المعادل المسموع في الموسيقى مسرحية:"كاروك" ج:1 من (الحلقة السادسة)/ الدكتور قيس عودة قاسم الكناني
قراءة وتحليل للمعادل المسموع في موسيقى مسرحية كاروك
مسرحية كاروك :
تأليف كريم العامري وأخرجها الدكتور حميد صابر والتي عرضت على مسرح الرشيد عام 2001في مهرجان المسرح العراقي الخامس وكانت الموسيقى من تأليف (محمد كريم / قيس عودة) وهي موسيقى حية ومباشرة واستخدم فيها الآلات الموسيقية ( عود وكمان وطبول) لغرض المؤثرات الصوتية.
ملخص المسرحية:
تدور أحداث مسرحية كاروك في ورشة نجارة تابعة لحي شعبي بسيط يعاني اغلب أُناسه الفقر والعوز ولم يشهد هذا الحي أيةِ ولادة جديدة منذ زمن بعيد، إذ حل بأهله القهر وفقدان الأمل بسبب ما عانى هذا المكان الأمن الحرب والدمار والفوضى والتخريب فأصبح المكان كابوس يلاحق الناس.
لذلك تجسد العرض بثنائيات … الولادة والموت .. السلام والحرب … الأمل واليأس …البداية والأبدية …الألم والفرح…..كل هذه الصراعات تجسدت بصورة الكاروك والتابوت والتي كانت الموسيقى جزءا مهما في تصوير المكان الدرامي تصوير افتراضي حسي وتخيلي، من خلال إيقاعاتها ونغماتها وأسلوبها وقدرتها في التصوير والتعبير للمكان الدرامي في العرض المسرحي.
فمسرحية (كاروك) هي صراع بين البداية والأبدية دراما المهد والتابوت حيث تدور أحداثها في ورشة نجارة في حي شعبي بسيط يعاني اغلب أُناسه الفقر والعوز ولم يشهد هذا الحي أيةِ ولادة جديدة منذ زمن بعيد، إذ حل بأهله العقر وفقدان الأمل بسبب ما عانى هذا الحي من ويلات الحرب.
رجل كبير يعمل نجاراً في ورشة صغيرة في هذا الحي يصنع التوابيت وأبنه (مروان) اليائس من الحياة بسبب ظروفه، ورغباته الشخصية، التي اندثرت بعد أن أخذت الحرب منه إبنة عمهِ (ياسة) التي كان يعشقها، منتظراً عودته من الحرب ليتزوج بها، فوجدها قد تزوجت بشخص آخر بسبب العوز المادي لعائلتها، فباعت نفسها لتعيل أهلها.
يتمنى هذا النجار بأن يُولَدَ طفل معافى في هذا الحي ليصنع له (كاروكاً) ولو حتى من خشب التابوت إذ يقول: لو لم يبقى خشباً لهذا الكاروك لعلقت يدي ليخرج الطفل معافى..
بعد أن أخذت الحرب من الأطفال الكثير، ومنهم (نور) طفلة الحي التي تركت أباها مجنوناً يركض في أزقة الحي ويقول:
نور من يأتيني بنور…
سقط السقف عليها …
ديروا بالكم من السكف…
ديروا بالكم من السكف…
كيف يكون البيت الآمن قبراً يحمي أهل الــــــــــــــــــــدار …
يأمل هذا النجار بهذه الولادة، ولكن أية ولادة والحرب أخذت من سعيد ساقه ورجولته حتى زوجته النشز تركته وحيداً لأنه لم يعد ينفعها.
إما المعلم الذي نفذ صبره من العوز القاتل مما حتم عليه ان يبيع كتبه وأن يدور في الطرقات يبيع السجائر ليجد لقمة العيش لأبنائه… ويدور في صراع بين العوز والعلم الذي حمله ليكون أمانة ينقلها لأجيال من بعده أية علم لا يمنحه لقمة العيش لابناءه، وأية أجيال وذلك الطالب الكسول الذي يقف بسيارته الفارهة السوداء بوجه معلمهِ ويرمي قطعة النقود ويقول له :
أيه الطالب الكسلان….!!
كلهم ينتظرون الأمل الجديد بإرادات حالمة ومُرة حتى يغسل أدران الحي بولادة الطفل الجديد الأمل الموعود من المرأة المصابة بسرطان اليورانيوم، إلا أن الموت يلاحقهم ولا يمنحهم الراحة فالكل بانتظار الفرج والأمل والولادة الجديدة … ولكن أيةٍ ولادة…. لطفل ميت …حيث تتفجر الآمال وتموت الإرادات وتنتهي الرغبات لتخلق صراعاً مثيراً .
هذه الصراعات التي يعيشها الحي جعلت من شخصيات المسرحية الخوض بتناقض الثنائيات وانشطار الذات فهي تعاني من عوق الذات..فسعيد مقطوع الساق، والمعلم مصاب بمس من الجنون، ومروان يائس الأمل، وأبو نور مجنون، وإلام مصابة بسرطان اليورانيوم، لذلك تجسد الصراع بثنائية … الولادة والموت .. السلام والحرب … الأمل واليأس …البداية والأبدية …الألم والفرح…..كل هذه الصراعات تجسدت بصورة…. الكاروك ….التابوت..
الرؤية الإخراجية لمسرحية كاروك:
المسرح لا يتعامل مع ما هو سائد ومألوف وتقليدي، ودائما يقف على المشاكسة والمعارضة والمواجهة والتناقض، ويحاول أن يكسر كل ما هو مألوف وسائد، وبالتالي يكون قائماً على جدلية الصراع.
إن عرض مسرحية كاروك درامية توظيف الموروث الذي جسد حياة الشعب العراقي في فترة الحصار والدمار بعيداً عن التسجيلية والواقعية المباشرة وإنما أرتكز على الأسلوبية التجريبية في التعبير عن تلك المرحلة الصعبة التي مر بها العراق وما أفرزته تلك الظروف على مستوى علاقات الشخصيات الإنسانية وصراعاتها من خلال التصادم مع الأخر، مع نواتها، مع ظروفها، باحثة عن حياة جديدة عبر الحطام والركام.
العرض المسرحي اعتمد المنظور السيميائي والمنهج الذي يرتكز على الأساليب المتعددة في الإخراج المسرحي الملحمية والرمزية ولم يبقَ المخرج أسيراً لهذه الاتجاهات وإنما تعدت أساليبه لتصل إلى الاجتهاد والتجريب في التكوين والتشكيل والتعبير الدرامي.
تجسدت صورة الإخراج المسرحي في مسرحية كاروك بتعدد الاتجاهات والأساليب الإخراجية إذ نقل المخرج من خلال رؤيته الإخراجية حجم المأساة وكثافة الحزن بطريقة سيميائية مستخدماً التشكيلات والتكتلات أداةً علاماتية لتلك الطريقة، منطلقاً من فلسفة النص لاعباً على ثنائية الولادة والموت التي جسدها عبر صراع بين الحياة (الكاروك) والموت (التابوت) مستخدماً التشفير والترميز لينقل بيئة العرض بشكل ملحمي ليصورها في هشيم متناثر، مستخدماً القطع الديكورية الثابتة والمتحركة بشكل سيميائي مما جعل لها دوراً في ترجمة الإرادات والرغبات في العرض، وكذلك الاشتغال على تكتلات المجاميع البشرية من خلال الجوقة راسماً بها لوحاته التشكيلية التعبيرية وهي في تصادم وتعارض مع الشخصيات بل جعل من هذه المجاميع أن تسيطر في بعض الأحيان بل وتأخذ دور البطولة، لتمثل صراعاً مثيراً بين الفناء والبقاء بين الحياة والممات وبين الهدم والبناء مصوراً العلل النفسية لتلك الشخصيات، من خلال البناء الانفعالي والتشكيلات الحركية المتنقلة في خلفية الحدث، إذ لعب المخرج على خاصية التثبيت والنسف بالأفكار من خلال المزج والتداخل بالشخصيات والمشاهد بطريقة (مونتاجية) موظفاً الرقيب (هو)الذي يخوض موقف التعارض للشخصيات فهو متمثل بالموت .. الدمار ..الخراب ..العبء..حاملاً معه أدواته ومتخفياً بفضاء العرض، لذلك اعتمد المخرج في بناءهِ الفني على اللاسكوتواللاثبات، فكل شيء متحرك وكل شيء متغير شأنه شأن الحياة.
تحليل الموسيقى وفق المعادل المسموع :
يبدأ العرض بصوت ضربات إيقاعية حماسية خافتة جدا تقترب شيئاً فشيئاً من المكان بـ(طبل كبير) وهي معادلة لما يراه الجمهور في صالة العرض وكأنه مسير عسكري قادم للمدينة، اذ كان العازفون على الإيقاعات في العرض المسرحي يتلاعبون بطبيعة الضربات ليصوروا لنا قدوم الجيوش للمدينة وهنا كانت الموسيقى الايقاعية هي بمثابة معادل مسموع للمشهد وبالتالي قامت هذه الإيقاعات بتصوير المكان قبل حدوثه على خشبة المسرح وكانت الموسيقى هنا ومن خلال إيقاعاتها وظيفة استباقية للصورة الدرامية، من خلال الشعور بعظمة وقوة هذا الصورة الإيقاعية التي تمثلت بصورة الجيوش القادمة لمكان المدينة وهذا الإيقاع هو من فصيلة الإيقاعات المارشية الحماسية البسيطة غير المركبة فهو غالباً ما يرافق الأغاني والأناشيد الوطنية واستعراض الجنود في ساحات التدريب ليكون أداة تمنح الجانب الحماسي قوة وعزيمة وبالتالي فهو قادر على ان يفترض صورة المكان الدرامي في العرض المسرحي، هذا التدفق الإيقاعي الحماسي يثير الشعور بالرهبة والخوف فهو استعارة خيالية لتصوير المكان تصويرا افتراضياً، وكذلك يعد هذا النمط الإيقاعي في العرض المسرحي كإشارات ورموز سمعية تحاول تفعيل المكان المسرحي كمكان افتراضي للحرب من خلال ضربات ذات صوت عالٍ وثقيل او ضخم والتي تسمى بالمسميات الموسيقية بـ(الدم) والتي تضرب بوسط الغشاء الجلدي للآلة الإيقاعية الكبيرة، وهذا الإيقاع يساعد في كشف وتحديد نوع وطبيعة المكان الجغرافي للحدث الدرامي في العرض المسرحي، اذ نستمع إلى الضربات الإيقاعية البعيدة بصيغة مارشية وهي تقترب شيئاً فشيئاً للمكان حيث يصور لنا مصمم الإيقاع هذه الصورة الإيقاعية حين يضرب الإيقاع من الخفوت متصاعد الى الشدة ويسمى في الاصطلاح الموسيقي (كرشاندو crescendo) ومن خلال توظيف هذا المصطلح استطاع ان يصور المؤلف الموسيقي الصورة السمعية الافتراضية الإيقاعية وهي تقترب شيئا فشيئا من المكان، ونتيجة لذلك التوظيف الدقيق لصورة الإيقاع برز المكان الدرامي بصورة افتراضية في العرض المسرحي من خلال الإيقاع المارشي، الذي يمثل لنا صورة حماسية وكأنها ترجل عسكري قادم، يسعى مصمم الموسيقي عبر هذه الجمل الإيقاعية ان يسلط الضوء على تصوير المكان الافتراضي وان يكشف تلك الصور التي تمثل العذاب والدمار القادم لهذه المكان وهي صورة افتراضية لمكان الحدث الدرامي اذ نستمع لصوت الإيقاع ولكننا لا نشاهد مسير تلك الجنود بل نتخيلها ونفترضها من خلال تصوير الإيقاع العسكري, لان إيقاع المارش هو بطبيعته الفنية يمثل مسير الجنود في ساحات الحرب، تلك الصورة الإيقاعية جسدت العنف والحرب والويلات القادمة لهذه المدينة، فالإيقاع الحماسي يسهم في كشف وتحديد المكان الافتراضي للمشهد الدرامي، وكذلك حدد الإيقاع جغرافية الحدث الدرامي وهي ساحات الحرب وصورها كمكان افتراضي في العرض المسرحي.
ومن ثم مشهد دخول (سعيد) على خشبة المسرح الذي قطعت ساقية في الحرب وهو يزحف ويحمل ساقين اصطناعيين بيده ويزحف متجها الى قبره الذي دفنت فيه ساقيه اثر الحرب ويردد بحوار مع صديقه مروان بألم شديد:
مروان : لم أرك منذ سنين ؟
سعيد : لا أنسى انك أنقذت حياتي .
مروان : وجهك كان يضيء الليل ونجن ع الساتر.
سعيد : كان يضيء الليل اما ألان فصار أكثر عتمة .
الوسيط المادي:
للسينوغرافيا دور كبير في رسم معالم المكان الدرامي وتصويره من خلال الكتل الديكوريةوالإكسسوارات التي تشير الى شخصية المكان وهيئته الشكلية الصورية، حيث تحددت صورة المكان الدرامي افتراضيا بسيقان مقطعة يحملها الممثل وهو يزحف في وسط المسرح ليعبر من خلالها مدى الألم الذي سببه ذلك المكان (ساحة الحرب) المكان الافتراضي، وهو نتاج علاقة منسجمة ومنتظمة بين الصورة البصرية التي تمثلت بالممثل وهو يحمل ساقيه وبين الصورة السمعية التي تتمثل بالموسيقى التصويرية للمكان الافتراضي، حيث كانت الموسيقى تعبر عن خطوات الممثل وهو يزحف وكأنه عائد من الحرب، تلك الحرب او ذلك المكان الافتراضي الذي بترت فيه ساقيه وحولته الى رجل عاجز عن الحركة وبهذا تناسقت الموسيقى مع صورة المشهد بشكل أسهم في دفع المكان الدرامي الى صورة جمالية متناسقة بشكل كبير .
الاستعارة الصورية: التي ترسم معالم المكان الافتراضي تخيلياً :
المكان الافتراضي هو نتاج صورة خيالية متناسقة بين العنصر البصري المتجسد على خشبة المسرح(العنصر البصري) وبين الموسيقى والإيقاع (العنصر السمعي) وله دور كبير في تناسق وتصوير المكان من خلال تنظيم وضبط الإيقاع الحسي والحركي، وفي هذا المشهد يظهر الممثل على المسرح وهو يزحف بشكل متناسق مع إيقاع المارش الذي يرسم خطوات منتظمة ومرتبة وبالتالي أصبح المشهد يمثل مكاناً افتراضيا لساحة الحرب، وهي استعارة صورية لمكان الحرب والتي تحددت من خلال التناسق الحاصل بين المشهد وموسيقاه.
وبالتالي ساهمت الموسيقى في هذا المشهد من وسم صورة متخيلة للمكان المفترض اذ ترى الممثل وهو يزحف حاملاً ساقيه بتنقلات تتموسق بشكل يثير حفيظة المشاهد وكأنهُ مشهداً حقيقياً في ساحة المعركة.
الإشارات والرموز: التي من خلالها يشار او يرم للمكان كصورة افتراضية في الحدث الدرامي :
حدد المخرج الإشارة والرمز في هذا المشهد من خلال تصوير المكان بالسيقان المقطعة التي تمثل المكان المفترض لها من دلالات وإشارات تعكس الألم والحزن ذلك المكان الذي سقط فيه سعيد مقطع الأرجل، فالسيقان المقطعة التي يحملها الممثل وهو يلقي حواره، هي إشارة الى المكان الذي يمثل ساحة الحرب والقتال, المكان الذي سلب منه أجزاءه، المكان الذي جعله يفقد رجولته ويفقد بيته وزوجته، وبالتالي وظف المخرج الأطراف الاصطناعية التي يحملها الممثل بالإشارة التي تشير الى الثقل الذي يحمله (سعيد) الثقل الذي يعبر به عن الهم والحزن والألم الذي تسلق على أكتاف (سعيد) ومن ثم استطاع المخرج ان يشير بأدواته الإخراجية الى كمية الألم الذي سببتها ساحات الحرب كـ (مكان) اي بمعنى ان المخرج أراد ان يستعين بصورة المكان (الحرب) بإشارة دقيقة جدا وهي تلك الأطراف المقطعة نتيجة تلك الحرب نتيجة ذلك المكان، ومن خلال هذه الرؤية للمخرج تم توظيفها كرمز يعبر عن خسارة الإنسان الى حياته.
السياق النصي (الحوار) : الذي من خلاله يتحدد او يرسم المكان او البيئة المكانية
سعيد : (أيعلم الناس ان الزائر للقبر هو صاحبه)
ان السياق النصي للعرض المسرحي والذي اسهم في تصوير المكان الدرامي حين يقول(سعيد) ايعلم ان الزائر للقبر هو صاحبه؟ وهي إشارة نصية كلامية توضح مكان الحدث وهو (القبر) وبهذا الوصف الكلامي انطلق المخرج ليؤسس رؤيته الإخراجية من مفهوم البناء اللغوي والحواري للمكان ورسم المشهد كمكان للحرب الذي دفنت فيه ساقي سعيد، فرسم المكان رسما افتراضياً مبني على كلمة القبر وهذه المفردة جاءت وفق السياق النصي وقد كررها (سعيد) وهي رغبة من المخرج حتى تترسخ بيئة العرض في أذهان متلقي العرض، ومن خلال الحوار يكشف المكان وهو( القبر) ان المكان الافتراضي هو مكان القتال او ما تسمى بـ(ساحة الحرام) التي يشترك فيها الجيشان في الحرب والتي تكون مكان لبقايا الأجساد المقطعة نتيجة القتال والحرب، فالوصف الكلامي لطبيعة البيئة حَددت المكان افتراضياً بأنه مكان المعركةـ وبالتالي ساهم السياق النصي(الحوار) في رسم معالم المكان الافتراضي من خلال اللغة السمعية المنطوقة .
طبيعة العرض: التي تحدد صورة المكان الدرامي من خلال موضوع المشهد:
في هذا المشهد يحدد المخرج طبيعة البناء الدرامي للمكان من خلال تأثيرات النص وإسقاط تلك التأُثيرات على الرؤية الإخراجية للعرض وقد أسهمت طبيعة المشهد الدرامي في تصوير المكان الدرامي وفي هذا المشهد يتبين انه ذو طبيعة حماسية وهو ما أسهم في تصوير المكان في العرض المسرحي كمكان حماسي ــــــــ افتراضي ـــــــ فالمشاهد الحماسية دائما ما تفرض علينا صورا حربية وحماسية تتمثل بساحات الحروب والقتال وهي امكنة افتراضية في العرض المسرحي، وانطلاقاً من طبيعة العرض المسرحي يتم تحديد وتصوير المكان الافتراضي كصورة افتراضية تمثل مكان الحدث الدرامي وتصوره تصويرا افتراضيا .
الموسيقى التصويرية
من خلال تصوير الشخصية التي تحمل الساقين والوسائط المادية للمكان والموسيقى التصويرية للمشهد الدرامي (القبر وساحة الحرب) اذ جاءت الموسيقى التصويرية بشكل حماسي وحربي من خلال نوع وجنس المقام والإيقاع المستخدم في التصوير الموسيقي للمشهد الدرامي والتي جاءت كالأتي:
المقامية: هو نسق نغمي ويعد أساس التكوين للسلالم الموسيقية، اذ يظهر في هذا المشهد يظهر اللحن الموسيقي من مقام (العجم) هو من المقامات التي تمتاز بالحماس والبطولة والقوة ودائما ما يؤلف المؤلفون الأغاني والمقطوعات الحماسية من مقام العجم، فهو رمز للبطولة والوطنية والقتالية والعسكرية.
جاء تصوير المكان بشكل افتراضي معبر، حيث شكل المقام الموسيقي وأجناسه وإبعاده دورا في تصوير المكان، كون ان المقام الموسيقي المستخدم في هذا المشهد هو مقام (العجم) وهو من اقرب المقامات في تصوير البيئة او ما تسمى بـ (الموسيقى البيئية) التي تمتاز بالحروب والصراعات السياسية، وبالتالي حاول المؤلف ان يوافق بين المكان كصورة بصرية والمكان كصورة حسية متخيلة نستشعرها اثناء سماعنا للموسيقى التي ترافق العرض المسرحي، والمكان بوصفه حصيلة ابداعية للمدركات الحسية التي تنتج من انساق من الموسيقى التي تتمثل بـنوع المقام ومدى ملاءمته مع اللحن المرافق للعرض وكذلك بالأجناس المتداخلة في هذا المقام الموسيقي وطبيعة التحولات والتنقلات الموسيقية في هذه الاجناس ودرجة صعود وهبوط الصوت الموسيقي المتمثل بالدرجات النغمية اي بما يسكى بالمدى الصوتي للحن الذي يصور المكان الدرامي افتراضياً، وبالتالي ظهر المكان الافتراضي متناسق ومتوافق مع المكان الدرامي للمشهد.
الإيقاع الموسيقي الذي يصور المكان الافتراضي :
إيقاع الموسيقى التصويرية للمكان في المشهد الدرامي جاء على النحو الآتي:
الضرب الإيقاعي: (مارش) وهذا الوزن بسيط ومسافته نوار ومدته اربع من النوارات ويكتب بمقياس (4|4) ويستخدم في معظم الأغاني الوطنية والمقطوعات الحماسية .
وهي سرعة معتدلة تحاكي السير والمواكب العسكري وعادة ما ينضبط خطوات السير مع إيقاع موسيقى المارش، وهو غاية بالانسجام والتوافق بين الضربة الموسيقية وحركة القدم، وبالتالي يصور إيقاع المارش عند سماعه مع جمل موسيقية تتناسب معه صور مكان الحرب والجيش والحماس.
كما يشكل إيقاع المارش في هذا المشهد دوراً فاعلاً في تصوير المكان الافتراضي وهو ساحة الحرب التي اقترنت بذاكرة (سعيد) حين قُطعت ساقيه في الحرب (كمكان) وساهمت الموسيقى التصويرية في نقل الصورة المكانية بصيغة افتراضية تستحضرها ذاكرتنا حين نسمع الموسيقى الحماسية وإيقاع المارش الذي يصور مكان مفترض لساحة الحرب مستعيناً بالصورة المكانية التي حاول المخرج استعارة صور تسند حقيقة المكان الدرامي الذي تطلبه الحدث الدرامي، وفي هذا المفهوم يقترب تصوير المكان الدرامي ليأخذ شكله من الصور الافتراضية المتخيلة التي تستعيدها الذاكرة كصورة افتراضية .
اعتمد المشهد الدرامي في تحويل البيئة المكانية للعرض المسرحي الى ساحة حرب وهي رؤية افتراضية لواقع حياتي طبيعي من خلال استخدام الآلات العسكرية الحربية، وكذلك استخدام الغاز المسيلة للدموع، كما استعان بأجهزة الدخان ومطافئ الحريق الواقعية مفترضا من خلالها غازات مسيلة للدموع، مستعينا بصور البيئة التي تدور فيها الأحداث لان الصورة المكانية هي استعارة من صورة البيئة التي اختارها المخرج، كما يتحدد المكان بسياقات سياسية واجتماعية من خلالها يتم تصوير المكان الافتراضي في العرض المسرحي .
الشكل الموسيقي : الذي يسهم في تصوير المكان الافتراضي في العرض المسرحي من خلال صنف وشكل الموسيقى التصويرية :
ظهر المكان الافتراضي نتيجة الشكل المارشي الذي جاءت به الموسيقى التصويرية وقد انطلقت النغمات الموسيقية بشكل (حماسي مارشي) متناسق ومعبر، اذ جاءت الموسيقى في هذا المشهد من صنف الموسيقى الحماسية الحربية والتي تمتاز بإيقاعات ونغمات صاخبة وقوية، مع ضربات إيقاع المارش وهو ما يتميز في ضبط خطوات السير التي تعكس صورة المكان العسكري وساحات الحرب .
وبالتالي استطاعت الموسيقى ان تصور مكان الحرب وان تنقل المكان المسرحي الى ساحة حرب افتراضية من خلال البناء الشكلي للموسيقى وبمعاونة السينوغرافيا المشهدية وأداء الممثلين، وبالتالي يتحدد تصوير المكان الافتراضي بسياقات وطبيعة العرض المسرحي الذي من خلال طبيعته وسياقه السياسي والحماسي يتحدد المكان.
الطابع الصوتي (نوع الآلة الموسيقية)
يتميز الطابع الصوتي بصفة صوتية تختلف من آلة موسيقية الى أخرى، تبعاً لاختلاف الآلات الموسيقية وطبيعتها والتي تنقسم الى أربعة أقسام رئيسية ( وترية قوسية.. تريةنقرية…هوائية خشبية .. هوائية نحاسية.. إيقاعية) وعلى مصمم او مؤلف الموسيقى التصويرية للعرض المسرحي ان يستفد من هذه الخاصية في تصوير موسيقاه المكان المسرحي.
لذلك ظهر في هذا المشهد مرافقة موسيقية بالآلات المذكورة وبمصاحبة الطبل الكبير الذي تميز بضرباته المتكررة والمتدفقة بحيوية واستمرارية من خلال عزف إيقاع المارش،الذي صور لنا مكان حماسي افتراضي من خلال ضرباته الحماسية والمارشية بينما ظهرت آلة (الكمان والعود ) بضعف في الأداء نتيجة لطبيعة الآلة الموسيقية فـ( الكمان) من الآلات الوترية ذات القوس، ولها مكانتها في الموسيقى الشرقية والغربية، وهي ذات إحساس وشجن ودائما ما ترافق المشاهد الرومانسية والعاطفية ومشاهد الحزن والألم، وكذلك آلة (العود) تتميز بصوت نقري إيقاعي ولها دور في تصوير الأماكن الهادئة والعاطفية،التي من خلالها نتخيل افتراضياً الأمكنة الهادئة، لذلك لم يوفق نوع الآلة الموسيقية في هذا المشهد من ناحية هاتين الآلتين فكان هناك ضعف في تصوير المشهد لولا دور الإيقاع وطبيعة الموسيقى المرافق لتصوير المكان المشهدي، فكان من الأفضل ان يستبدل المؤلف الموسيقي الآلات التي استخدمها بالات أخرى مثل آلة (ترومبيت النحاسي) والذي يعد من الآلات الهوائية والتي تستخدم كثيراً في المراسيم العسكرية وسلام الأمراء الا ان الضربات المارشية للإيقاع المرافق للأداء الدرامي كان قد اسهم في تصوير البيئة الحماسية المناسبة للمكان حيث تقاربت صورة الموسيقى مع صورة المكان الدرامي (ساحة الحرب).
الإشارات والرموز للموسيقى التصويرية : التي تبثها الإيقاعات والنغمات الموسيقية بشكل خطابات ملحنة بقصدية واشارية والتي تحاول من خلال شفراتها الدلالية ان ترمز او تشير الى صورة المكان المفترض:
ان الإشارات التي تبثها الموسيقى التصويرية( لحناً وإيقاعاً) في العرض المسرحي جاءت بشكل إشارات رمزية ذات دلالات واضحة، مبنية على الحس الموسيقي او ما يسمى باللحن الدال وهو اللحن الذي يصاحب ويرافق شخصية من شخصيات العرض المسرحي او مكان او اي حدث على خشبة المسرح، والذي يستمر مع كل ظهور لهذه الشخصية او هذه الأماكن، إذ يأتي بشكل اشارة حسية سمعية من خلال لحن بسيط يرتبط مفهومه بموضوع الشخصية الدرامية وطبيعة العرض وكذلك يأتي اللحن الدال بصورة رمزية معبرا عن مكان او بيئة يحددها المخرج ومصمم الموسيقى، بمعنى ان هذا النوع من الألحان لا يرتبط بالأشخاص فقط بل له القدرة إن يجعل الأماكن الساكنة والصامتة تتكلم بلغة الموسيقى الاشارية، ففي مشهد المعلم تتكرر الإشارات بنغمات وإيقاعات حماسية مارشية (الإيقاع العسكري) فهي إشارات مرمزة، فضربات إيقاع المارش ما هي إلا إشارة لمسير الجنود وهذه الإشارة يقصد بها المخرج ان هناك قتال والقتال يتطلب ساحة حرب، وبالتالي استعان المخرج بإيقاع المارش العسكري ليتم تصوير المكان بطريقة خيالية افتراضية موسيقية إيقاعية تحيل لنا صورة مكانية لساحة الحرب، وهذه الصورة غير عيانية بل افتراضية نتخيلها لحظة الانسجام الموسيقي الذي يرافق الحوار اوم الصورة البصرية مع المشهد الدرامي.
وفي مشهد دخول المعلم يجلس (المعلم) في وسط يسار المسرح وعليه علامات الذهول والتعب واليأس، ناشراً علب السجائر، وقد تشكلت صورة المكان الدرامي من خلال لوحة بيضاء(سبورة) في الخلف وهو جالس أمامها، هذه اللوحة التي تمثلت بجلوس المعلم وعلب السجائر المنتشرة أمامه واللوحة البيضاء في خلفه خلقت نسق جمالي للمكان الافتراضي(الصف الدراسي)لا سيما حواره الذي بدأ به عند دخوله المسرح :
انتبه انتبه ..
درسنا لهذا اليوم هو الفاعل..
صُور هذا الفضاء الجمالي صورة المكان (صف الدراسة) ذلك الصف الذي ترك آلام وعذابات للمعلم خلال سني العوز والقحط، فقد تم تصوير المكان افتراضيا خارج مألوف الواقع الحياتي وقد تجلى التصوير بفعل الحوار (انتبه انتبه درسنا لهذا اليوم هو الفاعل ) وكذلك بفعل السبورة الافتراضية وأزياء المعلم (بدلة ورباط)، لذلك ترك (المخرج المسرحي) المعلم يلعب في مساحة ضيقة من المسرح لا تتجاوز مكان السبورة رغبةً منه في ان يحيل المتلقي الى الدرس الحقيقي للمعلم وما عاناه خلال وظيفته في ذلك الزمن، الذي كان فيه الجاهل مترف ومتنعم بالحياة بينما صاحب الرسالة الإنسانية يبحث عن لقمة عيش بعد عمله.
حاول المخرج ومن خلال الرؤية الفلسفية والفكرية للمشهد الدرامي ان يجمع المشهد بمكان واحد وان يستعين بالموسيقى التصويرية كأداة داعمة للمكان وان يكون دورها في ترسيخ الحزن العميق للحالة التي يعيشها المعلم، وان يطرح من خلالها ــــــ الموسيقى ـــــــــ ذلك المكان المؤلم الذي كان يعيشه كل يوم دون جدوى وبالتالي جاءت الموسيقى لتؤكد (المكان الحزين ..المكان المؤلم) ولم تكن مجرد عنصر جمالي فحسب بل اصبح دورها كاشفاً لمكان افتراضي في المشهد الدرامي.