نص مسرحي : " ليلة قتل الملك" / تأليف جبار القريشي.
الخطاب المسرحي
المسرح بمحتوياته عبارة عن محل حلاقة مهجور بحيطان تعلوها الرطوبة والتشققات وخيوط عناكب تتدلى من السقف الخشبي المغطى بالقماش الأسمر الممزق، يحتوي على كرسي حلاقة، مرآة كبيرة، كاونتر قديم موزعة عليه عدد من علب الكولونيا الفارغة، مسامير معلق عليها فوطة حلاقة مع خاولي، واشياء اخرى يحتاجها الحلاق. وهناك على الحائط صور قديمة لبعض الشخصيات الوطنية، صحف قديمة، كل مغطى بالاتربة)
شخصيات المسرحية
ـ مطرود.
ـ شخص.
ـ اسكافي.
الفعل المسرحي:
( ظلام يخيم على المسرح، بقعة ضوء تُظهِر شخص جالس مغطى بالكامل بقماش أبيض لا تظهر ملامحه يمسك بمرآة يطالعها ويردد بعض العبارات والتراتيل، وملامح شخص آخر ممدد تحت طقوس تنويم مغناطيسي أو ما يسمى «أبو مراية» وكتلة دخان متصاعد تزداد لتغطي المكان.
( يتعالى الايقاع المصاحب لموسيقى صاخبة بينما المكان غارق في الظلام، يستمر الوضع للحظات.. تعود بقعة الضوء لتكشف لنا عن شيخ كبير بجسم نحيل متجلبب حزن عميق واقف في باب دكان الحلاقة يتأمل اغراضه التي تغطيها الأتربة وخيوط العناكب.. يتفحص الاشياء، يتلمسها قطعة قطعة، ينفض عنها الغبار، يهز رأسه محاولا ان يتصفح اوراق ذاكرته المثقوبة.).
(يقف متجمدا خلف الكرسي وهو يتأمل الصور المعلقة على الحائط، يركز على أحد الصور، تتوهج على محياه ابتسامة وهو ماسك بأحدى يديه موس حلاقة يدوي قديم وبالاخرى مشط خشبي كأنه بهيئته يعود لأزمنة بعيدة، يبدأ الفعل الحركي كأنه يحلق رأس أحدهم،)
مطرود: بماذا يأمرني جلالتكم؟، سأبذل قصارى جهدي لتكون الأكثر أناقة بين الملوك والرؤساء، ستبدو كطائر جنة جميل وانت تدور بين المحتفين بعيد ميلادك الميمون. وهل في بغداد كلها، كرخها ورصافتها من هو أبرع مني؟. المجيدي.. يا سيدي هو الاكثر ملائمة لجلالتكم، وهو الرائج هذه الايام بين الشباب، وأنت ملكهم المفدى سيد الشباب ( يعود فيتأمل الصورة) أتمنى أن يصحبني جلالتكم في الرحلة المباركة الى مدينة الضباب لأحظى بشرف حضور مراسم عقد قرانكم المبارك ، وسيرى جلالتكم حينئذ من خلال الضيوف والمدعوين من الابرع في فنون الحلاقة، أنا أم حلاقي أبو ناجي؟.
(تدور بقعة الضوء لتظهر لنا في الزاوية الاخرى من المسرح شخص ببدلة وقبعة ونظارات سود، يدخن سيجار وينفث دخانها بعيدا، يفزع مطرود خائفا.. ويفغر فاه حين يلمحه)
الشخص: (يطلق ضحكة وهو واقف مباعداً بين ساقيه) ها أنتَ أخيرا.. وقد وقعت بأيدينا أيها المخادع الماكر.
مطرود: (بتلعثم) مَن؟.. أنا؟..هو؟..من أنت !؟.
الشخص: سنين طويلة ونحن نبحث عنك أيها اللغز المحير، نقتفي آثارك أينما تكون، لم ندع مكانا فيه أثراً منك الا وداهمناه، لكنك كنت تفلت كل مرة من كمائننا بمهارة ساحر محترف. أعترف بأنك بارع في المخادعة والتمويه.. أهنئك.
مطرود: (مندهشاً) تبحثون عني!؟. أمتأكد أنت أم انك واهم؟. وهل تعرفونني.!؟.
الشخص: (يطلق ضحكة فيها تهكم) ومن ذا الذي لا يعرف مطرود.. حلاق الملك؟. هه..هه.. المفدى.
مطرود: (أكثر دهشة..) آ..ه..أوتعرف اسمي أيضا!؟،
الشخص: وكل شيء عنك.
مطرود: لكنني لا أعرفك، من أنت بحق السماء؟.
الشخص: ما نريد أن نعرفه عنك بالضبط هو، أين كنت متخفياً كل هذه السنين؟.
مطرود: (يتحدث بمرارة وتساؤل.) اذا كنتم تعرفون عني كل شيء، وتتعقبونني أينما ذهبت كما تقول، فلم السؤال اذاً عن مكان تواجدي؟.
الشخص: لأنك بارع في التخفي مثل عضايات الرمل. ولهذا نريد أن تخبرنا عن مكان اختبائك كل تلك السنين؟.
مطرود: أنا يا سيدي شخص فقير ومسالم، أمضيت عمري متسكعا في الشوارع والطرقات، يداهمني شعور الخوف من كل شيء، أحسب أن كل صيحة علي، يعرفني كل مشردي المدينة ومتسوليها، فلمَ التخفي؟.
الشخصّ: ألا تدري لماذا؟.
مطرود: أقسم.. بانني لا أدري.
الشخص: (بلهجة غليظة مغلفة بالتهديد) اسمع يا هذا.. لن ينفعك الانكار، سنهتدي الى اوكارك شئت أم أبيت، قسماً سننزع جلدك ان حاولت المراوغة والانكار، وستبان على لونك الحقيقي مهما صبغت جلدك وتخفيت تحت ألوان الزيف والخداع.
مطرود: يا سيدي.. المُلك.. وقد صار بأيديكم، والأمور وقد استوت اليكم، ولم أكن أنا سوى حلاق بائس، أمضيت عمري أقتات على فضلات موائد الملك، وعندما رحل بتُ مشردا مثل آلاف المشردين، وقد مات أهلي جميعاً، وأنا الآن أعتاش على ما يتصدق به الناس علي، فعلام تطاردونني؟، ماذا تريدون منى بحق السماء؟.
الشخص: نريدك لأمرٕ في غاية الأهمية، فلا تحاول ان تتصنع دور الحمل الوديع.
مطرود: ( مستغربا) أيعقل أن مطرود بات شخصاً مهماً الى هذا الحد!؟، لاشك انكم تبحثون عن مطرود آخر، أخشى أنكم تضيعون وقتكم وجهدكم في البحث عن لاشيء، يا سيدي.. ما انا الا حطام ليس له اية قيمة.
الشخص: بالعكس، فأنت بالنسبة لنا مهم جدا، تماما مثلما كانت لك حظوة عند الملك.
مطرود: يا سيدي.. ما انا والملك؟، لم أكن أكثر من مجرد حلاق مغمور.
الشخص: (بلهجة حادة..) مغمور..؟ مغمور.. وترافقه كأي وزير في الكثير من جولاته الخارجية؟ هذا يعني انك لست مجرد حلاق، وانما شخص ذا أهمية بالغة عند الملك، مستشاراً له او كاتم أسراره، أو ربما أكبر من ذلك، من يدري؟ وليس بعيداً أنك تتخذ الحلاقة صنعة مزيفة من باب التمويه، لسنا مغفلين يا هذا.. لنصدق سخافاتك وادعاءاتك السمجة.
مطرود: (مستاءً يفتح مجرات الكاونتر ويخرج بعض الاغراض ويبعثرها..وهو يشعر بالألم.) لماذا الاهانة والتجريح.. قلت لك انا مجرد حلاق بائس.. والله العظيم حلاق، ما أنا والملك!.
الشخص: (بلهجة أكثر شدة) اسمع يا هذا.. كفى تباكيا، واخبرني، اين خبأت الرجل؟.
مطرود: (مستغرباً) رجل..!؟ أي رجلٕ ذاك الذي أخبؤه!؟.
الشخص: لا تُغشم نفسك، ولا تحاول اللف والدوران، فنحن ندرك كل الاعيبك، حذارِ أن تتمادى يا رجل.
مطرود: صدقني يا سيدي.. لا اعرف عمن تسألون، ومن هذا الذي أخبؤه!؟.
الشخص: (يخفف اللهجة) صديقك الحميم، ذلك الرجل التركي، ذو الشوارب المعقوفة، واللسان اللتغ، أين خبأته يا رجل؟.
مطرود: لم يعد لي في الدنيا أية صديق..صدقني، لقد اخترت العزلة بمحض ارادتي.
الشخص: لا تحاول التملص من الأجابة.. صديقك الأسكافي، صانع أحذية الملك، كيف لا تعرفه.
مطرود: (يصفع جبهته) أووووه.. الأسكافي (يشار) التركي، ذلك الرجل الذميم…تذكرته.
الشخص: أها.. أحسنت.. بالضبط.. هو ذا من نسأل عنه، الاسكافي، صانع الأحذية، الرجل القزم الدميم، حسناً أنك تذكرته. والآن خبرني اين خبأته؟.
مطرود: (يضحك.. مستغرباً..) أحقاً عن هذا الرجل تسألون؟.
الشخص: نعم، هو من نبحث عنه، ونحن على ثقة من أنك تعرف وجهته، أو انك من خبأه، فالمصالح تلعب دورا في مثل هذه الأمور.
مطرود: (يضحك هازئاً). وما مصلحتي انا لأخبؤه؟.
الشخص: حبذا لو تخبرنا أنت عن ذلك يا مطرود..
مطرود: يا سيدي.. ما لذي يجنيه حلاق بائس مثلي في علاقته مع اسكافي دميم أمضى حياته غاطساً في أحواض مدبغة جلود نتنة.
الشخص: (يُصعد اللهجة من جديد) اسمع يا هذا، أحذرك وللمرة الأخيرة، لا تحاول أن تتظاهر بأنك انسان ساذج، فنحن نعلم مدى مهارتك في المراوغة. دلنا على مكان اختبائه دون أي لف أو دوران، هيا يا رجل، لا وقت عندنا لنضيعه معك في الترهات.
(فجأة ويتعرض مطرود لنوبة من الغثيان، يمسك جبهته بكفيه للحظات.. يفتح بعدها عينيه وينظر صوب الشخص فلا يجده، وقد اختفى، يصاب بالذهول، يمشي صوب المكان، يتحسس الحائط بيديه، يتجمد كتمثال..لحظات ويفيق ويبدو عليه مرتبكا).
مطرود: يا الهي.. كان هنا..أين اختفى!؟ لا أدري..ربما يخيل لي؟. ولكن من هذا الذي كان يحقق معي في أمورٕ تافهة. أخشى أنني فقدت عقلي، أو هو الزهايمر الذي يتحدثون عنه ( يعود لمكانه السابق، ويجلس متهالكاً على كرسي الحلاقة، يدور برأسه في ارجاء المكان، يعاود النظر الى الصور المعلقة على الجدار، يقع نظره على صورته وهو شاب..متحسراً يقول..) ايه..!، ومضى قطار العمر سريعاً مثقلاً بالأحزان، يجر عرباته المتداعية نحو آخر محطات الخيبة، ليقبر في مخازن الخردة بلا أية قيمة ولا أي اعتبار. كان يوماً مشؤوماً ذاك الذي تدفقت فيه جموع الغاضبين كالجراد المبثوث، وكيف تدافعوا متزاحمين عند بوابات القصر، بعضهم يحمل العصي ملوحاً بها، والبعض يحمل سكيناً، وحناجرهم تهدر بهتافات الوعيد والتهديد (يسقط الملك.. الموت للملك) حينها ملأ الرعب قلوبنا والجميع ممن كان في القصر، وبلغت القلوب الحناجر، وضاقت بنا الارض بما رحبت (يتأمل صورة الملك..وبعض صور الساسة آنذاك) أذكر حينها أن (يشار الاسكافي) اعترضني في أحد ممرات القصر وأنا أجري بكل قوتي ..مهدأ قال لي..لماذا الخوف والهلع يا مطرود!؟، الناس تطلب الملك، ما علاقتنا نحن!؟.رددتُ عليه حينها وأنا الهث: لنختبئ يا صاحبي، فالنار حين تتصاعد ألسنتها في عنان السماء ستلتهم كل شيء، لا تفرق بين يابس واخضر، وليس أمامنا نحن من سبيل للنجاة سوى الاختباء قدر المستطاع، اختبئ والا جرفتك السيول (يدقق في الصور كأنه يبحث عن أحدهم) وقد.صَدَقَت رؤيتي، فألسنة النار المتصاعدة أكلت كل من صادفته في طريقها، ونجى من تخفى مثلما أنا، وليتي ما نجيت.
(يعاود المسرح فيغرق في الظلام من جديد، تتوهج بقعة ضوء وتتجه نحو أحد الزوايا لتظهر لنا شخص قصير، أصلع، دميم بلسان لتغ..).
الأسكافي يشار: كنت محقا يا صاحبي، وقد عملتُ بنصيحتكَ، واختبأت.
مطرود: (يُصعق حين يفاجئ بالاسكافي، ذلك الرجل الدميم بشاربيه المعقوفين، وهو يقف امامه،) يشار..!؟، أيعقل هذا..!؟، لا أكاد أن أصدق نفسي أن أراك بعد كل هذه السنين؟، أين كنت يا يشار؟.
الاسكافي يشار: (بدموع حرى ينفجر باكياً) أوووف.. أرجوك لا تنكأ جراحي يا صاحبي، دعني غاطس في وحل خيباتي، مكبل بأحزاني، فلقد اجتاحني خريف اليأس مبكرا، فتساقطت كل أوراقي، ويبست عروقي، وما انا اليوم سوى جذع منخور انتظر أي حاطب يلقي بي حطبا في مواقد ترف الاغنياء، لأتخلص من عذاباتي.
مطرود: وأين كنت كل هذه المدة يا يشار؟.
الاسكافي يشار: منذ ان أجهزوا على الملك وعائلته وولي عهده بتلك الطريقة البشعة والكوابيس ما انفكت تلاحقني في صحوي ولحظات نومي وخلواتي، تُطبقُ على انفاسي كفكي تمساح شرس بلا رحمة، هجرت كل أصحابي وانزويت مثل اي سلحفاة ضالة دفعتها أمواج الساحل نحو الأعماق، لا أدري ستأخذها الاقدار الى أين؟، هكذا أنا.
مطرود: وماذا عن عائلتك يا يشار؟.
الأسكافي يشار: ماتت زوجتي ولحقتها ابنتي الوحيدة، واستحوذ صيادوا الفرص من الأنتهازيين على بيتي المتواضع ممن طغت كناهم المعيبة على اسمائهم.أمثال، سامي طبرة، وصبري قازوق، وخليل قامة، وخضير شيشة، وآخرين، وألقوا بي في غياهب المجهول، وجدت نفسي كطائر بلا ريش، فتلقفتني عصابات التسول، أمضي نهاري ملازما الرصيف أنازع الجوع والعطش تحت شمس الصيف اللاهبة، البرد الذي ينزل على جسدي كالسكاكين في نهارات الشتاء القارصة، أجمع لهم ما يتصدق به الناس من المال ككلب الصيد فيأخذونه مني مقابل أن يوفروا لي لقمة بائسة أسد بها رمقي، وفراشا عفنا أدس في أحشاءه جسدي المتعب والمثقل بالخيبات، لأنهض مع أول خيوط الفجر على شتائمهم ورفسات احذيتهم ووخزات كلماتهم النابية ليلقوا بي مع قطيع من المتسولين على رصيف الذل والأهمال لأبدأ يوماً جديدا من الشقاء والمعاناة والاذلال (جفف دموعه وقد خنقته العبرة..فعزفت حنجرته أبلغ ألحان الحزن والمأساة) أرجوك يا صاحبي.. دعك مني الآن ولا تهيج جراحي، وحدثني عنكَ، فأن فتحت نافذة أحزاني، ربما لا أتمكن أنا ولا أنت ولا حتى مردة الجن من اغلاقها.
مطرود: لكنني متشوق لأسمع أخبارك يا يشار.
الأسكافي يشار: أخباري ليس فيها ما يسر، فعندما داهتمني الأمراض فجأة، وأصبحت لا أقوى على العمل تخلوا عني ورموني مثل أي سلعة تالفة مع أول سيارة أنقاض خارج حدود مساحة نفوذهم.
مطرود: لكنهم.. كانوا هنا يا يشار، كانوا هنا يسألون عنك بالحاح.
الأسكافي يشار: (بمرارة وأسى) من ذا الذي يسأل عني وانا مقطوع من شجرة؟.
مطرود: يبدو أن احداً قد وشاك عندهم.
الأسكافي يشار: وشاني.!؟ وشاني في ماذا؟ وهل هناك في دنياك هذه ما أخشى عليه.. يا مطرود.
مطرود: لا أمان لهم يا صاحبي، غيب وجهك، والزم وكرك، فأن وقعت بأيديهم فسوف لن يرحموك أبداً، انهم يسألون عنك بالحاح.
الاسكافي يشار: لا أرجو رحمة أحد الا ربي، فلست بحاجة لها، ولا شيء بقى لي في الدنيا يستحق ان أحرص عليه.
مطرود: يؤسفني أن أراك بهذه الحالة من اليأس والأحباط يا صديقي.
الأسكافي يشار: دعك الآن مني يا مطرود، كنت قد رجوتك أن تحدثني عنك، وما آلت اليه أمورك بعد الذي حصل.
مطرود: الحال من بعضه يا يشار، يبدو ان الرصيف الذي جمعنا أرحم من كل من رجونا فيه الرحمة.
الاسكافي يشار: قدرنا يا أخي.
مطرود: أتذكر يا يشار حين صادفتني آخر مرة في أحد ممرات القصر وأنا أجري خائفاً كقطٕ مفزوع، حينها قلت لي مهدأ بينما الخوف ممسكٌ بتلابيبي، انهم يطلبون الملك، مالكَ تجري مذعورا يا رجل. أتذكر ذلك يا يشار؟.
الأسكافي يشار: (متحسراً) آ..ه.. كيف لا أذكر وصور ذلك اليوم الرهيب لا تغيب عن مخيلتي لحظة، كنت أتقطع ألماً وأنا ارى الملك يتلفت مذعورا وقد تلبسه الخوف والقلق، لا يدري حينها ماذا يفعل؟ وكيف يتصرف؟، وهو يسمع بأذنيه عويل النسوة وصراخ الاطفال من أسرته، ويرى بأم عينيه فزع الحاشية وارتباك الحراس وقد حُشِروا جميعاً في الباحة الخلفية للقصر كما تحشر الخراف في الزريبة بانتظار جزرها، لا يمكن أن أنسى تدفق الآلاف الى باحة القصر ممن ركب الموجة كتدفق الماء من السد المكسور.
مطرود: أين كنت حينها يا يشار؟.
الاسكافي يشار: كنت في غرفة أرباب الحرف في الفترة التي سبقت الطوفان، انا ومجموعة من الحرفيين، كان الملك حينها يُحَضِرُ للسفر لعقد قرانه، وطلب مني أن أصنع له حذاءً فاخراً من جلد غزال كان قد اصطاده في أحد جولات الصيد التي كان يقوم بها في البراري.
وبينما أنا منهمك في ضبط شكل الحذاء على ضوء القالب المعد على مقاس أقدامه فوجئنا ببعض المداهمين وهم يتسورون حائط القصر من جميع اتجاهاته، ودوي هتافاتهم النارية يكاد يهز اركان القصر، كان يوما مَهُولاً يا مطرود.
مطرود: وحين تدفقوا كالجراد المنتشر اختبأت انا في أحد براميل القمامة، كنت اسمع حينها هتافاتهم الملغمة بالوعيد تضج مسامعي. أتذكُر ذلك يا صاحبي؟.
الأسكافي يشار: (بألم.. وحسرة) كيف لا أذكر وصورة ذلك المشهد الدموي المروع مازالت ماثلة أمامي بدقائق تفاصيلها.. يا مطرود ( تخنقه العبرة ويتحدث بحرقة) وكيف جثى الملك على ركبتيه ممسكاً بصدره الذي خرقته رصاصة أحدهم قبل أن يسقط مضرجا بدمه، تبعته والدته وباقي افراد الأسرة الملكية، لاقوا حتفهم جميعاً (يجهش بالبكاء) يا الهي.. تلك الصورة المروعة لا يمكن أن تغيب عن مخبلتي. انها تعصف بكامل كياني.
مطرود: كنت أشاهد المجزرة بكل تفاصيلها وأنا مختبئ من خلال ثُقبٕ في البرميل، حقا كانت بشعة ومروعة بكل المقاييس.
الاسكافي يشار: ووسط تلك الفوضى العارمة التي عمت القصر تسللتُ خلسة أحمل تحت ثوبيما ائتمنني عليه جلالة الملك قبل ان تحدث المأساة لانه كان يعلم النهاية، وقد خرجت دون أن يشعر بي أحد.
مطرود: (مندهشاً..يهتف). أ.. ها..ولهذا كانوا يسألون عنك بالحاح! (يلف بجسده حول نفسه بعد ان هتف مندهشاً.. ليجد بعد ان عاد بوجهه الى ذات الوجهة أن الاسكافي قد اختفى فجأة، يتجمد مطرود، ثم يصرخ منذهلاً..) يا الهي..!!، هو الآخر قد اختفى، ما هذا..!؟. لا أكاد أن اصدق عيناي، أحقاً ما أراه..!؟، أم انها مجرد تهيآت (يمسك.راسه بكلتي يديه..ويثرثر مرتبكا) يا للمأساة..، هل فقدتُ عقلي!؟، أم أنها أضغاث أحلام ليس الا..!؟ (يتسائل) ترى.. هل يحلم المرء في صحوه؟ (يتلمس اعضاء جسده بارتباك..يدور في المكان مستاءً) أيعقل أنني الآن نائماً، وما اراه مجرد أحلام!؟، أم أن روحي انتقلت الى العالم الآخر؟ وما هؤلاء الذين اقابلهم الا ارواحاً لاناس ماتوا قبلي وربما منذ امدٕ بعيد (يدور في المكان مرتبكا.. ومندهشا) لكن الغريب أنهم يعرفونني جيدا، ويعرفون كل شيء عني، وهذا ما يحيرني..(يعود يتأمل الصور..يقع نظره على صورة أحدهم..يمتعض وجهه..ويحرك أصابع يده الملمومة معاتبا.) وانت أيها الحوذي المتلون، كيف نزعت عنك جلدك ولبست جلدا آخر بتلك السرعة؟ لتصبح واحداً منهم، وقد كنت المدلل من بيننا من قبل الملك وعائلة، وكنت الوحيد الذي يُسمح له بالدخول الى غرف ومخادع الاسرة، والوحيد المسوح له بمرافقتهم على ظهر العربة الملكية التي تتولى قيادتها أنت في جميع جولات التنزه التي كانوا يقومون بها ليلاً أو نهاراً.(بأسى.. ومرارة) لا يمكن أن يستوعب عقلي كيف أنك تنكرت لأمانة القسم الذي تعهدت فيه أن تكون أمينا على أسرار القصر والذود عن الملك ولو كلفك ذلك حياتك (بأسى وحسرة..) لكنك، ما ان تغيرت الرياح، واختلف المزاج العام للشارع حتى كشرت عن أنيابك، وكنت أول من ركب الموجة، وظهرت بوجه آخر كنت تخفيه تحت قناع أبيض جميل كما يبدو. والادهى.. أنك باركت.. وشاركت مع من تعامل بوحشية مفرطة في التمثيل بجثث الضحايا…ما أقبحك! (يمسك برأسه ويجلس متكورا، يصرخ بصوت موجوع) يا الهي..لا اكاد أصدق.. اي انحطاط انحدر اليه هذا الحوذي النجس، انه ناكر للجميل.
(يعم الظلام في المكان مع تصاعد ايقاع قرع طبول مرافقا لموسيقى صاخبة، بقعة ضوء تظهر مطرود جالسا بطريقة تعكس مدى الاحباط الذي يعانيه، لحظات وينهض مأزوماً..فيدور في المكان..يهم بالانصراف..يسمع صوت ينطلق من ذات المكان الذي كان فيه ذلك الشخص الذي يبحث عن يشار الاسكافي..يلتفت اليه، يلحظه هو واقفاً يضحك بخبث،).
مطرود: ( مندهشاً) أنتَ أيضاً!؟.
الشخص: ههه.. ههه.. ها.. لن تفلت مني يا هذا.. لو وضعت نفسك في صندوق محكم والقيته في أعماق البحر، فسأصل اليك.. ههه.. ههه.. ها.. جنود الجن والشياطين يعملون بأمرتي، ولن يخالفون أوامري. هيا.. أفرغ ما بجعبتك يا مطرود.. والا ستندم.. ههه.. ههه.. ههها.
مطرود: وما المطلوب مني هذه المرة!؟.
الشخص: ذلك الصعلوك الدميم، لم تخبرنا عن مكان تواجده.
مطرود: تراه متسولا يدور في الشوارع، وليس له مكانا ثابتا يأوي اليه عندما يداهمه التعب.
الشخص: (بلهجة فيها وعيد) اسمع يا هذا.. لا اريد تكهنات، ولا أحب اللف والدورن.
مطرود: كنت أتمنى لو تكرمَ جنابكم وأخبرني، لماذا تعطون رجلإ متسولا دميما كل هذه الأهمية.
الشخص: (ناهرا مطرود) هذا ليس شأنك، لا تتدخل في أمور لا تعنيك. وما عليك الا ان تخبرني عن مكان تواجده، لا تجرنا الى أمور اخرى يا رجل نحن في غنى عنها، أخبرنا عن مكان تواجده.. وكفى.
مطرود: كيف لي أن أعلم بمكان وجوده والرجل ليس لديه بيت يأوي اليه، يمضي نهاراته متسكعا يفترش الارصفة، يستجدي لقمة عيشه؟.
الشخص: وما يدريك أنت بكل هذه الامور ان لم تكن تلتقيه؟.
مطرود: صدقني لم ألتقيه منذ عقود، لكنني كنت أسمع أخباره من بعض معارفي.
الشخص: حسنإ..حسناً.. اذن خذنا لمعارفك لنستبين منهم عن مكان وجوده.
مطرود: يوووه.. كان هذا قبل سنين طويلة، أما اليوم فلم تعد لي صلة بأحد، كنت قد قطعت صلتي بالجميع حتى مع أقرب الناس لي، وأخترت العيش وحيداً في دار المسنين، وأنا الأن في العد الأخير من سنوات عمري التي شارفت على النهاية.
الشخص: (يخفف اللهجة، محاولا استمالة مشاعر مطرود..) الحقيقة.. أنك أملنا الوحيد في العثور على هذا الرجل، ومهمتنا ليس مهمة عادية، وانما مهمة وطنية تحتاج منا جميعا ومنك أيضا ان نتكاتف ونتعاون لاسترجاع ما فُقد من وثائق وأرشيف يوثق مرحلة مهمة من تأريخ دولتنا الفتية.
مطرود: لم أفهم ما تقول، اسكافي مغمور، لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم من أمور السياسة شيء سوى أنه ماهر في صناعة الاحذية، يحتل كل هذه الأهمية؟، شيء لا يستوعبه العقل.!.
الشخص: الأهمية لا تكمن في شخصيته، انما فيما لديه من وثائق سرية مهمة.
مطرود: (متسائلا بدهشة) وأرشيف وثائق سرية!؟، يشار الاسكافي في حوزته وثائق سرية!؟، وهل كان مستاراً للملك ام ولياً لعهده!؟، انه صانع احذية، ماله ومال الوثائق؟ مالكم، ألا تحترمون عقولكم؟ كيف تفكرون!؟.
الشخص: هذه الأمور لا تفهمها انت، مراسلات الملك السرية، مذكراته، جلسات حواراته السرية، وأمور اخرى كثيرة، كل تلك الامور حسب معلوماتنا بحوزة هذا اليشار الذي تستخف به.
مطرود: كل هذه الامور وما لها من أهمية كما تقول، بحوزت هذا الاسكافي الدميم؟. لا أصدق.
الشخص: نعم، بحوزته.
مطرود: وما فائدة أن يحتفظ بها؟.
الشخص: معلوماتنا تؤكد أن هناك جهات خارجية تتفاوض معه لشرائها بمبالغ تفوق الخيال، وقد رتبوا له اوراقاً لتهريبه خارج البلد باسم مستعار، وجواز سفر مزور.
مطرود: وبماذا تنفعهم تلك الوثائق؟.
الشخص: هذه أمور سبق وان قلت انك لا تفهمها، المهم، هل لديك الاستعداد في معاونتنا للعثور عليه، ولك عندنا جائزة ثمينة تحمل صورة الرئيس.
مطرود: (بعد أن يتلفت الى كل الاتجاهات غير مصدق بما تسمع أذناه..يرد) بالتأكيد.. سأبذل قصارى جهدي في أن أدلكم عليه، ليس من أجل الجائزة التي ذكرت فأنا ليس بحاجة اليها، ولكن لخاطر عيون الوطن، فلا مساومة على مصلحة الوطن فهو أغلى من كل شيء.
(الشخص يمد يده مصافحاً مطرود).
(يعم الظلام في المسرح، بقعة ضوء تظهر لنا المشهد الاول في المسرحية، مطرود مسجى، وشخص مغطى كامل جسده بالقماش الابيض يمسك بمرآة ويقرأ بعض العبارات والتراتيل، ينزع الشخص عنه القماش الابيض الذي يغطية، يتبين لنا انه الشخص الذي كان يحاور مطرود).
ستـــــــــــــــــار
** جبار القريشي/العراق 11 نيسان 2021.