الفضاء المفترض في العرض المسرحي/ الدكتور قيس عودة قاسم الكناني
ان مفهوم الفضاء في المسرح جاء من لفظة (Espsce ) الفرنسية و(spsce) الانجليزية وهما مأخوذتان من ( spatium) اللاتينية التي تعني المسافة والامتداد واللا محدود، وكذلك تعني الفسحة الفاصلة بالمفهوم المكاني والزماني للكلمة، وفي اللغة العربية تترجم هذه الكلمة الى كلمة فضاء او فراغ او مجال او حيز, اما في المسرح فالفضاء المسرحي يشكل دلالات وتجليات عديدة وخصوصيته تتبع من كون المسرح يشكل نقطة التلاقي بين الادب والفن والممارسة الاجتماعية فهو كنص جزء من الأدب وكعرض يعتبر ممارسة اجتماعية وهو كفن يقوم على الفرجة والتوضِع بالمكان وهو يستعير الكثير من أدواته من فنون أخرى كالتصوير والعمارة.
والفضاء كالزمن في المسرح مفهوم مركب بسبب وجود مكانين وزمانين، زمان ومكان العرض، ولهما في هذه الحالة وجود مادي مكان العرض والفرجة والتجمع البشري – الجمهور- وامتداد العرض كزمن مقتطع من الزمن اليومي المعاش من جهة وكمكان وحيز وفضاء للعرض من جهة أخرى الذي يحوي الجمهور والعرض كمكان جغرافي يتمثل بمكان الحدث الدرامي المعروض على خشبة المسرح والصالة (المتفرجين) بالتالي يتم تميز الفضاء المسرحي بعدة أنواع وأهمها :
الفضاء المسرحي : هو تعبير يستخدم للدلالة على أي موضع يُقدم فيه عرض مسرحي (صالة العرض او المساحة او أي مكان آخر للعرض) أي انه المكان المسرحي بعلاقته بمكان اوسع هو المدينة او القرية او الكنسية او المعمل، والتداخل بين الفضاء المسرحي والفضاء الأوسع الذي يتوضَّع فيه له دلالات بغض النظر عن طبيعة العرض المسرحي، وفي نفس الوقت يكون للعلاقات التي تتشكل ضمن الفضاء المسرحي بين مختلف الفضاءات التي يحتويها (وهي الفضاء الدرامي الذي يتشكل على خشبة المسرح وفضاء المتفرج) تأثيرها على وضع العرض ومعناه لان بنية هذه العلاقات تعكس بنية العلاقات ضمن المجتمع المعني، وأفضل المثال على ذلك هو العلبة الايطالي. ([1])
الفضاء الدرامي : فهو العالم الذي يرسمه نص المسرحية من خلال الحكاية التي يرويها، وهو ما يسمى بفضاء الصراع أي بمعنى ان السمة الرئيسية التي تكتسي شكل الفضاء الدرامي هو الصراع بين الشخصيات الدرامية وتكوينات المكان المسرحي، وبين القوى الفاعلة في النص المسرحي والتي تشكل البنية العميقة للنص حيث يتكون ويتمظهر بشكل ما في البنية الظاهرية من خلال العلاقات المكانية المتولدة عن ذلك الصراع الدرامي، والفضاء الدرامي ليس مكونا مسرحياً بحتاً ووجوده لا يقتصر على النص المسرحي وإنما نجده في الشعر واللوحة التشكيلية والصورة وكل ما يصور علاقات بين قوى مختلفة. ولكن في الأدب المقروء يتشكل الفضاء ويأخذ بعدهُ المكاني من خلال عملية التخيل .. الذي يأتي نتيجة تخيل وتصوير افتراضي لا واقعي حقيقي لذلك فان الفضاء المتخيل هو الأقرب من حيث صورة الموضوع والاهتمام رغم ان الفضاء الدرامي في المسرح يأخذ بعداً محسوساً من خلال العناصر المرئية التي تتمثل بالديكور والسينوغرافيا .. وكذلك العناصر المسموعة داخل منظومة العرض المسرحي كالكلام الحواري والموسيقى التي دائما ما تسهم في تصوير الفضاء الدرامي من خلال أصواتها الموسيقية التي تعبر عن اجواء الفرح والحزن والرومانسية والألم … وغيرها، والموسيقى تسهم في تفسير استباقي للحدث الدرامي وتكشف عن صورة المكان او الفضاء الدرامي.
فضاء الخشبة: هو ذلك الجزء من الفضاء المتخيل الذي يتحقق بشكل ملموس ومرئي على خشبة المسرح، أي انه مكان الحدث المسرحي الذي يصورهُ النص ويمكن ان تستشف أبعاده من خلال الرؤية الإخراجية في كل عمل مسرحي وما يتضمنه الحوار الكلامي وباقي العناصر التي تسهم في تفسير العرض التي تحمل دلالات تفسر المكان (ظروف المكان، الاستعارات والتشابيه التي ترتبط بتصوير المكان ) ويتم تصويره فعلياً على الخشبة بعناصر الديكور البصرية والإكسسوارات والممثلين وحركاتهم وتنقلاتهم التي تنساق بسياق التعليمات والإرشادات الإخراجية وهذا الفضاء المرئي لا يمكن فصله عن فضاء أخر يُفترض وجودهُ خارج الخشبة (المكان الذي ترجع إليه الكواليس) كامتداد للفضاء المرئي او أي مكان ابعد يوحي به الحوار الكلامي او الدلالات المسرحية التي يبثها العرض كالألحان الموسيقية التي دائما ما تكشف عن الجو المكاني للعرض والتي تهيأ الأجواء للممثلين والحدث الدرامي، وغالبا ما يكون هناك فضاء محوري ترتكز عليه الأحداث وهذا الفضاء هو فضاء افتراضي او ما يسمى بـ(الفضاء المفترض) لأنه فضاء غير ملموس، وانما يوحي بوجوده من خلال الحوار او من خلال أصوات او علامات او شفرات دلالية مرمزة ترجع إليه على الخشبة. وهذا الفضاء المرئي يشكل نقطة تلاقي بين النص والعرض، وبين الفضاء المسرحي والفضاء الدرامي ويدركه المتلقي (الجمهور) بحواسه، وهو فضاء دال يتشكل من مجمل علامات العرض وله وظيفة ارجاعية. ذلك ان المتفرج وعلى مدى الامتداد الزمني للعرض يتعرف على العناصر الموجودة على خشبة المسرح مهما كان وضعها ودورها، ويرجعها الى شيء ما في الواقع أي بمعنى ان الفضاء الافتراضي هو نتاج المخيلة التي جاءت به من الطبيعة الحياتية وبالتالي فان تصويره وتشكيله هو من مرجعيات الطبيعة الحياتية، لذلك فان لهذا الفضاء وظيفة شعرية تنبع من التداعيات الذاتية التي تتولد لدى منفذ او قائد العمل وتفترض تداعيات أخرى ذاتية عند الطرف الاخر للعرض وهو (المتلقي) حيث تفترض عنده تداعيات تخيلية تجعله يتصور شكل الفضاء الافتراضي وهذا ما يسمى بـ(الفضاء الداخلي)، أي بمعنى يُرسم ملامح الفضاء الداخلي عند المتلقي بصورة ذهنية افتراضية، اما الفضاء المرسوم على الخشبة هو فضاء محاكاة. وهذه المحاكاة تتم بالتصوير وبحركة الممثلين وأصوات التي ترافق العرض من موسيقى ومؤثرات وصياح وأحداث أخرى التي تصاحب العرض والتي تشكل ما يسمى بـ(الفضاء اللعبي) وهو ضمن حيز الأداء مع تفاوت في نسبة سيطرة هذا البعد او ذاك حسب طبيعة وطريقة العرض المسرحي، لذلك يسمى الفضاء اللعبي في بعض الأحيان بفضاء الحركة او فضاء التمثيل وهو ما يحيط بحركة الممثل ولعبه أي تمثيل الأدوار وهذا الفضاء- (الفضاء اللعبي) – هو الذي يرسمه الممثل بحركته الجسدية ونبرات صوته ضمن حيز اللعب، ويعتبر فضاء متحرك سريع التغيير لا يتحدد بحدود على العكس من العناصر الثابتة على خشبة المسرح كالديكور والكتل السينوغرافية الثابتة، كما يعتبر عكس فضاء المحاكاة الذي غالباً ما يتكون من خلال التصوير الافتراضي الذي يرتبط بالتخيل والخيال والذهن، لكنه أيضاً وبسبب حركته ومرونته التي ترتبط بحركة الممثل وتنقلاته الجسدية فهو قابل لاستيعاب أي إضافات جديدة فيمكن ان يمتد الى حيز الجمهور المتفرجين اذا استخدمه الممثل وحسب التعليمات الإخراجية للعرض، اما بالنسبة للاهتمام بالفضاء اللعبي فانه امر حديث نسبياً ارتبط بمحاولة تحديث المسرح وتأثره بالدراسات الانثروبولوجية الحديثة التي تطرقت الى علاقات التباعد والتقارب بين الممثلين، أي التشكيل الحركي الذي يرسمه مجمل الأداء التمثيلي، والى الفضاء الذي يرسم حول جسد الممثل ويتصور ويتشكل من خلال حركته على خشبة المسرح وعلاقة جسده في الفراغ بأجساد بقية الممثلين، بالإضافة الى تأثير شكل المكان على الإدراك والتلقي وهذا ما سمي بـ (علم الحركة ) الذي في التواصل من خلال تعابير الوجه والإيماءات التي تخص الوجه، ومن ثم كيفية التعامل من الفضاء بمكوناته، ومن خلال هذا التصوير الجديد، ادى منذ بداية القرن العشرين الى فتح آفاق جديدة في مجال السينوغرافيا، ومن ثم وفي فترة لاحقة تعامل الإخراج المسرحي المعاصر مع الفضاء الدرامي بشكل جديد فلم يعد يكتفي بتجسيد المكان الذي تدل عليه الإرشادات والملاحظات والأفكار الإخراجية، صار من الممكن تصوير بنية العمل والعلاقات بين الشخصيات والقوى هندسياً على خشبة المسرح. ([2])
وبالتالي يتعلق الفضاء المسرحي بقدرة الصورة على التضمن عندما تتشاكل مع المحيط المسرحي في عناصره المختلفة، وان صورة الفضاء المسرحي لها دلالات مفهومية في علم الأعراف، وان الديكور المسرحي او (الغرض*) او الأزياء كلها صور وعلامات تدل على شيء محدد وليس على غرض بعينه، ففي داخل الفضاء المسرح تتحول التشكيلات الصورية الى فضاء احالي، فاذا كان الفضاء المسرحي فضاء بيت، مثلاً، فأن علامات وصور البيت تدل على الذوق والثقافة والطبقة والعمل الذي يمارسه صاحب البيت، فالازياء مثلاً والديكور والحركات المسرحية واصوات الالحان الموسيقية لا تحمل الكمية نفسها من الصور الدلالية الناجمة عن الوظيفة الاجتماعية لهذه الاشياء في الحياة الحقيقية وانما تقتصر على ما هو ضروري ويخدم العرض، بمعنى حسب ما يتطلبه الفكر الإخراجي الذي يسهم في انجاح ودعم العرض المسرحي جماليا وفنياً.
كما ان المشكلة في الفضاء المسرحي هي انه فضاء محمول على تعدد الدلالات، فعندما تركب الصورة مع مجاورتها تأخذ بعداً بصرياً اخر، ثم تنحرف الى بعد دلالي اخر، وهذا ما يميز خاصية المسرح الرمزي او التعبيري، فتكون امام حزمة رمزية تأخذ مداها التأويلي فقط عندما يحددها الفضاء الذي قد يكون فضاءً حزيناً مظلماً او ضوئياً، كما يحدد الخطاب العام للمسرحية ايضاً، من خلال التحكم بالدلالات البصرية والسمعية التي تتشارك مع الممثل،” فالديكور وجسد الممثل وحركاته وكلامه والصوت والموسيقا كلها تتحدد وتحدد على الدوام عبر تغير شبكة من المعاني الأولية والثانوية(…) وهذا ما يميز فضاء المسرح الطبيعي الذي يعتني بأدق التفاصيل المكونة لهذا الفضاء، بحيث تصبح العلامة دالة على الشيء ذاته، وتفقد ديناميكيتها. وهو ما اسماها (رولان بارت ــــ مرض العلامة) في بعض الأحيان يغطي الفضاء المسرحي على حقيقة الأشياء شجرة حقيقية بجانب شلال مرسوم، طاولات وملابس تاريخية متحفية، طعام حقيقي، كل هذه الأشياء تتجاوز صورياً بل تركب وتتعالق افتراضياً في فضاء هو غير فضائها الواقعي أي بمعنى انها تفترض وجودها، فتكون المجاورات غير القصدية مقبولة والتركيب في فضاء المسرحي مليء آنذاك بالدلالات المضمنة، فضاء البيت يمكن ان يدل على السكن او السجن او العزلة والموت، والفقر، أي تركيبته الصورية هي التي تحدد دلالاته فقد تكون طبقية، طوبوغرافية او نفسية او اجتماعية او أخلاقية، اذ تعتمد على الأعراف التي يحاول المخرج تقريبها الى ما هو معمول بها في بيئته الثقافية، فضلاً عن ان الكلمات التي تتلفظ بها الشخصيات تقوم في الفضاء المسرحي بوظيفة معينة بالنسبة لجمهور المسرح، فالعرض المسرحي لا يقتصر على خشبة المسرح، بل يشمل ايضاً الصالة وجمهور المتلقين.
الإحـــالات:
[1])) ينظر: ماري الياس وحنان قصاب، المصدر السابق،ص338
[2])) ينظر: ماري الياس وحنان قصاب ، المعجم المسرحي (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون،1996)ص337-340
* (الغرض): في المسرح، تعني الحاجة او القصد – تقابلها Object في اللغة الانكليزي والغرض فيما يعنيه يندرج في ما هو مادي مقابل فضاء فكرة ما.