كتاب الخميس (الحلقة الواحد و العشرون)/ عرض و قراءة: المسرحي كريم الفحل الشرقاوي

اسم الكتاب : ” أسس الفكر الفلسفي المعاصر مجاوزة الميتافيزيقا “
الكاتب:  عبد السلام بنعبد العالي
الناشر: دار تبقال للنشر

******************

جنيالوجيا مضاعفة

 
من الكتب التي سبق و أن تركت في جبتي الكثير من الأسئلة المعلقة على أسلاك شائكة كتاب ” أسس الفكر الفلسفي المعاصر مجاوزة الميتافيزيقا ” للمفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي .. لهذا ارتأيت أن أعود لمراودة أسئلته و اقتفاء أثر هذه ” المجاوزة ” التي يستحضرها نتشه كجنيالوجيا .. و يستدعيها هايدغر كاستذكار .. و يعاقرها فوكو كحفريات .. و ينتشلها دولوز كجذمور .. و يقترفها دريدا كتفكيك لهذا الفكر الفلسفي الميتافيزيقي الغربي الذي ارتقت به الفلسفة الهيغيلية إلى مستوى النسق التاريخي المطلق . غير أن هذه ” المجاوزة ” لم تحاول نفي و نسف و استئصال النسق الفلسفي الميتافيزيقي و قطع دابره و إعدامه في الساحات العامة .. بقدر ما توسلت بالمحايثة و المجاورة الممهورة بالاختلاف و الشقاق و الفراق . لهذا سيسعى الباحث في مقاربته لهذه ” المجاوزة ” المتعددة إلى التحصن بمنهج جنيالوجي مضاعف أو بجنيالوجيا جنيالوجيا الميتافيزيقا – حسب تعبيره – و ذلك من خلال ” إقامة عالم مرايا و نظائر , عالم يسكن في الآخر و الذات , و المشتق الأصل , و العمق السطح , و الباطن الظاهر , والاختلاف الهوية , إنه عالم تتخللخل فيه الأزواج الميتافيزيقية ” 20 (2).
جنيالوجيا الميتافيزيقا
تتوسل الميتافيزيقا بالأصل و الهوية والتطابق كحقيقة و منبع و ماهية … في الوقت الذي لا تسعى فيه الجنيالوجيا لاستعادة ذلك ” السر الجوهري للأشياء , بل سر كونها بدون سر جوهري , و كونها بدون ماهية , أو كون ماهيتها قد أنشئت شيئا فشيئا انطلاقا من أشياء غريبة عنها .. فما نلفيه عند البداية التاريخية للأشياء ليس صعوبة أصلها المحفوظ و إنما تبعثر أشياء أخرى , إننا نجد التعدد و التشتت ” 27 (3) . هكذا تتموضع الجنيالوجيا في الزاوية المضادة للتاريخ الميتافيزيقي الذي يتحصن بالهويات الخالدة و الماهيات المتجوهرة و الأصول الطاهرة في الوقت الذي تسعي في الجنيالوجيا لزرع تشققات و تصدعات و مساحات ” الاختلاف ” داخل / خارج الماهيات و الهويات و البدايات و الأصول الأصيلة المقدسة دون التوسل ب “المعنى الأول” أو البداية أو النسق أو الغائية بقدر ما تسعى ” لإثبات الأولويات و الأسبقيات التي أعطيت لمعنى على حساب آخر , إنها الوقوف على الاختلالات والفوارق المولدة للمعنى ” 29 (4) هذا المعنى الذي غالبا ما تخضعه الميتافيزيقا للتأويل الكلياني الذي يبني صروحه على حساب مقابر جماعية لتآويل أخرى متعددة . لهذا يتحصن النقد الجنيالوجي النتشوي بمفهوم متغاير للتأويل و قراءة مختلفة للظاهر و الباطن و الشكل و الجوهر و السطح و العمق . فإذا كانت الميتافيزيقا تؤمن بالجوهر الذي يتوارى خلف سطح ملتبس يستوجب اختراقه لاستكناه البواطن و الماهيات فإن ” التأويل الجنيالوجي يقيم سطحا لا عمق له .. و ظاهرا لا باطن له . فإذا كان هناك قناع فلاشيء من ورائه .. إنه سطح لا يخفي شيئا سوى ذاته ” 33 (5). لهذا لا يعتبر نتشه الظاهر حاجزا عاجلا بقدر ما يعتبره الوجود الفاعل المتفاعل و الحياة في في حركيتها و ديناميتها و صيرورتها . من هذا المنطلق فنتشه ” لا يسأل عن مدلول .. لا يسأل ماهو الحق في هذا المنظور و ما قيمته ؟ إن سؤال نتشه ليس سؤالا ميتافيزقيا .. إنه كما يبين دولوز السؤال عمن ؟ le qui لا السؤال عما هو الصادق أو الطيب … بل عمن يصنع حقيقة جمال الأشياء و حقيقتها ” 33 (6) .
إن المقاربة الجنيالوجية النتشوية تستأثر برؤية مغايرة للزمن التاريخي الهيغلي كما تقوض النزعة التاريخية التطورية و الديمومة المتوالية من خلال اختراقات الزمن ” اللحظي ” لا الآني .. باعتبار اللحظة – حسب نتشه – ضد الزمن الديمومي .. إن اللحظة ثقب أسود يبتلع الماضي و الحاضر و المستقبل ” . هذا الحضور اللازماني للحاضر , هو حاضر أكثر جذرية من التوالي و الخلود , إنه الحاضر الذي ينطوي عليه إسم الوجود ( … ) إن الحاضر و الماضي و المستقبل , هذه الأنماط عوض أن يتلو أحدها الآخر , فهي تتعاصر , خارج بعضها البعض , في عالم لا يكون فيه الحاضر هو الآن الذي يمر , بل إنه يمتد بعيدا حتى يبلغ المستقبل الذي يستجيب للماضي ” 36 (7).
:“استذكار” هايدغر و “حفريات” فوكو
لقد سعى هايدغر بتعنت و إصرار إلى تقويض التراث الفلسفي منذ اليونان إلى هيغل باعتباره من تجليات الفكر الميتافيزيقي الغربي . و امتدت معاول هذا التقويض لتطال الفكر الحداثي و نزعته الإنسانوية المتمركزة حول ذاتها أو ما أطلق عليه ب ” الميتافيزيقا الذاتية ” التي انفصلت كليا عن الوجود و اتصلت قطعيا بالموجود من حيث هو وجود . لهذا سيعمد هايدغر إلى فتح حوار مع الخطاب الفلسفي الهيغلي الذي ارتقى بالميتافيزيقا إلى مستوى النسق التاريخي المطلق محاولا مقاربة تاريخ الفكر الغربي ك ” استذكار ” للميتافيزيقا التي استأثرت بتاريخ الوجود و قراءتها يعني استذكار للوجود بذاته و في ذاته . غير أن هذا الاستذكار ” يعني في الأصل الاقتراب و الحضرة .. أن تظل بالقرب من .. لا القرب من الماضي وحده بل من الحاضر و مما سيأتي .. ذلك أن ما مضى و ما سيأتي كل هذا يظهر في وحدة الحضور ” 42 (8) . و إذا كان ” استذكار ” تاريخ الفكر الفلسفي لدى هايدغر حضورا في الآن و ما بعد الآن فإن تاريخ الميتافيزيقا نسيان للوجود من حيث هو اختلاف .. فالميتافيزيقا حسب هايدغر نسيان للاختلاف بين الوجود و الموجود من حيث أن الوجود يستر ماهيته و يحجبها .. أي يخفي اختلافه مع الوجود . فالاختلاف يظل طي النسيان و لا يظهر سوى طرف من أطرافه الحاضر أو الحضور ” 43 (9) . من هذا المنطلق يصبح الاستذكار الهايدغري استعادة ل ” قلق ” الوجود من حيث هو اختلاف أنطولوجي منسي و نسيان للإختلاف و اللا مفكر فيه من حيث هو وجود يختلف مع الموجود لا وجود يفكر في الموجود داخل نسق فلسفي تاريخي مطلق كما هو الحال بالنسبة لهيغل .
أما مشيل فوكو فقد لجأ إلى ” حفرياته ” لتفتيت السرديات الكبرى و الأنساق الفلسفية الشمولية التي هيمنت على الفكر الغربي .. بحيث لم يحاول أن أن يتعقب سيرورة هذا الفكر و القبض على تحولاته و انعطافاته بقدر ما حاول رصد شبكة العلاقات المشكلة لخطابه و الأرضيات المعرفية المشتركة التي نسجت نظمه المعرفية و اشتراطاته الإبستيمية . إن حفريات فوكو لا تتغيا التنقيب عن الجوهري خلف السطحي .. و و لا الخفي خلف الظاهري .. و لا المتواري خلف العميق .. و لا السري خلف العلني .. و لا الواحدي خلف المتعدد .. بقدر ما تحاول رصد الخطاب في حد ذاته كوثيقة و كأثر . هكذا ستوجه حفريات فوكو إزميلها الأركيولوجي نحو علائق الخطاب و كيفيات المعرفة و آليات تشكل الفكر الفلسفي الميتافيزيقي ” فإذا كانت الميتافيزيقا إدعاء لامتلاك الحقيقة فإن الحفريات ليست تفنيدا لهذه الحقيقة .. إنها لا تقيم حقيقة ضد حقيقة .. و إنما تريد أن تقف عند القواعد التي تتحكم في لعبة الحقيقة ” 63 (10) و الآليات الإبستيمية المشكلة لخطابها و مفاهيمها و سردياتها … لهذا فأي محاولة لمجاوزة الميتافيزيقا حسب فوكو ” مدعوة إلى استعادة ذلك الحوار الذي سبق لنتشه أن عقده مع الميتافيزيقا من حيث هي لغة .. و لهايدغر مع اللغة من حيث هي مأوى الوجود .. فلا مفر و الحالة هذه لكل مجاوزة للميتافيزيقا من بناء خطاب حول الخطابات ” 67 (11) .
تفكيك الميتافيزيقا:
في محاولته لمجاوزة الميتافزيقا سيلجأ جاك دريدا إلى ترسانته التفكيكية لمداهمة خطاباتها سردياتها و متونها باعتبار أن ” في كل نص .. حتى في أكثر النصوص الميتافيزيقية تقليدا , هناك قوى عمل , هي في الوقت نفسه قوى تفكيك للنص . و ما يهم التكفيك هو الإقامة في البنية المتجاذبة للنص . و العثور على توترات أو تناقضات داخلية يقرأ النص من خلالها نفسه و يفكك ذاته ” 76 (12) . من هذا المنطلق لم يلجأ دريدا إلى نسف الميتافيزيقا بقدر ما سعى إلى تفكيك خطابها الذي لم يستطع أن يحقق ” حضوره ” أمام الذات إلا كوهم . و بالتالي فأي مجاوزة لميتافيزيقا الحضور تستدعي تفكيك مفهوم ” الحضور ” كهوية و ذاتية و تطابق و ذلك انطلاقا من منصة ” الاختلاف ” . لذلك سيعمد دريدا إلى إعادة صياغة دلالة الاختلاف بما يفيد التباين و التمايز و بما يفيد أيضا الإرجاء و المسافة و التباعد . فإذا ” أقحمنا الاختلاف بهذا المعنى داخل الهوية تكون هناك مسافة تفصل الحاضر عما ليس هو لكي يكون هو هو ذاته . و يدخل الزمان في تحديد الكائن لا لحصره و ضمه و إنما كعلة معلقة في حركة إرجاء دائم بحيث يدخر نفسه ” 78 (13) .
و لتقويض ميتافيزيقا الحضور كان لا بد لدريدا أن يستأثر بالحضور ك ” أثر ” يحمل داخله ضده و نقيضه . حيث” ينبغي أن يكون هناك أثر موشوم على النص الميتافيزيقي يحيلنا لا إلى حضور آخر , أو إلى أي شكل من أشكال الحضور , و إنما إلى نص آخر . و أن وشمه هذا الأثر على النص الميتافيزيقي لا يمكن أن يدرك إلا كمحو للأثر نفسه . و بالرغم من ذلك فإن هذا المحو يخلف أثره على النص (…) فيصبح أثر محو أثر ” 79 (14) .
واختزالا لما سبق ذكره سيؤكد الباحث بان هناك صيغتين و مقاربتين لقراءة تاريخ الميتافزيقا .. المقاربة الأولى تنتهج النسقية و العودة إلى أصول الحقائق و رصد بدايتها و سيرورتها و تراكمها في حين تتشبث الصيغة الثانية بمفهوم مضاد يعتمد على التقويض و الحفر و التفكيك . المقاربة الأولى تعتبر المعرفة تذكرا و رجوعا و استرجاعا للأصل و الذاكرة و الهوية و المطابقة في حين تنفصل الصيغة الثانية عن مفهوم المنبع و المنبت و المطابقة باستحضار ذاكرة مضادة تتوسل الإنفصال و النسيان و التكرار ” هكذا تدعونا مجاوزة الميتافيزيقا لإعادة النظر في مفهوم التاريخ بالإلتفات إلى ذلك الاختلاف و الانفصال , و إعادة النظر في مفهوم الهوية و التطابق لإرساء مفهوم مغاير عن الحقيقة ” 84 (15) . وهذا ما سنحاول ملاحقته في الجزء الثاني من هذه القراءة.
في الوقت الذي سعت فيه القراءات المعاصرة إلى التوسل بالانفصال و الاختلاف و الشقاق و الفراق و التباعد و الإرجاء من خلال جنيالوجيا مضاعفة تتغيا تقويض الماهيات و تفكيك الهويات و الحفر في إبستيمية العلائق و الخطابات لتكريس فلسفة الحضور كأثر ” يقيم تباعدا بين الحاضر و بين نفسه و بين الذات وبين نفسها .. فكأن مجاوزة الميتافيزيقا تؤول في النهاية إلى نقل الاختلاف من خارج الذاتية إلى داخلها للقضاء على الذاتية و على الداخل و الخارج أيضا ” (16)) .
الميتافيزيقا الهوية والحقيقة:
لطالما تطارح الفكر الفلسفي الميتافيزيقي مبدأ ” الهوية ” كماهية و وحدة و أصل و تطابق و وشيجة منسجمة دون السماح لزوابع الاختلاف و التعدد بزلزلة و تفتيت بنيتها الصلبة . و هذا ما حاول تداركه – حسب الباحث – فلاسفة المثالية الانعكاسية و خصوصا هيغل الذي حاول إلتماس مفهوم الهوية من حيث هي تباين و تعارض و جدل بين بنياتها المغلقة .. ليصير الاختلاف في النسق الهيغلي تناقضا جدليا يموقع الآخر كعنصر نفي و سلب دون أن يقوم هذا الآخر بتقويض وحدة البنية العميقة بل سرعان ما يرتد إلى كليتها و نواتها الصلبة . و بهذا لم يذهب هيغل ” بالاختلاف إلى أبعد مدى .. و لم يذهب إلى التفكير في آخر ليس له آخره (…) لكون الذات في الجدل الهيغلي لا تضيع إلا لتسترجع ذاتها . وهي لا تفقدها إلا لتتملكها من جديد ” (17) لهذا سيلتمس الفكر المعاصر مفهوم الهوية خارج النسق الفلسفي الميتافيزيقي و خارج المنطق الجدلي أيضا كما هو الحال بالنسبة لموريس بلانشو الذي استعاض عن مبدأ التناقض الهيغلي بمبدأ ” المفارقة ” الذي يحتفي ب ” التباعد ” الذي يجعل الذات في بعد دائم عن ذاتها .. كما يجعل الآخر .. آخرا مفارقا .. لا لأجل الأوبة و الاندماج بل لتفقد الذات بفضله وحدتها و نسقها و كليتها .
من هنا ستتلبس هوية الاختلاف هذا التباعد الذي يتميز ” ببعد إيجابي بين المخالفين .. إنه البعد الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما مختلفان ” (18) لنكون بذلك أمام اختلاف لا يصالح بين الأضداد و لا يتساكن مع التناقض و لا يثق في التباين بقدر ما يتلمس الانفصال و الشقاق و الفراق و التباعد و الإرجاء و التكرار .. هذا التكرار الذي يتقاطع مع العود الأبدي النتشوي الذي لا يراهن على التناسخ و التطابق و التوحد بقدر ما يعكس الغرابة و الاختلاف . فالعود الأبدي ” هو أن تصبح الصيرورة هوية . العودة إذن هي الهوية الوحيدة .. لكنها الهوية كقوة ثانية .. إنها هوية الاختلاف ” (19) . و هنا سيتوقف الباحث عند مفهوم ” التكرار ” ليحاول تفكيك علاقته بالنموذج من حيث هو أصل و استعادته للنسخة من حيث هي اختلاف .
يذهب دولوز إلى أن الأفلاطونية لم تحاول الفصل بين عالم المثل و عالم المحسوسات و لم تحاول التمييز بين النموذج و النسخة بقدر ما سعت إلى انتقاء ” النسخ الجيدة التي تشبه الأصل في صميميته و باطنه أي الأيقون .. و يستبعد النسخ الرديئة أي السيمولاكر ” (20)) فالأيقون يسعى للتشابه و التطابق و التوحد مع النموذج .. و السيمولاكر يركن للإختلاف و اللاتشابه و يخون النموذج و يتمرد عليه . و بهذا ستكرس الأفلاطونية معيار ” التمثل ” الذي يحتفي بالأيقونة و يطرد النسخ الباهتة و المبتذلة و المشوهة و يلقي بها كمتلاشيات في منفى الاختلاف و اللاتكرار .
لهذا فمجاوزة الميتافيزيقا الأفلاطونية و محاولة قلب نسقها لا ترتبط جنيالوجيا بالسعي الحثيث لنسفها بقدر ما تهدف للإحتفاء بالسيمولاكر كهوية أخرى للأيقون و نسخة متغايرة للعالم دون التماس للنموذج و الأصل و المركز . و هنا لن يصبح السيمولاكر مجرد ” نسخة مشوهة محرفة خائنة .. بل إنه يفصح عن قوة إيجابية تنفي الصور الأصلية و النسخة معا .. كما تنفي النموذج و الاستنساخ ” (21) كما تخلخل تمركز النموذج الأعلى للهوية و تمركز النموذج الأسمى للذات الجماعية التي تتمظهر في القبيلة و الطائفة و الحزب و النزعات القومية و الإثنية و اللاهوتية … لذلك فمجاوزة الذات المتمركزة حول الأيقون و النموذج لن يتم سوى بتهجير المعنى من الأرض المقدسة للكوجيطو و فصله عن اليقين و التمثل و الحضور .. و السعي لإلتماس الحقيقة لا كتجوهر للمعنى و إنما كتمظهر للاحقيقة باعتبارها صيرورة للأعطاب و الأخطاء .. لأن ماهية الحقيقة و سرها المكنون ما هو إلا تاريخ من المحظورات و المكبوتات و الممنوعات و السرديات المغلفة و التأويلات المحنطة التي تعطي الأسبقية للذات على الموضوع و للفكر على المادة و للروح على الجسد و للتأويل على الدليل و للمدلول على الدال …
لهذا ظل النص الميتافيزيقي – حسب الباحث – مجرد جسر لارتياد ” روح ” المعنى للتحصن بتجوهرها المطلق و هو ما أشر عليه نتشه حينما اعتبر اللغة فخ و ” معقل الميتافيزيقا . ففي اللغة فقط تجد مفاهيم ” الوجود ” و ” الجوهر ” و ” الهوية ” إمكانية دوامها وخلودها . إن الميتافيزيقا تنظر إلى الألفاظ اللغوية كخزانات تحفظ للمعاني أزليتها وتبقي على تطابقها عوض أن ترى في الدال و العلامة مكان تناحر و اختلاف ” (22)) . لهذا تتوجس الميتافيزيقا من النص المتشظي و تحتفي بالنسق الخطي التراكمي الموصول بذاكرة المفهوم و سر المعنى و سلطة التأويل المشفوعة بالقوة و العزة و الخلود . لهذا يعتبر نتشه إرادة المعرفة إرادة قوة و أن المعاني الميتافيزيقية لا تكتسب ماهيتها سوى بالقوة التي تكتسبها .
من هنا ستصبح اللغة ذاتها فعل سلطة تحتكر رمزيتها مؤسسات لاهوتية واجتماعية و سياسية و سوسيوثقافية و تربوية و إعلامية وترفيهية أيضا … فالسلطة حسب فوكو لا تأتي من أعلى فقط بل ” تأتي من كل صوب .. و هي حالة في كل مكان .. حاضرة في جميع الأفعال و السلوك .. و هي لا تفتأ تنتج نفسها في كل لحظة و حين ” (23) . هنا لا تصبح الحقيقة فاعلا بل مفعولا بها تتلون حسب مصادر السلطة الاجتماعية التي تنتجها ” حيث سيصبح لكل مجتمع نظام معين للحقيقة و سياسة المعرفة . أي أنواع من الخطابات يقبلها و يسمح بتداولها على أنها خطاب الحقيقة . و آليات و منابر تسمح بتمييز الصواب من الخطأ . و تقنيات و طرق للتوصل للحقيقة ” (24)) .
إن الميتافيزيقا ليست نسقا فلسفيا فقط بل هي بنية وجودية تخترق كل الأنماط السوسيوثقافية التي أنتجتها البشرية منذ ليل الأزمنة القديمة لذلك فمحاولة مجاوزتها – كدأب الجنيالوجيا – ليست نسفا و إقصاء لكل حقيقة و إنما هو تجاور يتغيا الحفر في العلائق المنتجة لمفعولات الحقيقة داخل معمعان الاختلاف
هوامــــش
(1): د. عبد السلام بنعبد العالي – أسس الفكر الفلسفي المعاصر مجاوزة الميتافيزيقا
(2): نفسه ص 20
3 –  (3): نفسه ص 27
(4): نفسه ص 29
(5): نفسه ص 33
(6): نفسه ص 33
(7): نفسه ص 36
(8): نفسه ص 42
(9):نفسه ص 43
(10): نفسه ص 63
(11): نفسه ص 67
(12): نفسه ص 76
(13):نفسه ص 78
(14): نفسه ص 79
(15): نفسه ص 84
(16): د. عبد السلام بنعبد العالي – أسس الفكر الفلسفي المعاصر مجاوزة الميتافيزيقا – ص87
(17): المرجع نفسه ص 93
(18): المرجع نفسه ص 96
(19): المرجع نفسه ص 98
(20):المرجع نفسه ص 100
(21): المرجع نفسه ص 104
(22): المرجع نفسه ص 147
(23): المرجع نفسه ص 149
(24): المرجع نفسه ص 151
لا يتوفر وصف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت