ضجيج في حمام نسوان/ بقلم الدكتور : طالب هاشم بدن .

دراسة نقدية تحليلية في خفايا مسرحية حمام نسوان للكاتب علي العبادي

 
مجموعة مبغى للكاتب الكربلائي علي العبادي الصادرة في 2020 عن دار الورشة ضمن طبعتها الاولى تناول فيها جشتالتية (الشكل أو الصورة) الكل المتكامل والتي تؤكد – هذه المدرسة الالمانية – على الجانب المبدع من التفكيرالحقيقي المنتج، والذي يعد من أهم خصائصها. إذ نرى كاتبنا يحيلنا إلى الجانب الادراكي المبدع في رسم حركة تنامي الاحداث في مجموعته (مبغى) التي بنيت على وفق تناول الامكنة المغايرة في نظرية المعرفة والتطور الحداثوي عبر متعاليات نصية تخرج من انزياحات دلالية بقصد ابهار المتلقي ضمن أسلوبيات تقارب النص الادبي، والخروج عن المألوف والمعتاد وتجاوز السائد والمتعارف عليه وفي نفس الوقت أضافة جمالية يمارسها المبدع في نقل تجربة جديدة عبر اختيار امكنة مختلفة غير متداولة الحدوث، إذ نرى حمام نسوان وما شّكله هذا النص المسرحي من دلالة موحية إلى المغايرة إن دل على شيء فهو يعبر عن براعة وقدرة التلاعب بالامكنة وزجها في حلبة الصراع. لذا وقع اختيارنا في تسمية عنوان هذا النقد على ضجيج فيحمام نسوان لما له من أثر مهم في تنامي الاحداث .
ان محايثة فضاءات النص الدرامي الدياليكتيكي اثار تساؤولات وحرّك ذهنية المتلقي في اختيار مثل هكذا أمكنة، بوصف اننا لو أخذنا بالنقد والتحليل النص المسرحي حمام نسوان فهو بحد ذاته يبعث على التساؤل المطروح: ما الذي يريد إيصاله الكاتب عند اختياره لمثل هكذا مكان ملفت للنظر ومثير للجدل ؟ ولماذا يسلط الضوء على بؤرة مغايرة عن طروحات لم تتناول هذا الجانب في الماضي وصار السهل الممتنع في التعبير عن حالات معينة ؟ بدورنا سنحاول الخوض في معترك النص المسرحي وخلجاته وهرمينوطيقيته الدالة وما المدلول الذي جعل الكاتب يختار مثل هكذا مسميات ضمن مجموعته المثيرة (مبغى)، ونغوص في عالم حمام نسوان دون أن نبتل بماء الغسيل الذي ربما يطهّر أو يعري الابدان والانفس …
وزع كاتبنا شخصياته الثلاث (الام ، المرأة 1 ، المرأة 2) ومسألة انتقال  وتبادل الادوار فيما بينهن في أروقة وفضاءات الحمام وكما هو معهود، ضمن عملية اشتغال على توازن حبكي منظم، وان هنالك محتويات ومقتنيات تمثل أكسسورات ومكملات الحمام العادية ( صابون ، ليفة ، شامبو، ماء ) التي وظفها الكاتب في تعاملها وتوافقها مع بناء الاحداث في معالجات دراماتيكية  ، تضفي على المنجز الابداعي جواً من التكامل ، إذ يحيلنا النص المكتوب الى مسرح العبث واللامعقول في تقطيع الحوار وعدم ترابط الجمل وانتقالاتها فنرى طفرات وتداخل الافكار والرؤى في كل شخصية وكأنها تبحر في عالم متغير متباعد تحاول الانتظام بمسير هنا وهناك ضمن حوارية غير مترابطة المعالم وتبقى تحوم حول هدف يكاد يكون غير واضح في الوهلة الاولى لم يفصح عنه كاتبنا تاركاً مساحة من تأويل وتفسير ما يجري للمتلقي الذي شد أنتباهه من أجل الامساك برأس خيط لفك شفرات النص غير آبه بما تدور من حوله حوارات الشخصيات المتنوعة التي رُكِبت بدراية وعناية ، إذ أن هدف اللامتوقع الحركي الحبكي في حمام نسوان تجلى في عالم متغير مترامي الاطراف بكل تمفصلاته حاول رسم إطاره العام من خلال تجسيداتأسلوبية وصفت على إنها طعنات الزمن وهفوات واقع مرير ، وخيبات متتالية  بوصفها طعنات سكين زاد عددها أو قل فكلها تعد انزياح زمكاني وخروج عن المألوف يعبر عن ماهية الصراع الدائر ولا يتوقف عن توليد أزمات يحيلنا إلى تراكمات وتناقضات اجتماعية  ظهرت جلياَ منذ انطلاقة النص المسرحي . إذ يعد الصراع المتنامي في حركة الحبكة المتولدة عن هذه البداية المناقضة حتى رسوها في جو هائج تمثل حركة ديناميكية سبرت غور حوادث بنيت على مأساة مهما عظم شأنها وتماهت في صورة سكين على شكل طعنات ووجع تولد من رحم أزمات وغياب قسري يقطع الاوصال . تبقى السكين الاداة والمحرك الاساس في حركة حبكة الصراع وهي الاكثر حضوراً وتعد المشرط الذي سلط على رقابنا وما برح يفتك في أجسادنا ويمارس أقسى أنواع القهر والعذاب الدنيوي لينتزع منا سعادتنا ويصّرنا إلى كتل من اجساد خاوية هامدة تندب حظها ؛ وتظل الماذا والكيف تباغتنا عبر تساؤلات لا حصر لها وهي القادرة على اثارة الدهشة والابهار في حمام النسوان القابع تحت ثنايا التيه المتسيد على عوالم غارت في أوجاع لا متناهية  . يجسد حمام نسوان آلام نساء ابتلين بفواجع وفقد أحبة وركب بعضهن عار أردن الاغتسال منه ويتطهرن على الرغم من أن الحمام نفسه صوره الكاتب بغير طاهر ، إذ تبدو لغة الموت هي العنصر المهيمن على أرض الواقع والتي لها سلطانها على ارواح تعزت بأوجاع الزمن وتراكم وقعها على نفوس لم تحتمل تتابع الصدمات وجدت من حمام نسوان ملاذاً لتفريغ همومها وآهاتها المتسخة بأرواح رثة لا تقوى على تطهير النفس فصار الموت غطاؤها ، ففي الفقد يصبح كل وقت المرء رثاء كما عبر عنه كاتب النص . ويبقى الانتظار الملاذ الوحيد الذي يذكرنا بعبثية انتظار كودو ( لصموئيل بكت ) الذي لا جدوى منه . لربما أراد الكاتب في توظيف المغتسل طهر الموت وتعفيرها ولقاءها مع الله على طهارة وهي انفصال تام عن عالم الحياة الى عالم الاموات المثوى الاخير والحالة الطبيعية التي عجر الانسان عن ايجاد بديل عنها وايقاف طاحونتها التي تفتك بالانسان فيبقى الانتظار بلا طائل ولن يأت أحد ، بيد ان لغة الصمت هي الاوقع والابلغ أثراً في حركة حبكة النص . يفصح كاتبنا عن اثر السكين وعملها قائلاً : ( السكين جواب لكل الاستفهامات العصية في هذا الزمن الرديء ) وهي احالة مهمة عما يدور من تكميم  للافواه وسيادة لغة العنف  التي تمارس كل يوم وتحصد الارواح البريئة ولتبقي الشعب تحت سياط حكومات فشلت في رفد الطاقات وأبدلتها بفواجع وآهات لأمهات ثكلت لضياع  فلذات أكبادهن ليتنعم أصحاب الكراسي بمغانم ومكاسب دنيوية .. حمام نسوان صراع هرمينوطيقي  عبر الكلمة تجلت في صرخة عرّت كل الانظمة القمعية الفاسدة وما نحن نعيش اليوم من مصادرة لحقوق الفقراء وممارسة قوى الظلام لطغيانها في قمع الشعب .
ان حمام نسوان لغة احتجاج معاصرة ضد طغاة العصر تأطرت بأسلوب هرمينوطيقي معبر عن فداحة ما تمارسه سلطات القمع وخفاياها في كيل التهم وبشاعة مواقفها تجاه افراد الشعب تجلت في حمام يفضح عري الممارسات اللاأخلاقية التي حدثت وتحدث كل يوم بغطاء شرعنته جماعات تروم نشر ثقافة القتل والتدمير على ابناء جلدتها مستخدمة كواتم وسلاح مصرح به وهويات متنفذة هيمنت على مقدرات بلدنا واستباحت دماء ابناؤه بذرائع وحجج واهية على أناس لا حول لهم ولا قوة كل ما أرادوه العيش بسلام ، إذ عمد الكاتب إلى صياغة جمل جزلة المعاني متساوقة مع الفعل الحركي المراد تجسيده مع الاستعانة بأسلوب التشويق والاثارة الذي تخلل النص المسرحي يظهر بين حين وآخر يكون مصاحباً لمجريات الاحداث مع استخدام خياله متلافياً الاستطراد بالافكاروعلانيتها بوصف ان كاتبنا يعيش في اروقة وطن بلا هوية مستباح الانسان فيه ودمه مهدور على كلمة ، في بيئة لغة السلاح هي الفاصل تسلب فيها الارواح بدم بارد ، عاشها بتفاصيلها وظهرت جلية في جل كتاباته . وسرعان ما يعاود الكاتب وصف طريقة تعنيف اجساد ضحاياه وتلاعبهم بجثثهم وكأنها أرجوحة حتى تصفيتها ، وتسارع المرأة الثالثة في نقل الاحداث بصورة غرائبية عبر إذاعة خبر – لكسر الايهام – قتل فتى عبر التلفاز وكأنها تقرأ نشرة أخبار أعدت مسبقاً لهذا الغرض قائلة ( في خبر عاجل وردنا تواً .. قتل فتى في احدى مناطق البلاد من قبل مسلحين مجهولي الهوية ، على خلفية شجار حدث بينهم ) وما أكثر المجهولين في بلد ضاع وضاعت مقدراته .. ولو أستغنى كاتبنا عن زج جملته الاخيرة المتمثلة بـ( على خلفية شجار حدث بينهم ) في توضيح سبب القتل لكانت – حسب رأيي – اكثر وقعاً لكثرة القتل وضياع الاسباب وعموميتها بعد ان تسجل ضد مجهول ، بل التعتيم الحاصل عنها ولأتخذت رؤى هرمينوطيقية أوسع مما جاءت عليه ، غير أن الكاتب له الحق في اختيار هدفه الذي يريد . إذ يمكن للمتلقي تفسير وتحليل مغزى وهدف كل مفردة من مفردات النص المسرحي على وفق ما يراه مناسباً ومتلائماً مع فحوى ابيت لقصيد الذي يراه في حالة القتل وهمجية الفعل والقيام به بسبب غياب الرادع الديني والاخلاقي والقانوني مجتمعة ولربما يهم بعض القتلة على استخدام الدين من أجل تصفية أفراد اختلفوا معهم في منهج ما أو قضية معينة أو حصة من الاموال التي كثرت في هذه الفترة ، إذ تعودنا على سماع مثل هكذا حوادث واخبار تعبر عن لغة الشر الذي تلبس مثل تلك الجماعات بمختلف مسمياتها ، إنه زمن لا مكان للاحتجاج فيه ولا يحق للمرء ان ينبص ببنت شفة عن حق ما أو يعترض على آلية عمل للسلطة فهذا جرم مشهود وتلاحقه السلطات القضائية التابعة إلى حكومات الصدفة ، وصوت أزيز الرصاص يخطف الارواح بلا رحمة والموت على الابواب بوصف إن لغة النص انزاحت الى امكنة بوهيمية ساعدت في اضفاء طابع تأويل الحدث فـ(حمام نسوان ، خزانة ملابس ، أرجوحة  ) أدوات استخدمها الكاتب في صياغة أحداث تلاعبت بأقدار حسم أمرها وصارت مبعث جرم غير محمود العواقب متهمة بالعهر والفسوق التصقت فيها هموم العار والفجور لم تجد غير حمام تتطهر فيه غير انه لا طهارة فيه . وهي زاوية وضعنا الكاتب فيها لتعري مواقف الطهر التي يحاول البعض اظهارها في العلن لكن حقيقتها فاضحة مخبوء تحت عباءتها عارات في بؤرة من بؤر الصراع المتداخل تحاول عبر الصمت العيش بسلام وهي عبارة بليغة أراد كاتبنا ايصالها عبر متعاليات نصية خضعت لأرادة القدر وبقيت الكلمة عائمة منذ أزمان خلت لا يفقه كنهها إلا أصحاب المواقف ، إذ قال سيدنا الحسين عليه السلام ( ما المرء سوى كلمة .. شرف الرجل في كلمة . مفتاح الجنة في كلمة .. شرف الانسان في كلمة ). التي بقيت تخلد كل انسان ، فلغة الانسان العاقل لا تجد لها مكاناً في مجتمع جاهل يحتكم للعنف والسلاح . وعلى الرغم من تبادل الادوار بين شخوص النص المسرحي غير ان الكاتب لا يغادر حمام النسوان في هيجانه وبؤرته للصراع .
ان من جماليات النص الدرامي انه بقي محافظاً على تناسق وتشابك حركة حبكة الصراع وديمومته في شخصياته المتوازنة وتواجدها في مختلف الامكنة عبر فضاءات الحمام وتنقلاتها في حوارية منظمة ، إذ اخذتنا في سياحة مع تواصلية صورة الحوادث ومآتم وساحة تظاهرات ومن ثم العودة الى حمام غسيل الموتى وهكذا تتنوع صور الحوادث عبر مسافات الزمن بأبعادها المختلفة ،وهذا الانتقال والتنوع أسبغ على النص الحكائي حياته المفعمة بالحيوية وأضفى عليه عنصر الاثارة وشد الانتباه إلى البحث عن المسكوت عنه من تنامي الافكار ومحاولة فك شفرتها عبر دراسة معمقة انتقائية في معرفة الخوض في العقل البشري ورؤاه المتعددة . ومن الملاحظ على النص المسرحي انه لا وجود لبطل فردي حقيقي وتبقى شخصيات النص اللاعب والمهيمن بشكل جماعي على مجريات الاحداث ؛ في كل تطور يحصل نرى تنامي تلك الشخصيات ولعبها دوراً في التعبير عن موقف ما مع ترابط أوصال النص بماء بارد تدريجي اقترن ببرودة جثث الموتى وطفل مقتول . لا أحد يدخل الحمام وهو طاهر ، فلماذا أقبلت الام لتدخل الحمام وهي طاهرة ؟ سؤال اثارته المرأة الثانية وهي تريد أن تقول ان عالمنا يعج بالرذيلة ولا طهارة تذكر ؛ وعلى الاحوط وجوباً التماشي مع القطيع ولا غير ذلك .  اذ ان النص حرص على تفكيك المجتمع وتعريته من الداخل بلغة جزلة المعاني واحالات تماهت مع قراءة نص مسرحي جاء متساوقاً مع متغيرات ما بعد الحداثة ليرينا فضاعة ما يدور حولنا من وضاعة وعهر .
(جا وين أهلنا ) .. غربة وضياع اكثر مما ندركه في عالم خلا من شرفاء لم تسعفه حضارة امتدت على طول سنين .. جا وين اهلنا .. اذن هي رؤية هرمينوطيقية احالها كاتبنا الى الماضي الذي تحسرنا على ايامه وضاع  مع فواجع الدهر التي ألمّت بنا .. ولو فرضنا ان حمام نسوان يزخر بماء الحياة فيمكن ان يكون مبعثاً وأملاً لحياة نحلم ان تعود إلا أنها ( جثث …. جثث .. ماتوا بطرق شتى ونحن ننتظر … لن يتغير شيء سوى بقاء ضجيج ) في تظاهرة دراماتيكية اطلق صرختها العبادي …
 
لا يتوفر وصف.

الدكتور : طالب هاشم بدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت