هذيان الصمت ورحلة الحذاء المتهرئ/ د. طالب هاشم بدن
كتب المؤلف الدرامي (علي العبادي) مجموعته المسرحية التي جاءت تحت عنوان (برّاد الموتى ) والتي تألفت من سبعة نصوص جدلية تحاكي الواقع صدرت عن دار إبن النفيس في عمّان عام 2019.
الزمان : الخراب الذي حل بنا .
المكان : بقعة لا يسكنها أحد .
الموضوع : تحول مفاجئ دون انذار مسبق .
من الطرافة أن تجد مكاناً غرائبياً يبعث على السخرية واللامبالاة ويؤدي إلى عوالم من العبث واللامعقول اختار بؤرته الكاتب كتعبير عن سخطه واحتجاجه على ما يجري من حوادث تكاد لا تصدق يحيلنا إلى اللامتوقع حدوثه ضمن (حذاء) أجلس فيه شخصيته واخذ يخلق علاقة ترابطية متبادلة بينها وبين ما يدور حولها من تداخل دراماتيكي ، إذ إن موقع جلوس شخصيته في داخل قعر حذاء وصف بأنه عاقر أي فردي لا قرين له دلالة مهمة على سقم ووضاعة العلاقات المتخفية في قعر حذاء ناتجة عن أوجاع الزمن هاربة من قيء المجتمع المتدني البالي ؛ تلك العلاقات الجدلية التي نمت وتولدت بين الحذاء والشخصية اخذت طابع السخرية من منبثقات الواقع الهزيل التي تطورت عبرها حبكة المسرحية المسماة ( حذائي ) ، إذ يحاول الكاتب ايجاد وصف مناسب لواقع قل ما نصفه بأبشع صور من الوضاعة والسخف ، ظهرت عبر حلقة من الحوارات والمتاهات التي وضعها الكاتب بين أيدينا بلغة محبوكة وأسلوب تهكمي سلس قل ما نجده متناول في المسرحيات التي تناولت أو أرادت الخوض في غمار السخرية اللاذعة من المحيط ومخلفاته على إنها تمثل الوجه القبيح الناقم على الواقع المعاش ، فنرى ( قيء ، حذائي ، براد الموتى ، أنا لست مجنوناً ) مسرحيات ناطقة بالحياة تخاطب مجمتع مات ولم يستطع النهوض بعد وهي بمثابة صرخة مدوية على ما نعيش ، وظفها الكاتب في أسلوب بنائي على وفق تناسق درامي في حبكة متناسقة الاوجه متناغمة مع ما يدور من حوادث ، إذ إن الحدث الاهم هو فقدان الانا وضياع الذات في مجتمع أقل ما يمكن وصفه إنه متهرئ يعاني شخوصه اختناقات وضيق الافق لا أمل أو حياة مرجوة من اسعادهم ، وجوه بلا ملامح ، أجساد بلا روح ، اتشحت بالاحزان ولا أمل في اطلاق العنان لروحها المكظومة ، كل ما هو متحرك جنائزي مسلوب الارادة يلاحقه تابوت قسري ركّب على مقاسٍ آدمي يطاردهم أينما ذهبوا ..
الموت هو السائد واللغة التي حضي بها البناء الدرامي صوت الموت وصداه الذي منفك يلاحق ارواحاً خاوية عارية وكأن الاعمار تمضي مسرعة نحو الهاوية ، والاجال منتظرة ماكنة الموت تدور رحاها كل حين ، تغرس أنيابها في نعوش توجعت عبر متاهات الزمن وسرعان ما تنادي ( من القادم ؟؟) . فمثل هذه الحوارية اتسمت بالبديهية وطغت على مجريات النص الدرامي تصف عالم تزاحم بأوجاعٍ تماهت في قعر حذاء اختارها الكاتب ضمن بحبوحة ورسم حوادثها في مكان غير متوقع السكن بل من غير المعقول حدوثه ، الا ان كاتبنا ضيّق من فسحة المكان ليضفي على روح النص غرائبيته وضيق العالم من حوله ، فالشخصية لا تجد قرينها وصار من الصعوبة بمكان تجانسها مع من حولها حتى وجدت الهروب إلى قاع ( حذائي) ملجأً يتناسب وعظم الكارثة التي حلّت بتلك الشخصية ومحاولة التعرف على الهم المشترك ما بين حذاء وتلك الشخصية التي تجلت فلسفة النص في ثناياهما واخذت أبعاداً طوباوية من الصعب تجانسها والتكهن في مكنوناتها بسبب كثرة تناقضاتها التي تمثلت في (أرض مصلوبة في افق الدم ، رغم كل الدم صلبتم .. هويات بلا عناوين … قاتلك أسمك… الخ ). في اشارة إلى القتل على الهوية وما حل من فرقة مذهبية حتى صار الواحد منا ينكر ذاته من أجل النفاد بجلده . فوجدت مثل هكذا تناقضات في علاقة جدلية رفدت أركان النص الدرامي . يذهب الكاتب إلى أسلوب الاسترجاع من خلال ذكر قصة واقعة الطف التي يستذكرها طائفة من اصحاب ومحبي اهل البيت التي ما زال لهيبها يسعر أفئدة المحبين ، لكن هناك من أتخذ من تلك القصة الاليمة وعاءً يملأ ركابه فضة وذهباً متسلقاً على مبدئها متخذاً منها هوية كاذبة لعناوين زائفة باسم المذهب والدين شوهت كل ما هو أصيل وجميل جاءت من أجله عبر الاجيال التي سارت على هداها ، الامر الذي جعل الكاتب يتناول تلك القضية ناقماً على تلك الافعال الدنيئة .
إن اقتناص الكلمات واستعارة وتناص الحواريات بلغة أسلوبية عالية جعلت من النص يغوص في أعماق الواقع عبر سردية مونودرامية يمكن وصفها إنها كتبت بعناية فائقة وخيال خصب تنقل في عوالمها ما بين التحريض والثورة تارة نجده ناقماً وتارة قائداً يتجول بين جيوش من الابطال الرابضين على القمم حتى تكشفت خفايا موت وضع على قارعة طريق مجهول لا يعرف حدوده ولا أفق واضح له وصارت النفس لا قيمة تذكر لها وصفها الكاتب على إنها كلما يهز جذع العراق يتساقط القتل عليهم جنيا ، وتشير هذه الجملة إلى اقتباس واضح ومتميز عن النص القرآني الكريم وقد أجاد الكاتب في وصف مشهد من القتل والارهاب الذي فتك بأبناء جلدته طيلة سنوات عجاف تميزت بطابع دموي لا رادع له .
إن محايثة النص الدرامي ما هي إلا سلطة بنائية لنص مغاير أراد من خلاله الكاتب الولوج في عوالم المدركات الحسية التي تم أسقاطها وتحويلها إلى لغة من أجل الانتباه ومعرفة تأثير الذوق بالرائحة بشكل واضح ، ومن ثم عودة الزمن المفقود وما حدث يمكن أن يعود ، فبالامس قتلوا رضيع وحفيد نبي وابن بنت نبيهم … فكل أوجاعنا فوضى أراد النص تجسيدها بعفوية وأصرار ورسم أبعادها عبر دهاليز خبأت بين ثناياها ركام من أوجاع وطن … وطن طغت على أحلامه المأساة وتشبعت أرضه بدماء الابرياء ودموع بكاء الثكالى الامهات ، لا هوية تذكر ولا عنوان سوى دمار وقتل بلا رحمة تجلت في شلة قتلة لا هم لهم سوى جني المال والقتل على الهوية وأسكات الاصوات المطالبة بالحرية والداعية إلى سد الرمق بلقمة عيش لأفواه فاغرة جاعت ولا تريد العبودية ، اختار كاتبنا اللجوء إلى مأوى تمثل في قعر حذاء وصفه بمسكين متهرئ أراد من خلاله صب جام غضبه على حقبة من الدخان والبارود لم تجد غير تلك البقعة لتكون منتجعاً لمفرقعاتهم القاتلة التي حصدت ارواحاً بالجملة تكالبت عليهم أيادٍ خبيثة طمست هويته وخرّبت حضارته ، إذ إن النص تماهى في وصف الخراب والدمار الذي حل ببلدنا وكسر الصمت من فوهة حذاء خائر القوى لكنه اطلق له العنان في التعبير عن مكنونات نفسه وظل يحلم بأنفاسٍ متقطعة تداهمها أصوات وصرخات يعلوها اللا احتجاجاً ورفضاً لتلك العبثية الغائرة في جوف الانسان الصامت تحت سياط الموت ، بل هو طف يمتد عبر مراحل وأجيال مع الاجيال يتسابق مع الزمن المعدوم والمولود مع حركة العشاق والنائم ما بين الموت وآهات جوفاء تريد الحرية ، الموتى أحياء بلا مأوى ، لا عشبة تذكر ، كلكامش هذا الرجل الاسطوري الساعي إلى الخلود لم تنجه عشبة الخلود من الموت سرقتها أفعى ، إلا أنه خلّد نفسه عبر بناء وعمران .. ما نحتاجه هو عشبة سلام نفتقدها مذ كنا وصرنا ولا زلنا نحلم بأمان ، أصوات امتزجت .. صرخات .. آهات .. تحولت كل نسمات الحب إلى دخان .. رماد .. اختلطت أصوات مع وقع الانفجارات .. لا نملك غير اللاءات انطلقت من جوف حذاء متهرئ ….
د. طالب هاشم بدن