاجمته لأعراف الرسم المشهدي، فبدلا من خدعة الأوهام المرسومة الشفافة للأشكال، جاء بالإيهام الفضائي الذي ابتناه الضياء الموجه المنضبط بما يستطيع ان يضفي من تجل على البنى الزائلة التي يصطنعها نجار المسرح))([5]).
مرحلة أخرى من التجريب يخوضها (كولدن كريج) ،والذي اعطى دورا كبيرا للإضاءة، وللألوان في العرض المسرحي لإعطائها قيمة جمالية، ونفسية، وفكرية عالية، وتميزت تصميماته بجنوحها الملحوظ نحو فراغ الفضاء المسرحي، كما ورفض امتلاء خشبة المسرح بقطع الديكور وأجهزتها، وذلك كله من اجل ابتكار بنية سينوغرافيا متحركة تستفيد من ابعاد المسرح، كما تستطيع ان تعكس بشكل مرئي انفعالات الشخصيات والمضمون النفسي للنص المسرحي([6]).
لقد لعب ابيا وكريج دورا كبيرا في وضع أسس حقيقية للتغيير في خشبة المسرح، وتحول توجهها من الثابت الى المتحرك، ومن الابتعاد عن اضاءة المكان فقط الى جعل الإضاءة تلعب دورا مهما مع الممثل لأرسال مبثوثاته المعرفية. لذلك كانت اسهاماتهم بالتجريب المسرحي قد تركزت في ثلاث جوانب. اولا : تعويض الديكور المرسوم بأحجام واشكال مجسمة , ثانيا : اخضاع كل ما موجود من تأثيثلفضاء المسرح لخدمة الممثل ، ثالثا : التناغم والتلاحم والتعبير المشترك لعناصر السينوغرافيا.
وهكذا بدأ مصطلح السينوغرافيا يتداول بين الأوساط المسرحية، وبين المخرجين المسرحيين تحديداً ،وبدأوا يتعاملون مع شخصية مهمة، وجديدة اطلق عليه البعض مصمم السينوغرافيا ، والبعض اطلق علية المخرج السينوغرافي. هذابفضل ،فن العمارة ، الذي كان له الأثر الكبير في نفوس وعقول وخيالات المصممين لفن الديكور او المناظر المسرحية، حيث كان ما يشاهده المهتمين بالمسرح والمناظر المسرحية من تجارب لفن العمارة على الواقع، الدور الكبير في تحريك مخيلاتهم باتجاه تصميم المناظر المسرحية، وكون المسرح هو عملية تدوير للواقع المعاش في كل تفاصيله، والذي دأبت الواقعية الكلاسيكية على نقله كما هو، ومن ثم الواقعية الجديدة كما يراه المبدع او الفنان او المخرج، وهكذا انتقلت العدوى لمصمم المناظر لنقله حرفيا على خشبة المسرح، وأستمر هذا التأثير ليكون تحت انظار مصمم السينوغرافيا، الذي كان لفن العمارة دورا كبيرا في تصميماته.
الإحـــالات:
[1]) سمير عبد المنعم القاسمي، جماليات السينوغرافيا في العرض المسرحي الايمائي، Googl، 2/1/2019
[2]) ينظر: د إبراهيم حمادة، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية،(القاهرة: دار الشعب، 1971).
[3]) ينظر: د ماري الياس، د حنان قصاب حسن، المعجم المسرحي، ط2،)بيروت: مكتبة لبنان ناشرون ، 2008(.
[4]) ينظر: د جبار جودي، جماليات السينوغرافيا في العرض المسرحي، )بغداد : الزاوية للتصميم والطباعة ، 2011
([5]) أريك بنتلي، نظرية المسرح الحديث ، ترجمة: يوسف عبد المسيح ثروت، ط2، (بغداد: دار الشؤن الثقافية العامة، 1986 )، ص26.
[6]) ينظر: سعيد ناجي، التجريب في المسرح، (الشارقة: دائرة الثقافة والاعلام ، 2009).
مجيد عبد الواحد النجار