مسارح شــــــ7ــــــارع/ إحسان الخالدي
من المشهور على نطاق واسع؛ أن شارع برودواي في مدينة نيويورك واحد من أبرز المراكز المسرحية في العالم، تقدم على مسارح برودواي عروض متنوعة لاسيما المسرحيات الموسيقية والكوميدية التي يؤدي أدوراها الرئيسية في الغالب نجوم السينما العالمية. وقد ظهرت مسارح مرادفة في نيويورك منذ فترة الخمسينيات من القرن الماضي، أطلق عليها مسارح خارج برودواي وخارج خارج برودواي والتي تقدم عروض من المسرح التجريبي والطليعي.
إذن ماهي مسارح شارع 7؟ إنها مسارح وسط مدينة واشنطن – العاصمة الأمريكية، يتوسط الشارع الحيّ الصيني الحيوي والزاخر بالنشاط التجاري والسياحي حيث العديد من المطاعم والمتاحف. وللمفارقة أن هناك مسارح تقع خارج شارع 7 تقدم في الغالب عروضا من المسرح التجريبي والطليعي. أحاول أن أسلط الضوء على هذه المسارح كلما كان ذلك ممكنا لإطلاع المعنين والمهتمين على نمط العروض المقدمة في مسارح شارع 7 وخارجه، والتعرف على بعض التجارب في المسرح الأمريكي المعاصر. والبداية مع ( مسرح سينـَتِك) وهو من المسارح التجريبية خارج شارع 7.
مسرح سينـَتِك Synetic Theater (المقال 1)
مسرح سينـَتِك Synetic Theater؛ إنه مسرح الجسد بامتياز، وتنتمي عروض هذا المسرح إلى الطليعية (avant-garde) لكنها طليعية مابعد حداثية. هذا المسرح يتعاطى مع الجسد على أنه طاقة خلاقة للتعبير عن أفكار وتصورات فنية وإنسانية على نحو مدهش. تتماهى عروض هذا المسرح مع”الجسد” و”التجسد” و”الجسدية” بوصفها لغة تعبير فني خالص؛ لا يتبادل الممثلون أي كلمات بتاتا، بل الحركة والرقص والموسيقى تمتزج مع “جسد” العرض. الرقص ليس بمعناه الحرفي إنما الرقص التعبيري، والموسيقى تشكل عنصرا مهما في عروض هذا المسرح. ولا تقل بقية العناصر المسرحية أهمية وحيوية في أداءها الفني، إذ تسهم الأضواء الساحرة والمتغيّرة والأزياء الغريبة والبشعة أحيانا بخلق عوالم وبيئات مثيرة وغير مألوفة، ويمكن مشاهدة سينوغرافيا غرائبية والتي تعتبر سمة مميزة في عروض هذا المسرح.
يدير المسرح ويشرف عليه المخرج الأمريكي من أصل جورجي (باتا تسكورشفيلي Paata Tsikurishvili)، وتشاركه المسؤولية زوجته إرينا Irina Tsikurishvili المتخصصة بالكيروغرافيا والتي تشرف على تصميم وتدريبات كيروغرافيا العروض. إذ الكيروغرافيا عنصر أساسي في أعمال المخرج (باتا). بدأ المخرج (باتا) مسيرته مع مسرحية “هاملت” 2002 على مسرح صغير في مدينة أرلنغتون Arlington الواقعة على الضفة الغربية لنهر بوتوماكPotomac الذي يمر بمحاذاة العاصمة واشنطن. واستمر (باتا) بتقديم عروض تستند على مسرحيات شكسبير بالإضافة إلى إعداد روايات معروفة مثل (بيتر بان)، (أحدب نوتردام) والرائعة الاسبانية (دون كيخوته) وغيرها. حصل مسرح سينـَتِك على جائزتين من جوائز هيلين هايز “Helen Hayes Award” في 2010؛ وهي جائزة مسرحية تحمل اسم الممثلة الأمريكية هيلين هايز( 1900- 1993)، وتمنح للاعتراف بتميّز “المسرح المحترف” في واشنطن العاصمة منذ عام 1983.
لقد حصلت شخصيا على فرصة التدريب تسعة أشهر مع مسرح سينـَتِك، ودرست بين يدي أربعة من أعضاء هذا المسرح بينهم إستاذة التمثيل، الأمريكية كارول كابي Carol Cadby، وإرينا زوجة المخرج باتا، وأليكس ميلس Alex Mills أحد الممثلين الأساسيين في هذا المسرح. وشاهدت العديد من عروض (باتا) كان أبرزها مسرحية “عطيل“. وقد وجدت نفسي منقادا للحديث – وإن بصورة مختصرة- عن التقنيات الأساسية لهذا المسرح.
يعتبر الجسد عنصرا أساسيا في عروض مسرح سينـَتِك؛ الجسد بما يمتلك من أدوات توصيل غير لفظية – الحركات والإيماءات والتعبير الجسماني- تكون في الغالب غير مألوفة، وليس الجسد بوصفه أداة للتعبير الحركي المجرد، المتكرر، الجامد. وهدف الوصول إلى جسد ناطق وليس (لوح متحرك)، يتطلب من الممثل التدريب لفترات زمنية طويلة حتى يمتلك المرونة والليونة والسيطرة على عضلات وأجزاء الجسد، وتصبح لدى الممثل قدرة كاملة باستخدام مناطق من الجسد لم تكن مأهولة جماليا، بمعنى أن يكون الجسد مطواعا فوق العادة، ويجتاز الأداء الجسدي السائد. على سبيل المثال تستخدم اليدين كفراشات طائرة، يتحرك الرأس بطريقة منفصلة عن بقية أجزاء الجسد، ربما أبلغ تلك الحركات، أن تشاهد الجسم يتسلق الهواء كأنه يمتطي حصانا أو حيوانا اسطوريا. إن الأداءات الجسدية غير المألوفة تصبح عند المخرج (باتا) فعلا جماليا مثيرا ومؤثرا ومدهشا. على سبيل المثال مسرحية عطيل، كان على الممثل أن يلعب الدور كما في نص مسرحية شكسبير تماما، لكن دون أن ينطق بكلمة واحدة على مدى ثلاثة ساعات ونصف من زمن العرض. مع الإشارة إلى أن العرض لم يخلو من الأداء الكيروغرافي الفردي والجماعي الذي ينسجم بطبيعة الحال مع رؤية المخرج.
كيف يؤدي الممثل واحدة من شخصيات شكسبير – سواء عطيل أوغيرها- دون أن ينطق بكلمة واحدة؟ ماهي الأدوات التي تساعد الممثل على استمرارية الأداء وتدفق المشاعر وتنامي الشخصية أثناء العرض من دون كلمات؟ ماذا يوفر “الجسد” من امكانيات للتعبير وطرائق اقناع لأداء شخصية عطيل مثلا؟
إن تأهيل الجسد في مسرح سينـَتِك يتطلب تدريبات استثنائية وجهود مضنية لفترة طويلة من الزمن حتى يصبح الممثل مستعدا للتعبير بجسده عن مواقف وحالات متنوعة. المقصود بالتعبير الجسدي هنا ليس الجسم فقط، بل إجزاء الجسد كافة مثل الرأس والصدر والبطن، اليدين والرجلين بالإضافة إلى تعبيرات الوجه الخاصة بالعينين والشفتين والاذنين والأنف والحواجب وحتى فروة الرأس. علينا أن نكون أكثر دقة، عندما نقول الصدر يعني ذلك عضلات الصدر المتمثلة بالثديين أو الكتفين وغيرها، وعندما نقول البطن فذلك يعني تقسيم عضلات البطن بطريقة يمكن تحريك أجزاء منها دون غيرها. كذلك مع بقية أجزاء الجسم الأخرى، فكل جزء ينقسم إلى أجزاء أصغر وأصغر.. وهكذا حسب قدرة الممثل ومهارته في السيطرة على الجسد وتقسيمه إلى أجزاء صغيرة يمكن لها أن “تتجسد” جماليا. ويشتغل المخرج (باتا) خلال تدريبات مكثفة ومركّزة على الاتصال غير اللفظي.
تعتمد التدريبات في مسرح سينـَتِك على اتجاهات مسرحية تُعنى بالجسد حصرا، منها على سبيل المثال (وجهات النظر) عند آن بوغارت Anne Bogart* و(تحليل الحركة) عند رودولف لابان Rudolf Laban *. وسأحاول أن أكون دقيقا في استعراض مقتضب لكلا النهجين في هذا المقال.
تعمل آن بوغارت على تسع وجهات نظر جسدية ضمن الوقت والفضاء. بينما تركز على وجهات النظر الصوتية على الصوت بدلاً من الحركة. وتتداخل وجهات النظر الجسدية والصوتية مع بعضها البعض، وتتغير باستمرار في القيمة النسبية بالاعتماد على الفنان أو المعلم و/ أو أسلوب الإنتاج. وجهات النظر الجسدية هي:
1- الوقت / الزمن؛ ويشمل الإيقاع، المدة الزمنية، التكرار، والاستجابة الحسية الحركية.
2- الفضاء / المكان؛ ويشمل الشكل، الإيماءة (السلوكية والتعبيرية)، العمارة المسرحية، العلاقات المكانية، والطوبوغرافيا.
وتختلف وجهات النظر الصوتية اختلافًا طفيفًا عن وجهات النظر الجسدية (على سبيل المثال، لا تعمل مع الطبوغرافيا). تستخدم وجهات النظر الصوتية: الإيقاع، المدة، التكرار، الاستجابة الحسية الحركية، الشكل، الإيماءة، العمارة، الطبقة، الديناميكية، التسارع / التباطؤ ، والجرس والصمت. ويجب تقديم وجهات النظر هذه الواحدة تلو الأخرى. وسيؤدي تطوير كل منها على حدة إلى وعي ملحوظ بإمكانيات الأداة الصوتية لكل من المتحدث والمستمع. وتهتم وجهات النظر الصوتية بزيادة الوعي بالصوت النقي المنفصل عن المعنى اللغوي أو النفسي. فبدلاً من سماع على ما تدل عليه كلمة معينة فقط؛ نبدأ بمعالجة كيف يبدو الصوت؟ وكيف يحتوي على المعلومات وطاقة التعبير. وتشجع وجهات النظر الصوتية على اختيارات صوتية جوهرية وديناميكية، وتولّد موقفًا مغامرًا تجاه إمكانات الصوت من خلال الحرية والتحكم والاستجابة المدركة. وقد لا تقدر وجهات النظر هذه بثمن بوصفها أداة لتدريب الممثلين وصقل البراعة الصوتية لكن الوقت المخصص للتدريب على وجهات النظر الصوتية يوفر فرصة للتعامل مع نص المسرحية بطريقة غير نفسية أثناء البروفة، والتي بدورها تفتح إمكانيات جديدة وغنية في صياغة المشهد المسرحي. ويمكن أن يؤدي المتغير الصوتي إلى تغيير المعنى والتأثير.
تقول آن بوغارت في كتابها (وجهات النظر والتكوين): إن “وجهات النظر؛ فلسفة تترجمُ إلى تقنية لـ (1) الممثل / المؤدي؛ (2) بناء مجموعة / طاقم. (3) خلق حركة على خشبة المسرح. وهي مجموعة أسماء معطاة لمبادئ معينة للحركة من خلال الوقت والفضاء، وهذه الأسماء تألفُ لغة للحديث عما يجري على المسرح. وتعتبر وجهات النظر نقاط الوعي يستخدمها الممثل / المؤدي أو المبدع أثناء العمل. بينما يعرفها روبرت بلومنفيلد Robert Blumenfeld، في قاموسه الفني؛ ” يستخدم الممثل أو المبدع مجالات تركيز تفكيكية خاصة للتركيز على جوانب المشروع لأغراض تحليلية. وتم تطوير هذا الفكرة من قبل مصممة الرقصات ماري أوفرلي Mary Overlie* في السبعينيات من القرن العشرين. وكانت محاولة من أوفرلي لتضييق نطاق التركيز لأغراض الرقص التعبيري أو التفسيري*. كانت “وجهات النظر” تضم المكان والقصة والوقت والعاطفة والحركة والشكل. وقد تم تنقيحها من قبل آن بوغارت Anne Bogart، مع التركيز على جعلها مفيدة للممثلين. وقد تخلصت بوغارت من المشاعر والقصة، لأنها رأت بأنهما مستخدمتان على نطاق واسع.”*
أما (تحليل الحركة عند لابان)؛ إنه نظام تدوين بالحركة نشر في عام 1928، وهي طريقة عملية لتسجيل جميع أشكال الحركة البشرية ، والمعروفة باسم Labanotation لتطبيقه على جميع الحركات البشرية بناءً على علاقة الفرد بالمساحة المحيطة. وحددت الرقصات 12 اتجاهًا أساسيًا للحركة مستمدة من أشكال هندسية معقدة. وقد تم تصميم نظام آخر من أنظمته النظرية، يسمى eukinetics ، لزيادة تحكم الراقص في الحركة الديناميكية والتعبيرية. إن (تحليل الحركة عند لابان) طريقة تفكيك الحركة إلى أجزاء صغيرة أثناء الأداء الجسدي والتعبير الفني. وكلما كانت مهارات الممثل الجسدية خلاقة فأنه سيتمكن من تشغيل رموز الجسد العديدة على المدة المحدودة للفعل أثناء الأداء، للدلالة على مختلف أشكال الحركة على المسرح مثل الحركات البديهية اليومية والرقص وغيرها. لقد كان”لابان” يهتم بالحركة في الحياة اليومية التي لا يستند فيها نظامه إلى نمط الشخصية أو شكلها بل على قوانين عالمية كعلم الحركة أو الحركية .(Kinetics)
يحقق العمل وفق (تحليل لابان) أربعة عوامل للحركة: التدفق والفضاء والوقت والوزن. ذلك يساعد الممثل على التفكير بشكل محدد في السبب الذي قد تتحرك فيه الشخصية بطريقة مباشرة ومتشنجة، سريعة وخفيفة، أو بطريقة غير مباشرة وثقيلة وبطيئة ومتواصلة، على النحو التالي:
- التدفق: مقيد أو حر
- الفضاء: مباشر أو غير مباشر
- الوقت: مفاجئ أو مستمر
- الوزن: ثقيل أو خفيف
يعتقد لابان أن التمارين على العوامل الأربعة ستفيد كل حركة وتساعد الممثل في فهم حركاته الخاصة، وتوفر له وسيلة لاستكشاف كيفية تصوير الشخصيات التي يمكن أن تتحرك بطرية مختلفة عن ذات الممثل.
يمكن القول إن اشتغالات مسرح سينـَتِك؛ تتركز على “فيزياء الجسد” الفنية، لكنها فيزياء تتداخل، بل تندمج مع “كيمياء النفس” بكل تفاعلاتها العاطفية والفكرية. إنه مسرح يسعى إلى ترسيخ وجوده وتكريس أثره في الأجيال الجديدة عبر تقديم مسرحيات معروفة لدى مختلف الشعوب، كما ورد على الموقع الالكتروني لمسرح سينـَتِك Synetic:”إن مهمته الرئيسية دمج الأشكال الفنية الديناميكية مثل النص الدرامي، الحركة والألعاب البهلوانية، الرقص والموسيقى في عرض مسرحي يقدم لجميع الأعمار. يهدف إلى تثقيف المحترفين والجيل القادم من الفنانين على مسرح الجسد، وتعزيز هذا النموذج المختلف من المسرح على نطاق واسع من خلال جولات وبرامج توعية مجتمعية”.
للمزيد عن مسرح سينـَتِك يمكن الاطلاع على الرابط التالي:
http://www.synetictheater.org
===================================
*آن بوغارت Anne Bogart (25 سبتمبر 1951)، مخرجة مسرحية وأوبرا أمريكية. حاليًا واحدة من المديرين الفنيين لشركة SITI ، التي أسسها مع المخرج الياباني تاداشي سوزوكي في عام 1992. وهي أستاذة في جامعة كولومبيا في نيويورك، لها ثلاث كتب عن صناعة المسرح: A Director Prepares، You Act، What’s the Story?. وألفت بمشاركة تينا لانداو Tina Landau كتاب وجهات النظر Viewpoints.
*رودولف لابان ( 1879- 1958) ، براتيسلافا، النمسا-المجر [الآن سلوفاكيا]، مُنظِّر ومُعلم رقص، قدمت دراساته عن الحركة البشرية الأسس الفكرية لتطوير الرقص الحديث في أوروبا الوسطى.
*ماري أوفرلي Mary Overlie (1946- 2020)، مصممة رقصات أمريكية وراقصة وفنانة مسرحية وأستاذة ومؤلفة تقنية Six Viewpoints للمسرح والرقص. وتعد تقنية Six Viewpoints تعبيرًا فلسفيًا عن أداء ما بعد الحداثة ونظام تعليمي يتناول الإخراج وتصميم الرقصات والرقص والتمثيل والارتجال وتحليل الأداء. تم تدريس Six Viewpoints في المناهج الأساسية لقسم المسرح التجريبي في مدرسة Tisch للفنون بجامعة نيويورك منذ إنشائها (1978). وعلى الرغم من أنها انضمت إلى مسرح جودسون في وقت متأخر، إلا أن ماري، تنسب ابتكاراتها إلى تجارب جودسون تشيرش Judson Church. وقد انتظمت مع مجموعة نسائية تأثرت بأفكارها، أطلق عليها “التاريخ الطبيعي للراقصة الأمريكية”.
**الرقص التفسيري، واحد من أساليب الرقص الحديث التي بدأت حوالي عام 1900 مع Isadora Duncan. استخدمت موسيقى الحفلات الكلاسيكية لكنها كانت بمثابة خروج عن الرقص الموسيقي التقليدي. يسعى هذا النمط من الرقص إلى ترجمة المشاعر البشرية أو الظروف أو المواقف أو التخيلات إلى حركة وتعبير درامي، أو تكييف الحركات التقليدية إلى تعبيرات أكثر حداثة. وبعبارة أخرى، الرقص التفسيري: يصور قصة أو عاطفة محددة بدلاً من اتباع نمط مجرد.
*Blumenfeld, Robert: Blumenfeld’s Dictionary of Acting and Show Business, 2009. Peg.308
إحسان الخالدي (فنان مسرحي وإعلامي يقيم في الولايات المتحدة)