هاملت الاخر ورسائل الفيزياء/ م. أزهار سهيل عطية
“لتنمية فكر ناضج, ادرس علم الفنون, ادرس فن العلوم تعلم كيف تبصر
أدرك أن كل شيء مرتبط بكل شيء اخر”
ليوناردو دافنشي
أن الفن والعلم يجب أن يعملاجنبًا إلى جنب من اجل مزج الابداعات العقلية الفكرية التي ينتجها العقل, ومن اجل الاستفادة من النتائج التي يأتي بها الخطاب بين الثقافة الفنية والعلمية وذلك لتعزيز الفهم الافضل, ولبيان أهمية تعدد التخصصات. حيث يمكن استخدام الأدب كمقياس واداة لفهم أفضل لنظرية الكم الفيزيائية, بينما يمكن أن تساعدنا هذه النظرية أيضًا في اكتشافوفهم معان اخرى جديد في الأعمال الأدبية. وهذا بدوره يؤكد بأن, ليس هناك اختصاص او مجال ما يمكن ان يأخذ موضع الأسبقية على اختصاص ومجال اخر, وأن ذلك يساعد في ملء فجوات الاتصال بين التخصصات, ويساعد على امكانية الجمع بين التخصصات المختلفة. وبالتالي، فإن وجهات النظر المختلفة والمتنوعة ستكون لها نتائج اكثر فائدة لكلا المجالين، وذلك بدوره يؤدي الى الكشف عن رؤى وافكار ونظريات جديدة. ففي نفس الوقت الذي يسعى فيه علماء الفيزياء الى التوصل الىنظرية موحدة, فإن نقاد الأدب يسعون الى امكانية الوقوف على مداخل ومغاليق الظاهرة الادبية, وذلك من خلال نهج متعدد التخصصات بدلامن النظام الأحادي الذي يؤطر النصوص وبالتالي العقول ويؤدي إلى التعامل مع النتاج الادبي من جانب واحد.
“كل حال يدوم زمانين, لا يعول عليه”
محيي الدين بن عربي
طالما كانت المعرفة تتأثر وتتبع الفيزياء, فبعد فيزياء الحداثة النيوتنية التجريبية, أصبحت المعرفة بعدها مادية تجريبية ادعت بانها علمية ذا توجه يقيني, كما هي المادية التاريخية. اما مع فيزياء ما بعد الحداثة فقد تغيرت المعرفة فاصبح الحدس أهم من التجربة, وبات التوجه ينادي بعدم امكانية بلوغ اليقين. وبعدما اسقطت الميتافيزيقا من قبل فيزياء الحداثة النيوتنية, فقد اصبحت الميتافيزيقا اليوم تعبر عن عمق المفاهيم الفيزيائية ما بعد الحداثية, وأن تجربة الشقين والتصرف الميتافيزيقي للفوتون وذلك عندما يكون مراقبا وعندما يكون هنا وهناك هي الدليل الاول على ذلك, وان طبيعة المعرفة العلمية اصبحت اليوم ميتافيزيقية تجردية حدسية وافتراضية, ولقد اتضح التناقض بين الظاهر والحقيقي وذلك الذي جعل الفيزياء الكمومية تقف في صلب الميتافيزيقا,حيث ان المعرفة في الفيزياء الكمومية ذهنية صورية فيها من الصورالذي يجعل التخيل في بعض الأحايين مساويا للواقع.
تم تحليل مسرحية “هاملت” لشكسبير باستخدام العديد من المناهج النقدية, وان امعنا النظر في المسرحية مرة ما بعد حداثية اخرى، يصبح واضحا بأن نظرية الكم موجودة في كل مكان, وانها تساعد في تعين كل مستوى من مستويات الوجود, وان الاشارات الفيزيائية الكمومية متجلية في مسرحية “هاملت” أيضًا.
أولاً ، وفيما يتعلق بمفهوم تعدد العوالم في الفيزياء الكمومية, وعلى الرغم من عدم وضوح وجود عالم ينفي النص, فان دان فالك في كتابه “علم شكسبير” قد أوضح بأن الاحداث في مسرحية “هاملت” تدور في عالمين، حيث بدى وخلال احداث المسرحية بالكامل, بان الأمير عالقًا بين عالمين . في الفصل الاول و حسب تفسير العوالم المتعددة, نرى ان هاملت “يتنقل بين الأرض والسماء” يسأله عمه عن مزاجه السيء ، ويتظاهر بأنه كان على العكس من ذلك ، “هذا ليس صحيحا يا سيدي, الشمس تغمرني ولا اكاد اطيقها”. ونجد ايضا بأن الأمير وفي نفس الوقت, كان يبتهل ويناشد الكواكب في السماء وينظر بعسر وافراط الى قبر أوفيليا الذي تم التنقيب عنه مؤخرًا. يذكر هاملت بأن “حزن ليرتس” يؤذي الكواكب ويجعلها تقف في السماء ” من هذا الذي تجلى حزنه صاخبا مدويا, وجزعت لكلماته الحزينة كواكب السماء فتوقفت في مداراتها, كأنما جرحها ما سمعته من كلمات” ويخبر الشبح بأن قصته “ستجعل عينيك تقفزان خارج محجريهما”. وهذا يلغي الفكرة التي تجعلنا نتخيل أن النجوم تتحرك عبر السماء بسلام. كما ونرى ان الامير يشتكي ويقول ” صار العالم على هذه الارض امام عيني فارغا وعقيما”
اشار فالك الى العالمين على أنهما الأرض والسماء, لكنه من الواضح, ان الذي يحدد وجود عالم ما, هو أحداث وتاثيرات اخرى داخل عالم اخر. العالم الأول هو الكون وهو العالم المعتاد ، العالم الكلاسيكي الذي نعرفه, اما العالم الأخر هو عالم الشبح حيث والد هاملت ، مكان ما بين الحياة والموت، حيث يكون الشبح متجهًا لوقت معين إلى المشي ليلا على الأرض ، “بينما اليوم فأنا محاصر في نيران عالم البرزخ ، الى ان اكفر عن ذنوبي وذلك بعد ان تحترق جرائمي السابقة “. ينظر العالم الكلاسيكي المعتاد إلى هذه المفاهيم على انها مفاهيم غير منطقية, وعلى الرغم من انه لا يمكن توضيحها باستخدام معرفتنا بهذا العالم, لذلك وفيما يتعلق بالشبح، فان هناك شيء ما غامض لا يمكن لأي إنسان معرفته واكتشافه.
“انا شبح ابيك وقد حكم علي ان اجوب الارض ليلا لفترة من الزمن, بينما احبس اثناء النهارداخل نيران البرزخ حتى اكفر عن ذنوبي السابقة. ولولا انني ممنوع من ان اخبرك باسرارعالم البرزخ, لاخبرتك بقصص تعذب روحك, وتجمد الدم في عروقك, وتجعل عينيك تقفزان خارج محجريهما, وتقف لها شعرات رأسك كانها اشواك قنفذ,ولكن الفانين امثالك غير مسموح لهم بان يسمعوا وصفا للحياة الاخرى”
ثانيا, ومن هذه المرحلة فصاعدًا ومن مفهوم دور وتاثير المراقب في نظرية الكم الفيزيائية ، وبعدما اتضح بان هاملت الاخر في العالم الثاني ، وذلك بعد ان تم تفسير سلوكياته السابقة والتي كانت واضحة. هاملت يتحدث مع والدته عن خيانتها وعن الطبيعة الشريرة لزوجها شقيق وقاتل زوجها السابق، يظهر الشبح مرة أخرى ليذكر الأمير بمهمته “لا تنسى جئت لأثير شهيتك للانتقام” ان هاملت يستطيع أن يسمع ويرى الشبح بينما والدته لا تستطيع ذلك. لقد اعتقدت أن هاملت اصبح مجنونا, لأنه يرى أشياء غير موجودة، على الأقل في عالمها هي، لذلك فهي تقول له “هذا مجرد تلفيق من مخيلتك، يمكن للجنون خلق الهلوسة ” يظهر هذا تشابهًا واضحًا مع العالم الكمي ، ويرسم صورة تخبرنا أنه بدون الإدراك،لا يمكن للمرء أن يرى حقًا، فالعالم الكمي غير قابل للتحقيق وخفي عن اعيننا, لأنه أصغر من أن نكشفه, وبالتالي فان العلماء يحتاجون إلى أداة من نوع وصنف الشي المراد سبره. في هذا العمل الفني، يكمننا ملاحظة الاختلاف بين بطل المسرحية ووالدته ,فان ما يميز هاملت هو المشاعر القوية. الشيء الذي يجعله يرى الشبح, انها الأداة التي حصل عليها من عمق حزنه على موت والده، ومن عمق جرحه بسبب أفعال الخيانة والخسارة ، والتوق إلى الانتقام.
ثالثا, وبالنظر إلى مفهوم عدم التوازن في نظرية الكم، فان المحاولة المستمرة لأوفيليا وهاملت في أن يتأقلموا مع محيطهم ذلك الذي يمكن عده مشابه لبيئة الجسيم في محاولته تحقيق التوازن. وان هذا التقيد والذي يمكن تسميته الاستعباد هو الذي يحدد الوجود الكامل لهاملت وأوفيليا, وبغض النظر عن مقدار ومدى صعوبة المحاولة، فانهم لم يتمكنوا أبدًا من تحرير أنفسهم, فكل قرارات أوفيليا تتخذ وتوضع من قبل اشخاص آخرين, الى ان تفقد اوفليا حياتها في النهاية. ومع أن هاملت لم يستسلم الى الجنون بالكامل، وأنها تلك الرغبات المختلفة والخيارات المتضاربة, التي كانت تفصله عن نفسه وتقوده إلى حالة من عدم اليقين, فان هاملت واوفيليا يموتون عبثًا وهم يحاولون تلبية ما يرغب به الآخرين. ذلك مشابه في الأساس لعملية الجسيمات, هذه العملية نفسها التي يمر بها الجسيم عند محاولته الوصول إلى حالة التوازن مع محيطه. في البداية, سيكون على الجسيمات التخلي عن أجزاء من نفسها عن طريق الاندماج والاتحاد مع جسيم مجاور فقط ، بعد ذلك, ستكون لتلك الحالة الجديدة خصائص كلا الجزئتين السابقتين. ولكن مع كل محاولة ربط جديدة، ستصبح آثار الجسيم الأصلي أصغر وأصغر، حتى يضيع في محيطه، بنفس الطريقة التي كانت بها أوفيليا وهاملت تائهان في رغبة الآخر، وتزول أخيرًا من الوجود دون أن تصل أبدًا إلى حالة التوازن الشامل.
رابعا, ووفقًا لظاهرة التشابك الكمومي في نظرية الكم، وهي “إذا تشابك جسيمان وتم تطبيق شكل من أشكال القياس على جسيم واحد، فسيؤدي ذلك إلى تغيير الجودة الرئيسية للجسيم الآخر”. يبدو هذا متناقضًا لأن هذه الجسيمات لا تتطلب الاتصال المباشر مع بعضها البعض كما في حالة أوفيليا وهاملت. وهكذا يكون كلا العاشقين في وضع متشابك، يؤثران على بعضها حتى لو كانوا على بعد أميال. لا يرتبط هاملت وأوفيليا فقط بحقيقة أنهما مرتبطان بدافع الرغبة بالآخر، بل من خلال تأثير قراراتهما الفردية على الآخر، وبغض النظر عن المقربة الخاصة بينهما. فمن الواضح أنهما مرتبطان برابطة حب عميقة, وأن قرارات أوفيليا وأفعالها وفي النهاية وفاتها لها تأثير على هاملت وتثير ردود أفعال مختلفة، وكذلك العكس. اي ان لديهم تأثير متبادل يسبب تغييرًا في الشخص الآخر. مع ذلك، وبغض النظر عن هذه العلاقة الوثيقة ، لا يزال هناك تأثير متبادل بينهما, اي تغيير في احداهما يسبب تأثيرا في الآخر، اي ان سبب جنون هاملت هو رسالة أوفيليا و وانها ردة فعله التي كانت سببا في يأس أوفيليا، لأنها ادركتما الذي قد فعلته بالشخص الذي تحبه. رغم الظروف لكنهما لم يكونا منفصلين عن بعض. في النهاية وبسبب مغادرة هاملت انتحرت أوفيليا وعندما علم هاملت بذلك، أدرك أخيرًا مدى إعجابه الشديد بأوفيليا وومدى تعلقه بها, وماذا يعنيه انتحارها بالنسبة له,” انني احببت اوفيليا حبا جما. ولان جمعت حب اربعين الف اخ معا ما استطاع حبهم ان يضاهي حبي لها. فما الذي أنت صانع من اجلها يا هذا؟”
ما يبدو واضحا, أن بطل المسرحية عالقا في عالمين. وان الامير وحبيبته، الشخصيتان الرئيسيتان وبسبب تاثيرهما المتبادل وبسبب تأثرهما بالمحيط يظهرون كالجسيمات التي تكافح من أجل التوازن. وان علاقتهم ببعضهم هي استعارة للتشابك الكمي، وهذا يقدم فهما جديدا في تفسير هذا العمل الادبي, كما يمكن العكس ايضا, حيث يمكن استخدام النص المسرحي في توضيح الفكر العلمي. وهذا يوضح ايضا بان, حتى ولو لم يتم تصوير مفهوم معين بوضوح، فإن ذلك لا يعني إنه غير موجود، كالعالم الكمي تمامًا، وعلى الرغم من عدم امكانية رؤيته بالعين البشرية ،لكنه يتخلل ويعين ويحدد كل مستوى من مستويات الوجود.
ويوضح هذا التحليل لمسرحية “هاملت” ايضا, أن نظرية الكم الفيزيائية لا يمكن تطبيقها فقط على بعض الأعمال الأدبية المختارة، ولكن نستطيع تطبيقها أيضًا على تلك التي نادرًا ما يتم تحليلها من وجهة نظر علمية, ولأن الجانب العلمي ليس واضحًا بشكل صارخ ، فهذا لا يعني أنه ليس هناك وغير موجود.
م. أزهار سهيل عطية