أنطولوجيا التحليل النصي الدرامي في علم النفس الفردي/ الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي
تبدأ خطة الحياة من وجهة نظر( علم النفس الفردي) بالتكون عند الإنسان منذ السنوات الأولى، إذ بدأت نظرية (أدلر) في البحث عن إرادة القوة التي تحدد السلوك عند الفرد، وألح (أدلر) على الغرائز المسيطرة على ألانا وعلى التنافسات الامعدودة الناتجة عن ذلك وأًعتقد بأن الشخصية الإنسانية تستلزم غائية من نوعما، وأن السلوك يتحدد في السنوات الأولى للطفل، ولذا فقد سمي خطة الحياة ذلك التوجه الأساسي المتكون في الطفولة.
إنَّ خطة حياة (فوينتسكي) في مسرحية الخال فانيا للكاتب المسرحي الروسي (أنطوتن تشيخوف)، تتحدد بسلوك خاص جاء نتيجة لغاية اتخذها (فوينتسكي) على أثر عدد من العوامل التي عانى منها في بداية حياته، وهذه العوامل، هي :
العامل الأول: هو من أهم العوامل التي خلقت لديه شعور بالنقص، الذي تمثل هذا العامل بطريقة معاملة أمهله ، وهنا يأتي هذا الشعور بالنقص لكون التكوين الأنطولوجي لخطة الحياة لدية القائمة على (نقص الحب/ وسرء توجيه الانفعال)، الذي تحولت خطة الحياة وانحرفت عن الاتجاه الصحيح ، وأصبح تأثير المتأثر ما دام يتأثر، ولكن بالاتجاه الخاطئ .إذ كان تأمه (ماريفا سيلفينا) منشغلة عن ولدها بقراءاتها، وكتبها، وأحاديثها عن تحرير المرأة وعن حياة جديدة في ظل ظروف صعبة وواقع شديد التعقيد لا يدل على بوادر التغيير، ونلاحظ (ماريفا سيلفينا) مثل بقية المدعّين للثقافة الذين يواصلون القراءة والتعلق بأهداف جديدة، ولكنها لا تتحقق لهم شيء، إذ يقول (فوينتسكي) عن هذا الحال منذ خمسين سنة نحن نتكلم ونتكلم ونقرا المنشورات، آن لنا أن ننتهي ..ولكن (ماريفا سيلفينا) وعلى الرغم من هذه الأوضاع تنادي بالتغيير، متناسيه ولدها (فوينتسكي) ضحية لتلك الشعارات التي مازال يذكرها قائلاً :
فوينتسكي : … (ماما) مازالت تتكلم عن تحرير المرأة .أصبحت على حافة القبر ومازالت تبحث في كتبها عن فجر جديد وحياة سعيدة.
إن تلك المرأة التي انغمرت بأحلامها، وجريها وراء عالم تعتقد فيه الخلاص من ذلك الواقع المرير، كان لابد لها أن تكرس أغلب وقتها لقراءاتها، من دون أن تهتم بحياتها العائلية ورعايتها لطفلها، وأن عكس هذا الوضع من اللامبالاة وعدم الاهتمام بحياة ولدها (فوينتسكي) ، الذي جعلته يشعر بعدم الاهتمام والرعاية من قبلها، فلا بد على الأم اذا أرادت أن يكون تكوين ولدها سليماً، عليها أن تهتم بالحالة النفسية التي تنعكس بقيمته الوجودية وتكوينه، لذا يجب أن تتكون لديه شعور بالعطف اللازم لنموه النفسي والخلقي، ولزوم الغذاء الجيد والرعاية الطبية لصحة بدنه وسلامه نموه الجسمي، ويعد العطف والحب والحنان من أهم الحاجات النفسية التي ينبغي إشباعها عنده، والتي تترجم لديه إلى شعور بأنهم وضع الرضا، وأنه مرغوب فيه، وخلاف ذلك يتخلى الطفل عن أحلامه كارهاً متبرماً، وألفى خطواته تعود به إلى الوراء . لأن إحساس الطفل بأنه مكروه من قبل الآخرين، أو غير مرغوب فيه، هو أمر يسبب كثيراً من المشكلات النفسية له فقد يتغشاه الانكماش والعزلة، هذه الصفات التي تنعكس في ظاهريات السلوك وصورها الذهنية المتكونة من التكوين الأنطولوجي للشخصية وانعكاساتها الذهنية للانطباعات السلبية، التي حققت ما هويات الأحداث المتلاحقة من خلال الحياة، ولاسيما ما ينعكس في أهم مفصل فيها وهي (الأم)، لذا يولد هذا الوضع لديه شعورا ً بالنقص، مما يجعله يبحث عن مكان وتكوين أنطولوجي آخر، لعلّه يعوض فيه حنانا لأم التي اهتمت بأشياء أخرى تعتقدها أهم من ولدها، فمن هنا يبدأ الجانب الأكبر يتحدد عند الفرد، وهو ما حصل مع (فوينتسكي) الذي فقد رعاية أهم عنصر في العائلة ألا و هو (الأم).
العامل الثاني: الذي تمثل بطريقة معاملة الأب لابنه (فوينتسكي) ، فهذه الطريقة في المعاملة لم تكنب المستوى المطلوب أيضاً، فبعد نقص في الرعاية والحنان من أمه، جاء دور الأب ليعمق هذا الشعور أكثر فأكثر، فكان اهتمام الأب منصباً على جانب آخر، وهو الاهتمام بشقيقة (فوينتسكي) وتدليلها، وتفضيلها على أخيها، وفي هذه الحالة يرى علم النفس الفردي أن الشعور بالنقص قد ينشأ عن وضع عائلي لولد غير مرغوب فيه، ظهور أخ جديد، أو أخت جديدة تأخذ منه مركزه أو اهتمام العائلة به. إنَّ التفضيل زاد هذا الوضع سوءا من شعور (فوينتسكي) بالنقص وعمقه أكثر، مما ولد كيفيات نفسية اتصفت بالصفات السلبية ، وبعدم الإضافات الإيجابية، التي يجب أن تنمو مع شخصيته بطريقة سليمة ، فتكوينه الأنطولوجي وتمظهرات هذا البناء الوجودي تأثر كثيراً، مما جعل الكيفيات الايجابية لدية لا تظهر في قراراته ضد ما كان يعانيه من معاناة وغياب الحقوق، فالتفرقة الفعلية التي تمت وبشكل عملي من خلال إعطاء (الأرض الزراعية) لأخته وحرمانه من حق المساوة، إذ يقول في انفعال كاشفاً عن تلك التفرقة وبصورة مبطنة :
فوينتسكي: حتى الآن ما زالت أحمق، مخطئاً في تفكيري كنت أظن إن هذه أملاك (سونيا).المرحوم، والديه واشترى الأرض وأعطاها لأختي. وكنت أظن الأملاك انتقلت من أختي إلى أبنتها (سونيا) .
لقد كان اهتمام الأب بابنته أكثر من ولده، وأكد ذلك إعطاء الأرض الزراعية لها، مما جعل هذا العطاء يعمق اعتقاد (فوينتسكي) بهذا الشيء، الذي كان على دراية بهذه المعاملة من الأب، التي جاءت لتنهي آماله بالحصول على اهتمام ورعاية كافية من الوالدين، وجعله هذا الوضع العائلي يعيش في غربة حقيقية عمقت بداخله شعوا بالنقص، أخذ يزداد يوماً بعد يوم، ويؤكد الصور الذهنية وماهياتها في زيادة معاناته وتشكيل خط الحياة لديه .
العامل الثالث: الذي تمثل في عدم الإنصاف في توزيع الأملاك، وضياع حق (فوينتسكي) كفرد من أفراد العائلة، له حقوق بأملاكها، ولكنها سلبت منه، فالأفعال لم تكن متوازية مع ما مر به، وهنا يدلل ذلك على أن تأثير المؤثر ما زال مستمر في حاضره، وسيستمر معه في المستقبل . فالأرض الزراعية التي أعطاها أبيه لشقيقته جاءت كدليل على تهميش دوره في الحاضر وجعله تابعاً في المستقبل، وعاملاً في الأرض التي كان من المفترض أن يكون مالكها، أو احد مالكيها، إذ جاء هذا التميز ليدلل على تلك المعاملة القاسية من الوالدين اللذين جرداه من أحقية مشروعه في الحياة، وهو العيش بطريقة طبيعية، التي حاول الوصول إليها لكنه لم يستطع تحقيقها قائلاً:
فوينتسكي : لو عشت حياة طبيعية من يدري لربما أصبحت (كشوبنهاور).
إنّ عدم حصوله على أبسط حقوقه عمق شعوره بالنقص أكثر، ونعكس ذلك في البناء الأنطولوجي لشخصية (فوينتسكي) ،متخذاً من تلك العوامل الثلاثة مبررات للظهور بسلوك يتصف بالقلق، والسعي وراء تحقيق الذات، وبأي طريقة كانت لإثبات ذاته، وجعله فرداً مهماً يشعر بالتفوق على الآخرين وبالأخص أفراد أسرته الذين حرموه من عطفهم واهتمامهم ورعايتهم له، فكان لابد من أن تكون “الأسرة هي الحضن الأول الدافئ الذي يتلقى الفرد ويعمل على التأثير في شتى جوانب حياته وبكافة الوسائل بوصفه كائناً حياً يتفاعل مع الآخرين.
(الذات الخلاقة/الكيفيات الاستعدادية) ودورها في توجيه السلوك في ضوء الوجود الذهني عند شخصية تعني الذات الخلاقة عند (أدلر) نظاماً شخصياً وذاتياً للغاية، يفسر خبرات الكائن العضوي ويعطيها معناها، وهي التي توجه السلوك والنشاط عند الفرد نحو الهدف المراد تحقيقه، والذي يظن فيه الخلاص من الشعور بالنقص والتغلب عليه .
ومن الطبيعي أن يشعر الفرد بحالات من عدم الاستقرار، إذا اشتملت عليه استجابات من مشاعر اليأس والقلق حول المستقبل وفقدان وتقدير الذات التي تبحث عن الخبرات تساعد في تحقيق الهدف، وإذا لم تتوفر خبرات في المحيط الذي يشعر فيه الفرد بالنقص، فالذات الخلاقة تدفع بالفرد إلى أن يبحث عنها في مكان آخر لإثبات ذاته، مما يحقق له تأكيد الأفعال الانطولوجية في تثبيت التصورات الماهوية التي يبحث عنها في ذلك التأكيد.
فالذات الخلاقة عند (فوينتسكي) قامت بتوجيه سلوكه ونشاطه إلى مجال آخر يشكل تكوينه الأنطولوجي، الذي أراد من خلاله تأكيد الماهيات الذهنية الجديدة ويغير ما ثبته عنه في ذهنيات العائلة، وهو سعيه لجعل الآخرين يشعرون بالحاجة إليه بعد أن تخلوا عنه، وذلك لإثبات ذاته أمام نفسه وإمامهم من جهة، واختراق حياة الآخرين من خلال لعب أدوار خاصة في حياة كل شخص لأخذ مساحة في ذاكرة الآخر الذي عانى بسببه من الشعور بالنقص من جهة أخرى، ولكن قبل أن نأتي إلى ذكر تلك الأدوار، يجب أن نعرف أولا في أي طريق اتجه سلوك (فوينتسكي) لكي يثبت ذاته على وفق الكيفيات الاستعدادية ، وما قدمه في هذا المجال حتى يشكل لنا المؤلف كقراء ومتلقين للشخصية الدرامية في نصه، فأولاُ قام بالبحث عن وجودية (المجتمع/ المكان)، فالبحث في (الأين) للحصول على نسبة الشيئية الى (المكان / المجتمع). الذي يعطيه أهميه خاصة عند الآخرين، فوجد أن أفضل(مكان) يمس حياة الآخرين ومصالحهم الذاتية، هو (الأرض الزراعية) وما ترمز اليه في الوجود الذهني من أنها من حقه الذي سلب منه، من خلال إعطائها إلى شقيقته (أي شقيقه فوينتسكي)، فهذه الأرض وخيراتها هي التي جعلت العائلة- (مجتمعه الخاص) – تعيش بأمان على المستوى الاقتصادي، ولولا (فوينتسكي) واهتمامه به الضاع كل شئ إذ يقول:(هذه الأرض حفظت بفضل وجهدي) فهذا المكان الأول .
أما المكان الثاني الذي سيشتغل على الكيفيات الأستعدادية فيه على وفق ثنائية (الأنفعال / اللين)، فاللين حاول ان تكون هي من أولويات تكوينه الأنطولوجي في بداية حياته، حتى مع ظهور زوج الأخت، الذي سعى الى تأكيد ماهيته في ذهن المتلقي من خلال التكوين الانطولوجي الجديد ،الذي يعطيه استمرارية في الحياة وتعويض ما فاته، ظهور البروفسور (سيربير ياكوف) في حياة العائلة وزواجه من (شقيقة فوينتسكي) فقد وجدت أمه (ماريفا سيلفنا) ضالتها في توجه البروفسور العلمي، الذي يتلاءم مع أفكارها وتطلعاتها السابقة. فعمل (فوينتسكي) على مشاركة أمه في تعظيم البروفسور وأفكاره، وذلك ليس لإيمانه بأفكار البروفسور وتوجهاته بل للفت انتباه أمه أكثر، بانه من المهتمين بالأفكار التي يطرحها (البروفسور) ،أي مشاركة أمه بأفكارها بصورة غير مباشرة لتشكيل صورة ذهنية معها في لكونه مهتماً بالبناء المعرفي الذي تطمح اليه من خلال البروفسور، وهنا تتضح الأدوار التي سعى إلى تجسيدها (فوينتسكي)، فهو من جهة يعمل في الأرض ويوفر المال للعائلة وللبروفسور أيضا، ومن دونه ذا الجهد الذي يقدمه (فوينتسكي) في العمل لا يستطيع (البروفسور) مواصلة أبحاثه، إذ يقول مخاطباً (البروفسور):
فوينتسكي : لي خمس وعشرون سنة، أعمل في هذه الأرض وأرسل إليك النقود…
ومن جهة ثانية يظهر لنا (فوينتسكي) بمظهر المثقف المؤمن بأفكار (البروفسور) وتوجهات أمه، التي أصبحت من مميزات العصر في أواخر القرن التاسع عشر، والتي تتصف بالسطحية ومناقضتها للواقع المعاش .
إنَّ (فوينتسكي) الذي آمن بتلك التوجهات أراد إن يشعر بأهميته عند أمه بعد أن فقد أهميته عندها وهو صغير، وقدت أكدت هذه الأهمية من خلال اعتقادها بحسن توجهاته وآرائه وطاعته لها، ولكن حينما حاول التخلي عن ذلك واجهته بقولها
ماريفا سيلفنا:.. مالك يا فاني اتغيرت في السنة الأخيرة حتى أني ما عدت أعرفك. كنت إنسان انيراً لك قناعات وأراء.
فهي كانت راضية عنه، وكان يحظى بقليل من الأهتمام لديها وذلك ليس لأنه ولدها فحسب، بل لأن له قناعات وأراء مطابقة لآرائها وأفكارها، هذه الأفكار ذات الطابع الماهوي الذي بنته على الأسس غير الواقعية بتكوينها الأنطولوجي بقدر اعتقاداتها بوجودات ذهنية لم تشكل البناء ظاهرة البناء السلوكي والنفسي استناداً لطبيعة الحقائق المعلنة، لكنها أرادت أن تشكل الصور الذهنية وأبعادها الماهوية قياساً بأفكارها، وهي أيضاً كانت تعاني في جانبها النفسي والبحث عن الذي يجعلها تعتقد بوجودها وكيانها وعالمها الخاص الذي بنته على هذه الافكار، لذلك فأن (الوجود الذهني) لديها قائم على أساس مجموع المفاهيم الذهنية الحاكية عن تصوراتها، والتي هي تعود الى أن كل مفهوم حاك عن مصداقه، وإن كان مفهوماً عدمياً، وأن لم يكن له مصداق في الواقع الخارجي، لذلك كان الوجود الذهني لديها والتكوين الأنطولوجي التي بنتها على هذا الوجود كان مرتبطاً بخيالاتها التي تجعل من المهتم بالثقافة والتعلم إنساناً له أهميته في الحياة، على الرغم من إنها لم تواكب حياة زوج أبنتها في موسكو، ولكنها كانت تروج له ولأفكاره ،التي آمنت بها ، وجعلت لها وجوداً ذهنياً مسيطراً في حياتها وتعاملاتها مع الآخرين ومن ضمنهم ولدها.
وبعد ذلك تغيرت العملية من اللين الى الانفعال بحق ما كان يتخذه من خطوات غيّر من خلالها التكوين الأنطولوجي لسيرة حياته . إنَّ (فوينتسكي) الذي يعتر فعلا نية بخطأ تلك الأفكار والصور الذهنية في وجودها، الذي لا يرتبط بالواقع المعاش، والذي جعله مبرراً للتعويض، ومن ثم عدم صلاحية ماهوياتها في البناء الفكري لدى أُمه، كما في الحوار الآتي الذي يؤكد هذه الحقيقة ، والذي من خلاله حاول أن يبعدها عن ذهنه، إذ يقول:
– فوينتسكي: أجل، نعم كنت إنسان انيراً، لكن (نوري) لم يضئ ظلمة أمام إنسان كنت إنسانا نيراً . أرجوك بدون هذا الكلام المعسول الذي دس فيه السم، بلغت السابعة والأربعين من العمر وحتى العام الماضي كنت مثلك الآن. أضع الغشاوات على عيني عن قصد أضع غشاوات مذهبك الكلامي حتى لا أرى الحياة على حقيقتها.
هي تلك حقيقة (فوينتسكي) الذي كان يؤدي أدوار اًلم يرغب فيها، لكنه قبلها في ضوء إثبات ذاته في المحيط الاجتماعي العائلي، ومن أجل أن يتغلب ولو بشكل مؤقت على شعوره بالنقص، الذي أصبح يطارده في كل لحظة من لحظات حياته، ويتمظهر هذا الانفعال، ويصل الى قمته حينما أراد ان يقتل زوج أخته ، لكنه يعود الى المربع الأول ويرجع الى مزرعته .
الميادين الثلاثة، وأبعادها الانطولوجية وتكوين الوجودات الذهنية للشخصية.
ينظر (علم النفس الفردي) الى أنَّ هناك ثلاثة ميادين يلزم أن يتكيف الفرد بالنسبة لها تكيفا ناجحاً حتى يوفق في حياته هي المجتمع، والعمل، والحب، لذلك يكون التركيز على الميادين الثلاثة في المجتمع عند الطفل وتربيته في العائلة بين الإخوان والأخوات، وطريقة معاملته من قبل الأم والأب وأخوته، وتعامله مع أطفال الحي وفي المدرسة …. الخ .
فالميدان الأول وهو (المجتمع/المكان) الذي لم يستطع (فوينتسكي) التكيف معه – وكما بينا ذلك سابقاً في (خطة الحياة) – إذ ولّد لديه شعورٌ بالنقص، فكان لا بدَّ من أن يبحث عن ميدان آخر ليحقق التكيف فيه، وهذا الميدان، هو ميدان العمل ،الذي يرى فيه ( أدلر) ضرورة أن يعمل الفرد في الميدان الذي يتفق مع ميوله وقدراته، والذي لا يشعر بنقص فيه، إذ من المهم أن يشعر الفرد بالنجاح في عمله، وميدان (العمل) – وهو الميدان الثاني، الذي قضى فيه (فوينتسكي) خمساً وعشرين سنة من العمر، فهل استطاع (فوينتسكي) أن يتكيف مع هذا الميدان؟ أملا؟.
إنَّ العمل الذي اتخذه (فوينتسكي) ميدان للتعويض هو زراعة الأرض، وان هذا المجال لم يكن موفقا فيه، لأنه لم يتفق مع إمكانياته العقلية والجسدية وتكويناتها الأنطولوجية، وكذلك وجودها الذهني والإمكانيات الماهوية المتشكلة من هذا الجانب، ولكن ما نوع العمل الذي يتفق مع طبيعة توجه (فوينتسكي) كإنسان له أفكاره وتطلعاته وإمكانياته في الحياة مثل الآخرين، لذلك نراه يكشف لنا عن نوع العمل الذي يفضله، قائلاً:
فوينتسكي: ضاعت حياتي أني عبقري، ذكي لو عشت حياة طبيعية من يدري لربما أصبحت كـ(شوبنهاور) و(دستوفسكي).
إذن، فهو ذو طاقة وتوجه فكري، والعمل الذي يتفق معه عمل عقلي أكثر منه جسدي شاق (فشوبنهاور فيلسوف، ودستوفسكي روائي عظيم)، وهو أراد أن يصبح كأحدهم فهو يمتلك نشاطاً عقلياً يستطيع توظيفه في هذا المجال .
أما الميدان الثالث (الحب/الانفعال)، وهنا نسأل مرة أخرى، هل أن (فوينتسكي) توفق في هذا الميدان؟، فبعد وفاة شقيقته زوجة (البروفسور) تزوج (البروفسور) (أيلينا ندريفنا) التي كانت في السابق صديقة زوجة البروفسور المتوفاة، فأيلينا ندريفنا هي الإنسانة الوحيدة التي أحبها (فوينتسكي) ، ولكن حبه جاء متأخراً فهي متزوجة الآن، وهنا يكشف لنا (فوينتسكي) عن حقيقة توضح نوع هذا الحب، ولماذا سعى إليه (فوينتسكي) الآن بالذات؟، وهذه الحقيقة يكشفها قائلاً:
فوينتسكي: أول مرة لقيتها منذ عشر سنين، عند المرحومة أختي كانت في السابعة عشرة وكنت في السابعة والثلاثين لماذا حينذاك لم أقع أسير حبها ولم أخطبها من أهلها؟..
نتساءل أيضا، لماذا الآن وقع (فوينتسكي) في حبها؟ فهل كان يحبها لذاتها؟ أم إن هذا الحب كان يخفي وراؤه غاية أخرى، وهي حقده على زوجها( البروفسور) الذي دمر مع الآخرين حياته؟. فإذا كان يحبها فعلاً فلماذا لم يخطبها في ذلك الوقت وهي كانت أمامه وفي متناول يديه؟ فهل كان فارق العمر سبباً؟ ولكنها الآن زوجة رجل يكبرها ويكبره في السن وهو(البروفسور)، إذاً فالهدف من حبه (لأيلين) هو محاولة تعويض ما دُمر من حياته، والبروفسيور يعد جزءاً من هذا الدمار، وهنا يحاول أن يحرضها ضد زوجها عسى أن تتركه ويظفر هو بها ، فالحب لديه هو إقحام في تكوينه الأنطولوجي وليس شيئاً طبيعياً، وهنا يرتبط الحب دائماً بالانفعال الداخلي الذي يشكل تأثيراً عليه، ويكّون لديه حقلة يظهر فيها بتأثير المتأثر، وهذا التأثير يأتي ما دام الدوافع الداخلية تدفعه لتحقيق ذاته وكيانه، فهو تحت سلطة التأثير الداخلي الذي ما دام يتأثر به، وفي الحوارات الآتية يتضح دور المؤثر الداخلي في التكوين الأنطولوجي لهذه الشخصية .
فوينتسكي: لو تعلمين كم هي عظيمة آلامي حين أفكر إن قربي حياة تذوي، وشبابا تذبل زهوره ووروده، حياتك وشبابك؟ ماذا تنتظرين؟ أي فلسفة لعينة تقف في طريقك؟ عليك أن تفهمي؟ عليك أن تفهمي؟.
وبهذه الكلمات المحملة بالحقد ضد (البروفسور)، يحاول (فوينتسكي) إغراءها بحبه، وهذا الحقد نراه يتكرر في حوارات أخرى لـ(فوينتسكي) فهو مرة يقول:
فوينتسكي:لو رأيت وجهه وحركاته، لكرهت الحياة ومللتها.
ومرة ثانية ينعته بـ (الحشرة الحقيرة)، قائلاً:
فوينتسكي: كيف خدعني هذا (البروفسور) أضلني فعبدته يا الهي كيف عبدت هذه الحشرة الحقيرة.
لقد تغير موقف (فوينتسكي) من البروفسور – الذي كان يعد أفكاره وآراءه عظيمة وتستحق التعظيم من قبل الآخرين سابقاً- وذلك لسبب مهم جداً، وهو عودة (البروفسور) إلى المزرعة والبيت، فبعودته وِضع (فوينتسكي) أمام انهيار احد أهم مقومات التعويض لديه وزعزعة الصور الوجود الذهني لديه وماهوياتها التي اعتنقا من أجل التعويض، وهو تجريده من الدور المهم في تكوينه الأنطولوجي الذي كان يؤديه أمام الآخرين. إنَّه الفرد الذي يعمل في الأرض من أجل (البروفسور) وأفكار (البروفسور)، ولكن بعودته سقط هذا الدور عن (فوينتسكي)، وأصبح مرة أخرى شخصا ثانوياً، إذ يكشف لنا (فوينتسكي) ذلك قائلاً
فوينتسكي:غفوت طويلا (يتثآب). منذ مجيء (البروفسور) وزوجته تعكر صفو الحياة . ما عدت أنام في موعد النوم، اشرب الخمر، حياة وسبل ملتوية، من قبل لم يكن لدي وقت فراغ كنت اعمل و(سونيا)،ألان (سونيا) وحدها وأنا أنام واكل واشرب. ما أسخفها حياة.
مرة أخرى يحاول (فوينتسكي) التهرب من هذه الحقيقة عن طريق شرب الخمر والنوم في غير موعده، أي صور ذهنية يريد أن يبعدها من التصورات الماهوية التي جعلها مباني حقيقة في حياته، وهذه كلها أمور تدلل على اضطراب شخصية (فوينتسكي) بقدوم (البروفسور) وزوجته التي لم يكن يحبها لذاتها، وإنما أراد الانتقام بها من (البروفسور)، وكذلك فهو يعلم جيداً إنها لا تستحق الحب بسبب عدم أمانتها لزوجها وذلك على خلفية علاقتها بالدكتور (استروف)، ولكنه أراد أن يستغل هذا الجانب للانتقام من سعادة يظنّها قامت على عذابه وتضحيته من أجل (البروفسور) وأفكاره، فهو يصف لنا(آيلين) قائلاً:
فوينتسكي :أمانة كذابة، ووفاء كذاب، منذ البداية وحتى النهاية وفاء مبالغ فيه، بلا منطق فتاة تخون زوجها عجوزاً. زوجاً لا تطاق الحياة معه.
وهنا كتوضيح حقيقة أخرى، وهي تشكيل الصورة الأنطولوجية للمرأة بصورة عامة ورأيه فيها، فهو يرى في أمانتها كذبة يؤسس من خلالها البناء الوجود الذهني لديه ، ويرى فيها سطحية لا تنم عن موقف عميق ولاسيما في التزامها نحو بيتها وعائلتها، وهذا الموقف أتى نتيجة معاملته الأولى من قبل أمه، التي رأى في تلك المعاملة الابتعاد عن الحقيقة الواقعية لدور الأم والمرآة، وجريها وراء أهداف غير منطقية وصعبة كان يحياها (فوينتسكي) والمجتمع الذي يعيش فيه، وهو تكوين ماهوي متأتي من بعد أنطولوجي متشكل في انعكاس صورتها في ذهنه،أي الصورة الوجودية لها وسعيها وراء المتطلبات التي يمكن أن تحققها في هذا المجال، وهذا يقربه للقارئ تكرار الموقف مرة أخرى مع (آيلين)، إذ يرى فيها أمانة كاذبة وخيانة زوجية، ومن ثم جريها وراء أهداف غير صحيحة تحاول تحقيقها، فهي كان تتسعى لإرضاء ذاتها مع رجل أخر غير زوجها العجوز، الذي لا ترى فيه إرضاء لذاتها، و(فوينتسكي) يعرف هذه الحقيقة جيداً لكنه سعى لحبها ذلك الحب الناقص الذي كان هدفه الانتقام وليس الحياة الزوجية السليمة المبينة على أسس سليمة .
الأهداف الوهمية ورسم ماهويات بعيدة عن الواقع.
الهدف الوهمي الذي يعطي ماهويات بعيدة عن الوجودات الفعلية، هو الهدف البعيد عن الواقع كما قد يكون بعيد المنال بالنسبة للذات الخلاقة التي تهدف للسيطرة، فهو يختلف عن الهدف الحقيقي ،الذي يشكل ماهويات متناغمة من الواقع ، ويتطابق ومتطلبات الذات الحقيقية التي تساعد تلك المتطلبات في تحقيق السيطرة، والتفوق في ميادين الحياة كافة .
لقد سعى(فوينتسكي) بعد شعوره بالنقص إلى تحقيق ذاته بأية وسيلة كانت، إذ إن الشعور بالنقص لديه دفعه للتوجه نحو أهداف لم تكن حقيقية ولم تحقق له التفوق وتحقق الذات، بل كانت أهداف وهمية، رسمها في خياله ظناً منه بأنها سوف تحقق له الأغراض المرجوة في التغلب على شعوره بالنقص، فتكون تلديه ثلاثة أهداف متتالية، إي لم تتكون في وقت واحد، وهي :
الهدف الأول: إذ سعى (فوينتسكي) لتحقيقه وبذل جهداً كبيراً من أجله، وهو العمل في الأرض الزراعية التي تعود ملكيتها لشقيقته وابنتها ( سونيا)، فكان يظن أن العمل في هذه الأرض سوف يجذب انتباه الآخرين، واهتمامهم وبالأخص أمه، ولكن هذا العمل لم يكن هدفاً حقيقياً يتناسب مع قدراته فقد ضيع سنوات طويلة فيه، بعد مضي خمس وعشري نسنة في العمل يكتشف ضياع حياته فيها، لأنه لم يحقق شيئاً . فكان العمل في الأرض سوى أكذوبة استيقظ عليها (فوينتسكي)، ووجدها وهماً، وصورة ذهنية مخادعة وذات ماهويات خارجة عن حدود الساق الفعلي للحياة التي حاول الابتعاد عنها ،إذ لم يحقق من وراءها الهدف الذي رسمه من اجل تحقيق ذاته في وسط اجتماعي تجاهل ابسط حقوقه الإنسانية.
الهدف الثاني: إذ سعى (فوينتسكي) لتحقيقه فكان تبنيه لأفكار وأراء (البروفسور)، التي كانت تلقى اهتمام بالغ من قبل أمه وأفراد عائلته، والكثير من أبناء مجتمعه، فسعى (فوينتسكي) من وراء ذلك إلى الظهور بمظهر المثقف ذي الرأي الصائب الذي إذا تكلم يحظى باستماع الآخرين له، ومن ضمنهم أمه التي كان يحظى لديها في مضى بنوع من الاهتمام في هذا الجانب بوصفه إنسان انيرا له أراء وقناعات تتطابق مع أراء (البروفسور) صاحب القيم التحررية، التي تهدف إليها، لكن (فوينتسكي) أراد من خلال هذا التوجه أن يحقق ذاته في مجتمع يتشدق بأفكار وأراء زائفة كان يعلمها ويعرف زيفها. وعلى الرغم من ذلك أراد أن يتماشى معها، لكنه فشل في ذلك، لأنه المتحقق له ذاته، وهنا يحاول (فوينتسكي) فضح زيف تلك الأفكار، وذلك حينما يخاطب أمه ليبين لها رفضه لتلك الأفكار، رافعاً عن عينيه الغشاوات لتحطيم الماهويات الزائفة، التي كان يضعها عن قصد فيما مضى، ويزيد من لغة الرفض لديه من تلك الأفكار إلى درجة يصل بها إلى السخرية المليئة بالمرارة والحسرة يوجهها ضد(البروفسور) قائلا :
فوينتسكي: كلما في الأمر، هذا الأستاذ منذ خمسة وعشرين عاماً يقرأ عن الفن ويكتب، ولا يفقه من أمور الفن شيئاً، خمسة وعشرون عاماً يلوك أفكار غريبة عن الواقعيين والطبيعيين، والسخافات. خمسة وعشرون عاما يكتب أموراً معروفة للأذكياء غير مهمة للأغبياء بكلمة مختصرة ربع قرن يثرثر.
ولكن (فوينتسكي) كان يضع على عينيه قناعاً، كي يتقبل تلك الثرثرة التي أعتقد بأن اعتناقها سوف يحقق له ذاته، ولكن أنعكست عليه فهو يثور ويثور على الأفكار والآراء، لأنها أفكار وماهويات وهمية، وبعيدة كل البعد عن ذاته ولا تتفق مع متطلبات تحقيق الذات لديه، ومن ثم كانت هدفا وهمياً تعلق به (فوينتسكي)، وبعودة (البروفسور) بطلت صحة هذا الهدف فأصبح (فوينتسكي) أمام الحقيقة المرة التي أسقطت القناع عن عينيه، وأصبح أمام شعوره بالنقص مرة ثانية بعد أن حاول جاهداً التغلب عليه.
الهدف الثالث: تمثل بحبه (لآيلينا ندريفنا) ، فبعد أن تيقن أن الهدفين السابقين أصبحا وهماً ولم يتحقق منهما ما كان يتمناه، فتبنى له هدفاً ثالثاً سعى من وراءه للتعويض والتغلب على شعوره المستمر بالنقص، الذي كان يلاحقه في كل زمان ومكان، وفي هذا سياق الهدف الثالث فقد كانت (آيلينا ندريفنا) قبل زواجها من (البروفسور) في متناول يديه ولم يبادر إلى الارتباط بها، وذلك بسبب انشغاله بالهدفين السابقين، وبعد فشله في تحقيقيهما توقع تحقيق الهدف الثالث ولعدة أسباب:
ـ فارق العمر بين (آيلين) و(البروفسور)،الذي كان يعاني من المرض بسب بكبر سنه .
ـ بحث (آيلين) عن شخص يعوضها عن بروفسورها العجوز التي ضيعت شبابها معه، وقد بدى ذلك الأمر من خلال تصرفاتها وسلوكها اتجاه الآخرين.
ـ أمانتها الكاذبة وخيانتها لزوجها، وتذمرها من تلك الحياة الزوجية غير المتكافئة .
ـ دافع الانتقام الذي كان (فوينتسكي) يحمله ضد (البروفسور)، وكما ذكرنا سلفا.
ـ إحساس (فوينتسكي) بانه انسب إنسان يمكن أن تعوض به ( آيلين) عن (البروفسور) .
إذ سعى جاهداً لتحقيق هذا الهدف واضعا نصب عينيه تلك الأسباب، ولكن سرعان ما يفشل في تحقيقه، لأنه لم يكن هدفاً حقيقياً، وإنما كان وهمياً تشكلت ماهوياته نتيجة لما كونه من صور ذهنية بعيدة عن وجوديات الواقع من حوله وصورته له الظروف بانه سهل التحقيق، وجاءت النتائج على عكس ما يريد. فـ(آيلين) كانت ميولها نحو (استروف) أكثر من ميلها إلى(فوينتسكي)، الذي رآها بعينيه وهي تبادل (استروف) العاطفة، إذ كانت تتودد إلى (استروف) كما في الحوار التالي:
آيلين: انك إنسان طيب وجذاب لن نلتقي بعد اليوم، لما الكتمان؟ جذبتني قليلاً. والآن نسلم بعضنا على البعض. إنَّ مشاعر (فوينتسكي) تجاه (آيلين) كانت مشاعر وهميه محملة بغايات أخرى غير الحب لها فدفعته تلك المشاعر الوهمية نحوها محاولا مشاركتها الحب، فهذه المشاعر لم تكن نابعة من أعماق قلبه، ولم تكن مبنية على ما نعكس في الواقع من دوافع عاطفيه تجاه الانسان التي قرر ان يبني معها حياته المستقبلية ، هذه الحياة التي كانت مبنيه على أهداف بعيده عن التكوين الماهوي السليم على وفق ما هو موجود في بيئته التي حاول ان يتنكر لها في اغلب مسارات حياته ، وأن عقدة التقص التي تشكلت وكونت ماهويات حياته في صور ذهنية تخيلها ،ولكونها أمامه ، وهي بعيده عما يحيط به من تعاملات من قبل الابوين ، وعن هذه المشاعر التي بنيت خارج سياقها السليم يقول عنها:
فوينتسكي: الأفكار السوداء تتبعني ساعات الليل والنهار، الأفكار الثقيلة لا تفارقني ابدآ الأسف العميق على السنوات الضائعة، والأيام التي مضت كلها سخافات وتفاهات والحاضر مخيفة ترهاته. هذه حياتي، وحبي أين اذهب بهذا الحب، وما تراني فاعل بهذه الحياة السخيفة).
إذن، فمشاعر (فوينتسكي) محملة بالأفكار السوداء والانتقام للسنوات الضائعة، وعلى هذه النتيجة المؤلمة ينتهي هدف (فوينتسكي) الثالث ويصبح في عالم الأوهام التي اعتاد أن يراها حقيقة، ولكن الواقع وصدماته كان له دوما بالمرصاد فيوقظه على حقائق مرة اعتاد على تجاهلها في السابق، والآن لابد أن يواجهها بعد انهيار كل أهدافه الوهمية.
أنواع التعويض في الماهويات الوهمية، وصلته بمرض العصاب في شخصية (فوينتسكي) الدرامية:
يرى( أدلر) : أن التعويض عملية قائمة على الشعور بالنقص وتسعى إلى التفوق، ويرى التعويض على أنواع، منها تعويض ايجابي يستطيع الفرد فيه تحقيق ذاته، ويتغلب على نقصه. وتعويض مبالغ فيه، إذ يقدم الفرد جهداً أكثر من الحد المألوف وهو من النوع الايجابي أيضاً . وهناكتعويضفاشل،أيتعويضيخرجفيهالفردعنالحدودالمألوفةوالمقبولةفيالمجتمع،كارتكابالجرائموماشابهذلك . ويوجدأيضاتعويضفاشلمننوعآخر،يدفعبالفردإلىمرضعصبييتخلصفيهمنعمليةالكفاحوالتحججبهذاالمرض، وذلك للهروبمنالواجباتالملقاةعلىعاتقهفيالحياة،ومنالإمراضالمهمةفيهذاالمجالهومرض (العصاب) ، وهو اضطراب في الجانب الوجداني الذي يرجعه (أدلر) إلى عقدة الشعور بالنقص وهو يقول: إنّ مشكلة كل عصاب هي، بالنسبة للمريض، صعوبة الاحتفاظ بنمط من التصرف والتفكير والفهم ينكر مطالب الواقع ويتحول بها عن موقعها الأصلي، فيكون التعويض هنا تعويضاً وهمياً لأنه بعيد عن الهدف الأصلي وعن مطالب الواقع الفعلية.
إن نوع التعويض عند (فوينتسكي) ، هو تعويض فاشل بسبب الأهداف الوهمية التي سعى إلى تحقيقها في الميادين الثلاثة (المجتمع والعمل والحب) وهذه الميادين الثلاثة هي من تشكل التكوين الأنطولوجي الذي نستطيع قراءة حياته على وفق هذا المجال المعرفي ونربطها بنظرية مركب النقص عند (أدلر)، وهذا الفشل في التكوينات الماهوية سرعان ما تحول في التعويض إلى مرض عصاب ناتج عن صعوبة الاحتفاظ بخط من التصرف والتفكير والفهم، إذ بدى ذلك واضحاُ على (فوينتسكي) في تصرفاته غير المتزنة، ولاسيما حين ما جاءته الضربة الأخيرة التي أفقدته صوابه ورشده، وكشفت له أخيرا وبشكل لا يقبل اللبس بان جهده وسعيه لتحقيق ذاته كان وهماً كبيراً، فـ (البروفسور) يحاول تجريده حتى من المكان الذي يعيش فيه، إذ يقول (البروفسور) لـ (فوينتسكي) من خلال الاقتراح الذي يقدمه (البروفسور) لبيع الارض ،التي هي من أهم أدوات التعويض لديه، هذا الاقتراح الذي يفقد (فوينتسكي) على أثره أعصابه، ويصبح الاضطراب واضحا على سلوكه ويحاول قتل (البروفسور)، وهنا يخاطب (فوينتسكي) (أيلين) من اجل ان تتركه لقتل (البروفسور)
فوينتسكي: دعيني يا (أيلين) اتركيني اتركيني! (يفلت من بين يديها، يبحث هنا، وهناك عن سيربير ياكوف). أين هو؟. أنت هنا (يطلق عليه الرصاص). (صوت الطلقة). (فترة صمت).ألم أصبه؟ هذا المرة أيضا أخطأته (غاضبا) جهنم عليه.
وتستمر نوبات الاضطراب في السلوك عند (فوينتسكي) فيقول:
فوينتسكي: حاولت ارتكاب جريمة قتل ولم يوقفوني. لم يحاكموني .إذا يحسبونني مجنونا . (يضحك ضحكة هستيرية). أنا مجنون، مجنون.
إن ذلك الجنون الذي وصل إليه (فوينتسكي) لكي يتخلص فيه من عملية الكفاح من اجل التعويض والتحجج بهذا المرض الذي يعفيه من تأنيب الناسله، وكذلك من تأنيب نفسه ويتوج هذا الاضطراب بمحاولة الانتحار الذي لم يستطع تنفيذه أيضاً، فكان لابد من إيجاد مخرج وهو العودة إلى الهدف الأول الوهمي، وهو العمل في الأرض، ولعله يستطع تحقيق ذاته، لكن هذه المرة ليس القرار قراره وحده بل توصل إليه من خلال الاتفاق مع (البروفسور)، فيصبح قرار التعويض مبرراً لديه، وهو الحفاظ على الأملاك من جهة وإرسال النقود إلى (البروفسور) من جهة أخرى، متغاضياً عن ما سببه له من ضياع وألم وتشتت في قول للبروفسور،
فوينتسكي: ستستلم مني كما في الماضي.
وهكذا يعود (فوينتسكي) مرة أخرى من حيث بدء كحل نهائيي حاول الهروب فيه من شعوره بالنقص. التكوين الماهوي، وعقدة الشعور بالنقص، وتمظهرها في تكوينه الأنطولوجي :
يرى (أدلر) أن عقدة الشعور بالنقص تأتي على نوعين إما بنقص عضوي أي من خلال فقد شخص لأحد أعضائه الجسدية أو عقدة الشعور بالنقص نفسية أو روحية تقوم على الوعي الاجتماعي للفرد. إن عقدة النقص عند (فوينتسكي) هي عقدة نفسية قامت على وعي تام منه، أوجدتها الظروف الاجتماعية المحيطة به، كبناء أنطولوجي لهذه الشخصية التي رفضت الحياة كما هي، أي أن هذه الشخصية لم تتعامل بشكل إيجابي مع الظروف المحيط بها ،فكانت هذه الظروف الاجتماعية التي انعكست في البناء الماهوي لشخصية (فوينتسكي)، والتي شكلت لديه عامل ضغط سعى وبكل جهده للتعويض والتخلص من هذه العقدة التي تنامت بشكل تصاعدي معه، فكان تم سيطرة عليه وتسوقه من فشل لآخر من دون الوصول إلى أي تعويض ايجابي، مما اضطره إلى الوصول إلى مرحلة اليأس، وهي المرحلة التي يصعب الخلاص فيها من تلك العقد النفسية، التي أوصلته في النهاية إلى مرض العصاب والتظاهر بالجنون ومحاولة الانتحار، وأخيراً أضطر إلى معايشتها، وذلك بقبوله العمل في الأرض، أي الرضوخ إلى الأمر الواقع الذي تعلنه لنا (سونيا) في نهاية المسرحية، وهي تخاطب (فوينتسكي) قائلة:
سونيا: ما العمل، يجب أن نحيا سنحيا يا خالي (فانيا) سنحيا حياة طويلة الأيــام وسنتحمل صابرين التجار بالتي يصيبنا بها القدر . سنعمل لأجل الآخرين، من الآن حتى زمن الشيخوخة، ولن نعرف طعم الراحة. وحينما تحين ساعتنا وأجلنا سنموت. وهناك وراء القبر في عالم الله، نتحدث عن عذابنـا وبكائنا . نفتكر كيف قست الحياة علينا في هذا العالم….
إن التكوين الأنطولوجي وأبعاده الماهوية في البناء الدرامي لهذه الشخصية امتاز بالاضطراب والقلق الناتج عن شعوره بعقدة النقص، التي أدت إلى ولادة أهداف وهمية غير واقعية تبنتها شخصية (الخال فانيا) وزادت من تعميق شعوره بالنقص حينما لم تتحقق فعلياً تلك الأهداف من خلال مجريات المسرحية نو أن مرجعيات الشعور بالنقص لم تكن وهمية– على عكس الأهداف الوهمية – بل قامت على مبررات أفرزتها الظروف التي عاشها (فوينتسكي) في طفولته وصباه، إذ عانى من التهميش والإهمال من أمه وأبيه، ورأى نفسه إنساناً من الدرجة الثانية، مما أضطره هذا الوضع إلى العمل من أجل التخلص من عقدته الناتجة عن تلك المعاملة، وكان للشخصيات الأخرى (البروفسور، أيلينا ندريفنا، استروف) في النص دورٌ كبيرٌ في تعميق شعوره بالنقص، وذلك من خلال إسقاطهم للأقنعة التي إرتداها (فوينتسكي) لإخفاء شخصيته، التي تعاني من عقدة النقص وللأسباب المذكورة سابقاً.
إن هذه الشخصية على وفق التكوين الأنطولوجي، وعلاقته في التحليل النفسي الفردي ،شخصية ثريه في جانبها الاشتغالي ومدلولاتها الماهوية، التي أعطت النص صوراً ذهنية غنية بالأفعال،إذ ساعدت في إيجاد عمق فني لمعنى الحياة الذهنية لهذه الشخصية الدرامية وتمظهرها في تكوين أنطولوجي مشوق وممتع ومتعدد الظهورات ، والذي توضح من خلال تعدد الأدوار والأقنعة التي ظهرت بها الشخصية على مستوى الحدث الدرامي في المسرحية .