طنجة المشهدية .. تداهم الأماكن الأخرى/ بقلم : كريم الفحل الشرقاوي
لا جدال أن إصرار منظمي ” طنجة المشهدية ” على تنظيم مؤتمرهم الدولي في زمن الجائحة و في مقدمتهم الدكتور خالد أمين هو إنجاز استثنائي سيسجله التاريخ للمركز الدولي لدراسات الفرجة و لشركائه و لكل المنظمين و الباحثين و المترجمين و الفنيين و التقنيين … الذين ناضلوا باستماتة لإنجاح الدورة السادسة عشرة لمهرجان طنجة المشهدية الذي صار يتبوأ مركز الصدارة ضمن لائحة المهرجانات العربية والدولية التي تنحت عميقا في نسيج ” الفرجة ” لا في انكفائها و تمركزها سواء في الهنا أو في الهناك .. و إنما في صيرورتها و ارتحالها و تلاقحها و تناسجها مع مختلف الثقافات المتجاورة و المتجاذبة .. وذلك من خلال أوراش علمية محكمة و رصينة .. و مباحث فكرية مقعدة و متجددة المحاور يرصدها باحثون مرموقون من مختلف الجامعات و المراكز العربية و الدولية معززة بفرجات مسرحية محلية و مغاربية و مشرقية وغربية تعكس ركحيا و إبداعيا هذا التنوع وهذا الاختلاف المغذي لخصوبة ودينامية التناسج الثقافي .
ولا تقف جهود المركز الدولي لدراسات الفرجة عند هذا الحد بل تتخطاه إلى إغناء وإثراء المكتبة العربية بإصدارات علمية وفكرية رصينة (كتب ومجلات ونشرات) انطلاقا من توثيق و نشر حصيلة مؤتمراتها العلمية مرورا بإصدارات نقدية و ترجمات فكرية رصينة وصولا إلى الإصدارات الإبداعية للنصوص الدرامية… ما يجعل من طنجة المشهدية أحد أهم المنارات المسرحية و الثقافية في العالم العربي .
فرجات الشارع والامكنة الاخرى :
يتبدى جليا من خلال محور الندوة الدولية ” مسرح الشارع والأ مكنة الأخرى ” أنه لا يروم مقارعة مفهوم مسرح الشارع في تعارضاته وتقابلاته التقليدية مع العلبة الايطالية بقدر ما يحاول تنزيل إنعطافة أدائية في اتجاه فضاءات وأمكنة أخرى متغايرة بعضها ينكفئ على تقعره وتطرفه الفضاءاتي واغترابه السوسيوثقافي كالمقابر والملاجئ والسجون وسراديب المناجم وغيرها … وبعضها أنتجتها الحداثة المفرطة كأماكن العبور والأسواق الكبرى الممتازة ووسائل النقل الحديثة ومحطات الميترو غيرها … إنها باختصار اللا أمكنة كما يصفها الأنتروبولوجي مارك أوجي marc auge متسائلا : ” أين أنت حين تكون في الطريق السريعة أو في محطة القطار أو في مطار أو في طائرة أو في فندق او في مساحات التجارة الكبيرة او في مخيم لاجئين ؟ أنت في فضاء السرعة والعبور والمؤقت . أنت لست في مكان وإنما في اللامكان “(1) .
هذه اللاأمكنة أو الأماكن الأخرى هي نقيض السكن و التساكن والإقامة الوشائجية والمأوى الأسري المنتج للخصوصية الحميمية .. أي أن هذه الأماكن تفتقد لجذور شجرية متواشجة مع الذات والكينونة .. إنها ” الهيتيروتوبيا ” كما نحتها ميشيل فوكو باعتبارها أمكنة أخرى مفارقة لليوطوبيا .. أغلبها ملتصق بأعطاف الواقع كالأماكن المهجورة .. أطلال الحرب المدنية .. الحمامات التقليدية .. المشرحة .. فضاءات العبور .. دور الدعارة و غيرها … كما حاول فوكو القبض على بعض الملامح النتئة للاأمكنة الأخرى باعتبارها أمكنة تقوم باقتطاع الزمن وترصيصه وتصفيفه داخل العناية المركزة كفضاءات المتاحف الفرعونية والمكتبات العتيقة والأرشيف العام الرهيب والسحيق لثقافة أو لأمة .. إنه نوع من احتجاز الزمن وتكديسه داخل إقامة خاصة بالأزمنة المتراكمة والمتراكبة . إضافة إلى أمكنة أخرى ترتبط بالاحتفال كالساحات الشعبية الضاجة بالفرجات الشعبية وبالحكواتيين والرواة والبهلوانيين … إنها فضاءات – حسب فوكو – لا تكدس الزمن بقدر ما تعمل على محوه ظرفيا لتعيدنا إلى براءة الطقوس النقية .
إضافة الى الهيتوروبيات الملتصقة بنسيج الواقع يستحضر فوكو أيضا أماكن أخرى بمفهومها التخييلي كالمسرح باعتباره فضاء مثاليا لإنتاج أمكنة أخرى تخييلية مضادة . فالمسرح مبدع لانهائي للأفضية المتخيلة التي تمارس اكتساحها و ابتلاعها لكل الفضاءات والمساحات المفتوحة والمغلقة .. الممكنة والمحتملة .. حيث تحضر عملية التفضية الفرجوية الظرفية كقوة مضادة كاسحة و مكتسحة لكل الفضاءات الأخرى .. و ذلك من خلال جسد الممثل الذي يشبه ” مدينة الشمس .. ليس له مكان .. لكن من داخله تخرج و تشع كل الأمكنة الممكنة حقيقية و خيالية ” (2) .
و قد سعت الندوة الدولية لطنجة المشهدية عبر محورها الهام إلى مداهمة الأمكنة الأخرى من خلال المداخلات الرصينة لباحثين مرموقين حاولوا التعاطي مع الفرجة في اشتباكها مع الفضاءات الأخرى كفضاءات الملاعب و فرجات الألتراس … و فضاءات الولائم و المآتم و فرجات الدعاة … و الفضاء الافتراضي و فرجة المسطحات الرقمية … وفضاءات الكوميديا الإلهية و فرجة دانتي … و سلطان الطلبة و الفرجة السياسية … و فرجات الشارع و الصورة الافتراضية للمرآة …. و غيرها من المداخلات الوازنة التي سيعمل المركز الدولي لدراسات الفرجة على توثيقها و نشرها .
هوامش :
1- مشيل فوكو – الجسد الطوباوي أماكن أخرى – ترجمة محمد عرابي – ص 20
2- د. ضياء عبد الله خميس الكعبي – سرديات من سيمياء الكون إلى أنثروبولوجيا الأمكنة و فضاءات الحداثة المفرطة .