النص المسرحي بين ولادتين. طبيعية وقيصرية/ عبدالصاحب ابراهیم اميري
(إنَّ صیرورة الإنسان مؤلفاً لا تختلف کثیراً عن صیرورته أمَّاً، فلابد أن یکون حمل، ثم مخاض، ثم وضع، وکل مؤلف لابد أن یکون قد لاحظ هذا التشابة بین العملیتین )) لو تأملنا هذا التعریف للکاتب (تشانج بوللوک) . لوجدنا إنَّ ماجاء فیه هو عین الحقیقة.
نتیجة اتصالي بعدد من الشباب ومطالعة کتاباتهم وتکوین عدة مجامیع تعتمد علی تربیة الکاتب المحلي، طلبت یوما ً من أحدهم وکان حدیث العهدِ بالکتابة المسرحیة، أن یکتب عملاً مسرحیاً في مناسبة معینة، فجاءني في الیوم التالي ومعه مجموعة کبیرة من الأوراق فسألته مندهشاً
– ما هذا ؟
– کتبت عدة أعمال
وعندما قرأت ما کتب لم أجد أکثر من تقیؤ علی الورق (مع الأعتذار علی هذا التشبیه) فهو أجهض الجنین، وقتله منذ الوهلة الأولی لتکوینه، ولم یسمح لو حتی بالتکوین الأول، أعتقد إنَّ الأمر لازال غامضاً بعض الشي، ولتوضیح ذلک نعود الی هذا المصطلح ،(المعاناة )
فالکاتب المسرحي قبل أن یکون کاتباً یجب أن یکون محققاً ومحللاً ، یعیش أیامه من أجل أن یفهم، ما الذي یرید قوله، وکیف یقول کلمته، فیغور في عمق الموضوع حتی یجد الکاتب صعوبةً في فصل الشخصیة عنه، ومن ثم یخرج بنتیجة حقیقیة ثابتة، فهو کالحاکم العادل.
فهم من هذا إنَّ الکاتب یجب أن یتأمل، یعاني، یفکر، یذوب، ویعشق والعشق یجعل الولادة : طبیعیة. وبعد ذلک یبدأ بالکتابة. لابد من القول إنَّ المعاناة والتفاعل مع الحدث ضروریة جداً في الکتابة بأنواعها. قصة کانت أم موضوعاً أما في المسرحیة تظهر بشکل أخص في العمل المسرحي. والدلیل علی ذلک إنَّ تعاملنا في المسرح تعامل حقیقي، أمام شخصیات حقیقیة وأحداث واقعیة حتی إننا نلاحظ إنَّ بعض الکتّاب ولکي یجسد حالة معینة یقترب منها وهذا ما حدث لي مراراً ، أتذکر مرةً عندما أردتُ أن أکتب مسرحیة (هو الذي یتحدثون عنه کثیراً ) عشت شخصیة (أبو الکوکي) بطل المسرحیة، أحببته، هربت منه، أستعطفته، حلمت به، حتی جرني هذا الحلم، لأکتب مسرحیة (هو الذي یتحدثون عنه کثیراً ) وجئتُ بـ ( أبو الکوکي ) للمسرح، لیشاهد العرض الأول، أندهش وقال :
– هذا أنا …. هذا أنا بحق
صفق الجمهور طویلاً لهذا العمل، وحاز علی الجائزة الأولی وعرض مرات ومرات وتناولته الصحف بإهتمام بالغ، حتی أصبح فخري والسبب یعود الی إنني عشت الحالة، لمستها، أضفت إلیها، فأصبحتُ کالرسام الذي ینوي أن یرسم منظراً طبیعیاً علیه أن یعیش المنظر قبل تصویره.
وخلاصة القول یمکننا أن نسمي فترة التأمل والبحث والتدقیق فترة الحمل، والحمل هنا لیست له مدة محدودة وتختلف فترته بإختلاف الموضوع والکاتب، فبعد دراسة طویلة قد تؤدي الی أجهاض، فیترک الکاتب الموضوع. ولكي نصل الي رؤيا كاملة علينا ان نقف عند المخاض.
المخاض في النص المسرحي:
بعد أن یتم الحمل والحصول علی الموضوع، تبدأ عملیة المخاض. وعملیة المخاض هي الإنتخاب الأصعب، بعد أن یری الکاتب إنَّ موضوعه أصبح واضحاً لذا علیه، أن یصب الموضوع بالقالب (الشکل المسرحي) لیخرج إلینا المولود الوسیم، المحبوب الذي طالما حلمت به الأم.
نعود للحدیث عن الشاب الذي کتب عدة أعمال في لیلة واحدة، فإذا أعتبرنا إنَّ ما دُوّن علی الورق في المرحلة الأولی هي بدایة الحمل، وأعتبر الکاتب إنَّ ما کتبه یجب أن یراجع ویدقق ویدرس ویناقش في اللیالي القادمة وإنَّ لا یکون متعصباً لنتاجه في المرحلة الأولی، ومن ثم یقارن ما کتبه علی الأشکال الحقیقیة الموجودة في المسرح حینئذ یتمکن هذا الکاتب من الکتابة والإبداع في النهایة، فالتعصب یقتل العمل في مکانه وهو في نفس الوقت لازم إذا وصل صاحبه الی الیقین والإیمان بالمنتوج، وإنَّ أغلب الأعمال العالمیة المعروفة والخالدة، قد أعیدت کتابتها مرات ومرات الی أن ظهرت لنا بهذا الشکل الموجود حالیاً ، فالمسرحیات الممثلة علی مسارح ( بردواي ) .
لا تطبع في کتاب الا بعد أن تمثل ویکتمل شکلها، فالشکل الحقیقي للمسرحیة لن یتکامل الا بعد تمثیله، فالأم عندما تضع ولیدها ستمر بمراحل جدیدة أخری تختلف کل الإختلاف عن مراحل الحمل والمخاض، فالکاتب کذلک فبعد أن یکتب عمله المسرحي ویظهر الی الوجود کنص ناطق علی الورق، علیه أن یدرس ردود الفعل بعد المواجهة، فهو أشبه بالحاکم حین یصدر أمراً معیناً ، علیه أن یلاحظ ردود فعل الرعیة علی بیانه دارساً کل الأجواء المحیطة بالبیان .