انتلجنسيا (انا والشبيه ) سيرة شاعر / بقلم : الدكتور طالب هاشم بدن
قراءة نقدية تحليلية لرواية الاديب الدكتور قصي الشيخ عسكر
الانتلجنسيا :
ان مصطلح انتلجنسيا تعود اصوله إلى اللاتينية ، لكنها لاقت رواجاً واسعاً في جميع انحاء العالم بفضل الروس. تعني النخبة المثقفة أو المثقفون وهذه التسميات أطلقها الروس في القرن التاسع عشر للدلالة على القدرة على التفكير والنقد وحاجة العقل . وأول من أستخدم هذا المصطلح ( جوكوفسكي) الشاعر الروسي لوصف مجموعة من الاشخاص الذين يمتلكون مبادرات ثقافية وسياسية . بهدف نشر ثقافتهم ووعيهم ضمن المجتمع وشملت هذه الطبقة الفنانين ومعلمي المدارس وقرّاء الكتب . بمعنى إن الانتلجنسيا بتعريفها الشامل الواسع تدل ببساطة على أي شخص حاصل على تعليم عالٍ .
وبما أن رواية ( انا والشبيه ) هي سرد لسيرة أحد اعمدة المجتمع والذي يحظى بصفة أديب وشاعر وتدريسي له مكانة مهمة في المجتمع سلّطت عليه الرواية مجمل _ ان لم تكن كل _ حوادثها ؛ وجدت أن تكون النخبة خير معبر عن تلك الشخصية .
رواية كولاج :
بدأ الاديب الدكتور ( قصي الشيخ عسكر ) تذييل عنوان روايته ( انا والشبيه ) برواية كولاج ، إذ لم يضع هكذا جملة بمحض الصدفة أو اعتباطاَ ، بل إن أراد من خلالها التنويه عن معنى مهم وهو تمييزها عن الرواية العادية . ويأتي معنى رواية كولاج بالفرنسية ( لصق ) وهو تكنيك فني يقوم على تجميع أشكال مختلفة بحيث تكون متناسقة في أوراق مقصوصة عبر تحويل الصور إلى اخرى أفرغت من معناها وحلت فيها معانٍ أخرى لتحدث صدمة عبر هذا الانتقال . بوصف إن هذا الاختيار لتلك اللواصق الكولاجية جاء متناسباً وسير حوادث قصة وحبكة الرواية بتفاصيلها وتداخلاتها التي سردت حال الشخصية وما تبعها من مطبات حياتية جمة .
مدخل :
عندما نتناول في البحث والتحليل النقدي سيرة مهمة علينا الحذر في الخوض في أعماقها وما تعبر عنه من انتقالات مهمة من اجل تلافي الوقوع في متاهة تزعزع من البناء المهيمن على مجمل حوادث الرواية . إذ ان رواية أنا والشبيه نجد صخرة تشبه أنساناً أ, شجرة ؛ صيغت على شكل معالجات ومكابدات جاءت على وفق ( نشيد ) وضعها الراوي لتجسد معنى الشبيه بصورته المتعددة ، مستدركاً تشابه الاسم الذي منفك يلاحق شخصيته على مر الزمن ولا ذنب له سوى تشابه الاسماء التي تارة جلبت له السعد وتارة النحس وهي تسمية ليست ضمن جدول أختياره ، إذ ان الجدة ( حسنة ) اختارت اسم ( صدام ) على مسمى الولي الطاهر السيد ( صدام السيد صروط ) ، وكانت حسنة حسِنة المنظر فائقة الجمال والذكاء ومرجع للكثير من القريب والغريب .
سيرة مفعمة بالاحداث:
يبدو أن سيرة شخصية الرواية ( الشاعر صدام ) مرت بحوادث حقيقية سردها ضمن حقب متعددة مربها في مراحل حياته وأراد تجسيدها في رواية ( انا والشبيه ) تخللها عنصر الاثارة والتشويق الذي زاوج ما بين المثير والمخيف وجزء من السعادة التي فيها مغامرة الشباب وعنفوانه ، بوصفه عالج مراحل من حياته العاطفية في سطور اناشيد يسردها بدقة وامتاع ضمن تفاصيل مرتبة على وفق جدولة الامكنة ويكون الزمن حاضراً مع الانتقال من مكان إلى اخر وتشكلاته المثيرة التي اعطت صورة مذهلة لما أطر حياة شخصية الرواية فجاءت بأسلوب سلس جزل المعاني بعبارات مرتبة صيغت بسهل ممتنع بلغة الوصف الجزل المعاني وعبارات لفظية منمقة . ففي النشيد الخامس يحدث كاتب الرواية إنتقالة مهمة بحوادث روايته بعد الطفرة في الامكنة من القرنة إلى التنومة وهي رحلة مفاجأة لطفل عشق خصوبة الارض وتعلقه بجداولها وعصافير حدائقها المزقزقة ، غير إن إرادة الاهل اكبرمن رفض الطفل وترك عالم يتجلى في شخص أبيه الفلاح الايام وحدها كفيلة بالترويح عنه واخفائه ، إذيستمر الراوي في سرد سيرة شخصية الرواية بدقائقها وتفاصيلها وهي محاولة جادة في شرح عالم عاشه وكابد مكنوناته وما حل به من تشابه الاسم على الرغم من انه لا ذنب له في الاستحواذ عليه ، فجدته وجدت ان الاسم يتلاءم مع شخصه تيمناً وبركة كما أسلفنا ، إلا انه لم يتخذ العمامة سبيلاً له وبقي الشاب المحب يراقب بنت الدكتور التي سببت له متاعب ولعنات . ان اسلوبية الشاعر بقيت تلاحقه عبر سردية الرواية وحديثه عن قصة شاعر مفعمة بالاثارة عبر تنقله بين نشيد واخر من خانة إلى اخرى . وربما جاءت الفرصة المناسبة في تشبيه أسم الرئيس وشخصية الرواية ( صدام ) في التسبب برفعته ومكانته عند الشعب وبعث في نفسه البهجة والسرور في ربط موضوعي وتداخل حداثوي ضمن موضوعة الرواية ، بوصف أن خيال الراوي لم يقف عند الاسم فحسب بل تعداه إلى الحلم بما هو أكبر وأبعد من ذلك تخلله دعابة في شخصية الاحول وما يراه من أن للبلد رئيسين ، وتشبهها بسفينة بقبطانين ، حتى خُيل له إنه يحمل على الاكتاف وتتعالى الهتافات من حوله (بالروح بالدم نفديك يا صدام ) ، لفترة وجيزة ما لبثت أن تنتهي اثناء التظاهرة السلمية . غير أن ما جرى على أخيه (حسن) غيّر المعادلة بعد إعدامه بسبب انتمائه لتنظيم محظور ، ولولا الشعر وما يتحلى به شخص الشبيه والذي عرف به لما أمن من عقاب السلطات الامنية التي وجدت انه قد أخفى المسدس ومن الممكن أن يكون قد تواطأ مع أخيه في الجريمة ؛ وبذلك قد خفف عنه بعض من المعاناة .
قصة حب عرضية :
لم تخل الرواية من الاثارة والتشويق والتي جعلت منها مثار اعجاب وتداخل جمالي هرمينوطيقي ضمن حوادثها ، إذ شكلت قصة حب شخصية الرواية علاقة غير متكافئة عند إنتقاله للدراسة في بغداد من أحدى زميلاته في كلية البيطرة والتي تدعى ( ناهدة ) وهذه ناهدة فتاة جميلة ممشوقة الطول تبادلا الحب وتطورت علاقتهما ، إلا إنها صابئيةمندائيةولوالدها خيار تزويجها ولا تقوى على رده بسبب إن العرف عند المندائيين هو عدم تزويجها من غير ديانة واذا حدث وتزوج احد منهم من غير ديانة فيتبرئون منه ولا عودة له معهم . وبهذا تكون علاقة حب من مسلم غير موفقة بل وستجر الخيبة والالم على من وقع بها ، لذلك صار ( صدام ) الطالب الجميل البصري الاصيل مغرم بناهدة ولم يستطع التخلص من حبها وكان لعاطفته سطوة عليه بعد ما رأى من بنت الدكتور . جاءت قصة الحب تلك مواكبة لحوادث الرواية وفيها من الاثارة والتشويق ترابط بنائي لحبكتها ما عزز من سير حوادث القصة وتعاظم عقدتها ، التي تندرج ضمن وسائل الاقناع التي تجلت في محاولة بطل الرواية ( صدام ) من الذهاب إلى والد ناهدة ومقابلته من اجل طلب يدها ، غير إنه جوبه بالرفض على الرغم من المقابلة اللطيفة التي تصنعها والد ناهدة ،وفي محالولة أخرى سعى بطل الرواية الى اقناع ذويه وحثهم على الذهاب الى والد ناهدة غير إن الامور لم تجر على ما اراد وانتهت قصة ناهدة بحب ناقص خاب على إثرها بطل الرواية .
إن إستعانة الكاتب الروائي بخلفيته الثقافية وما يحمله من تراكم معرفي جعل منه قادراً على حبك أسلوب الكتابة والتواصل المعرفي في صياغة قصصه على وفق تتابع بنائي قارب ما بين الواقع والمتخيل بحيث صار على المتلقي الشغف ومحاولة التواصل من أجل إتمام ما بدأت به الرواية والتسارع الزمني في تنامي الحوادث التي مر بها بطل الرواية وصعودها وهبوطها عبر مطبات الزمن وما صنعت من مواقف متنوعة أفاد منها كاتب الرواية في تجسيد رؤى الشخصية التي مزجت ما بين الماضي والحاضر بأسلوبية لغوية قادرة على صنع أدواراً متنوعة تحظى بها شخصية البطل تولدت عير معانٍ وضعها عبر اناشيد محكمة السبك منتظمة . ناهيك عن اللغة الشعرية التي يبدأ بها اناشيده لتكون متناسبة وكأنها نسيج شد بعضه بعضاً في حقب متعددة . بوصف إن احالة اجواء الرواية الى عالم طوباوي وما تنوعت به من تشبيه صوري في :
الماء أشبه بمقص يقرض أرجلنا
مسامير تخترق سيقاننا
سكاكين ..
برد وارتجاف .
رجال في مستنقع .
كل تلك الصور المهمة تعبر عن مجموعة من الصور والاستعارة والتشبيه التي إندرجت ضمن ألاسلوب اللغوي الجميل في بناء حوادث الرواية وشد المتلقي إلى تلقف ما إنساق من حوادث ومرت به مراحل نمو وتطور الشخصية .
ومن الملاحظ إن الراوي قد أفصح عن نفسه ولم يستطع التخلص من كونه شاعراً فزج كم هائل من الاشعار حتى أدخل عبارات مثل ( أكتب فيها شعراً ) بقيت تتأرجح بين عواطف الحب والخيال وهي شاخصة في قلب تعلق بالمندائية ناهدة .
مرحلة جديدة :
الحب لا يزال معلقاً في قلب البطل ولم يبرح مكانه على الرغم من الانكسار الذي حل به . لكنه بدأ يتلاشى وتخف وطأته مع مرور الزمن ولابد للعيش مرة أخرى . مع تقادم الزمن زالت صورة ناهدة شيئاً فشيئاً ولو عن التفكير إلا بعض المصادفات واستعادة الذكريات المرة ، وصار لزاماً على البطل أن يستفيق ويبحث عن حب آخر وما خيرية إلا خير بديل .
خيرية بنت الحي الذي يقطنه بطل الرواية معلمة في قضاء الفاو وجار حسن الخلق والخلقة لطالما زارت جارتها أم صدام وهي تمثل العفة والشرف العربي الاصيل وخير جار لدار صدام القابع بحب ضائع ، لا يرضخ لزواج تقليدي . وما أن حل اللقاء بخيرية تحرك في قلبه شيء خفي وما الحب إلا خلق وابداع يدخل بلا استئذان على من كان وما كان . فتبادل نظراته مع خيرية اختصرت آلاف الكلمات ثم بقصد وبلا قصد توالت اللقاءات وعلى الطرقات تعانقت القلوب وهوت ونسيت ما فات من ويلات ، حتى تكلل الامر بزواج وسعادة بين الطرفين . وبذلك بدأت مرحلة جديدة من الحب الممزوج بعاطفة متبادلة ، فنجد الراوي شاعراً ينسج من شعره كلمات إنسابت بأعذب صفات وتغنت بحب العذراوات ، فسرعان ما ينسج لغته على ثنايا الضحكات ويقول :
وددت لو كتبت شعراً
والوقت طويل
مازال الضحى في ألقه صافياً
والظهيرة لا تلوح من بعد
الحزن يتزحزح عن صدري
والماضي نفسه يذوب في أشعة الشمس
حتى صارت خيرية خير بديل لماضٍ ولى وراح وسهر طال أمده .
وعلى الرغم من التغيرات والانكسارات التي حلت بالعراق إبان الاحتلال الامريكي وما تبعه من ويلات ، ظلت خيرية وصدام وأطفالهم يتنقلون بين المدن تارة هرباً وطلباً للامان وتارة تخفياً من لعنة أسم يشبه أسم المطلوب الاول . بيد إن بطل الرواية مر بمراحل من الخوف والهلع وحسب ما جاء في الرواية إنه تعرض للتعذيب والتهويل لا لشيء وإنما لتشابه الاسم أو لتهم في غنىٍ عنها وقعت له بمحض الصدفة . منها إنتماء أخيه إلى حزب محظور وأكثر موقف إيلاماً مر به بطل الرواية عندما اعتقل من قبل رفيق ( ق ) وشخص آخر وضعوا في رأسه كيساً أسود وانهالوا عليه تعنيفا وتعذيباً حتى ألقوه في مكان مقفر لولا السيد ( ط) الذي بادر إلى فتح الكيس وخلعه من رأس الضحية لكان قد مات .
مأساة أخرى :
لم تنته الرواية بعد وما زال البطل يعاني ، إذ ما لبثت الحرب تضع أوزارها وبدت الامور تستقر وتعود الحياة تدريجياً بعد دمار ومشاق ، حتى خيّم الحزن على بطل الرواية ( أبا عدي ) وبلوغه خبر وفاة رفيقة دربه ( خيرية ) بعد رحلة عقود قضياه سوياً ، وعلى الرغم من إنفصالهما لسبب ما إلا إنه بقي بحفظ وتحفظ تلك الايام الجميلة بمآسيها وقد أنجبت منه ست أولاد بين ذكور وأناث ولهم مكانتهم في الحياة دكتور ومهندس ، لكن إرادة ألله هي الاقوى .
وبنهاية حياة أم عدي كان بطل الرواية قد نسج مراحل مهمة من حياته وأخذ الراوي الشاعر في سرد سيرة بطله على وفق تناغم حركة الحبكة التي عرج في خاتمتها إلى تكوين عائلة جديدة بالاشارة إلى ( إيمان ) زوجة بطل الرواية ( صدام ) ذكرها في النشيد التاسع عشر وقد أنجب منها أعيان وعلي وحسن لتكون مكملة لسيرة حافلة بالمفارقات . وما الاناشيد التي جاءت في الرواية إلا انتقالة مهمة وبناء علاقة متينة ما بين الماضي والحاضر كأنشودة المطر التي بقيت خالدة أبد الدهر .