نص مسرحي : " اعتراف" / تأليف: قيصر الوائلي
راف
اعتــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذار
الشخصيات
ـ الفتاة
ـ الملثم
ـ الجلاد
الزمان والمكان / كلُّ فجيعة يُصلبُ فيها وطن
بيئة العرض المسرحي
……………………….
رذيلة هي السجون في قتامتها – جدرانٌ تقبعُ لذاتها، تهمس للأجساد المعذبة وتغني للجلاد.. شحة ٌ في الهواء وندرة ٌ في الأنفاس .. أصواتٌ في كل زوايا المسرح تزخر بالوجع.. زنزانة بلهاء تخنق ساكنيها – ذات سرير غريب.. جلادٌ يقف جانباً – أكلت البشاعة ُ نصفَ وجهه البليد … وملثَّم ٌ صارمُ النظرات – مشطورٌ على نفسه بالحذق والغباء على حدّ سواء .
كرسيٌّ قبيح بلا ملامح ، يقيدها بغلظةٍ رغم ضمادها المخضب بالدم ، وهي عبارة عن ذبيحةٍ برأسٍ يتدلى وشَعرٍ طويل – مرت عليه كلُّ تفاصيل أيادي الخراب … ترتدي في عنقها قلادة على شكل خارطة الوطن .
( بقعة ضوءٍ مسلطة بينما يدنو الملثم من خلف رأسها )
الملثم: (بصوتٍ خشن) تكلمي … اعترفي (يجرها من كتفها) تكلمي قبل أن أحول هذا اللحم إلى فحم … وأجورُ على وجهكِ بالمآتم .
الفتاة : (ترفعُ رأسها بصعوبة) سيأكلكم يباسكم ذات يوم .. ويلفُّكم الغبار ليُعري ألسنتكم من وقاحتها (تتصارعُ مع الكرسي) رجولة ٌ عرجاء تفصحُ عن خنثِ شَوكِها
الملثم: (بغضب) اخرسي .. سأعلمكِ معنى الوقاحة (يشيرُ إلى الجلاد بفعل التعذيب بالصعق، متحولا كالغول في وجهها) اعترفي … اعترفي الآن وإلا …
(يسعقها الجلاد )
الفتاة: ( بألمٍ وحرقة ) آآآآه …. وطني
لطينكَ أشكو … لمائكَ أنوح
لطينكَ أشكو … لمائك أنوح
……….. دم …………
(ينسحب الملثم والجلاد، ضوءٌ خافت ٌ على جسدها المتعب، تستفيقُ على صوت موسيقى لتطارد حلماً زار زنزانتها، تغيرت وجوه الجدران، تحول الاحتراق الى نقاءٍ وعناق، انتفض المكان فأورق روضة خضراء، تمتطي جسدها فراشاتٌ تركضُ في زوايا المسرح ، بدءٌ كان هو الأجمل في حياتها ) .
الفتاة: (تتنقل في زوايا المسرح ببهجة، تقلب ذكريات الماضي.. الصبا، الحب، لمسة الوطن الأولى … جرسٌ يدق) انه درسي الأول..صفي المفعم بالبياض.. وتري المنتعش بأبجدية اللون ورائحة التبشور (بدهشةٍ وذهول) معلمي.. أين أنت من هذا؟ سفني وآمالها التي كتبتها على ضفاف كراريسي وأمتعة الحقائب.. شجر الصفصاف على أوراقه لَمَعَتْ أولى الدمعات (تهدأ) كلُّ الأسماء التي حفظناها كانت تنبتُ في واحات قلوبنا – تكبرُ فينا ونكبرُ فيها.. كلُّ الأغاني الحزينة كانت تنامُ معنا وتحلمُ وتستفيق (تمسك قلادتها) حاسبينك مثل رمش عيونه.. كيف لا وأنت أوّلُ الحروف وآخرها
(تتناثر عليها أوراقُ وردٍ وظروف رسائل بصحبة موسيقى رومانسية..نحو ذكريات الحب)
الفتاة: (تحتضن ظروف الرسائل وتشمها) تعال.. تعال فقد مللتُ الكتابة.. أوسعني حديثاً عن الشرفات والقصائد والمطر انثر عطرك حول مساماتي، تَسلّق قلبي مرةً سابعة وثامنة وعاشرة .. اشهقني ولا تبخل على الشبابيك بالضوء .. قبلتكَ الأولى ما زالت جمراً على وسادتي .
( بألم واشتياق )
الفتاة : حبيبي … لا تُخفي وجهك عني
لا تحجب صوتَكَ عن لغتي
ما زال وَشَمُ آمالنا على ذراعي
ما زال النهرُ يُخفي عبورنا ويكتمُ أسرارنا المنقوشة على وجوه القوارب
إنهم يشوهون مرآتي
إنهم يشوهون مرآتي
(تعود إلى الكرسي بشقاء ليتدلى رأسها من جديد، يعود الجلاد إلى وقفته، يتجه الملثم نحوها يقفُ أمامها.. يصفعها بقوة، تعودُ لوعيها مرعوبة وخائفة، تنظر حولها بقلق)
الملثم: (باستهزاء) يبدو أن أحلامكِ قد قدمت لكِ بصيصَ أمل ورجاء خلاص (يضحكُ بشدة) أنتِ لا تعرفين سوى حفنة صغيرة من الحقيقة و ….
الفتاة: (تقاطعه بنظرة غاضبة ) بل أعرف كلَّ الحقيقة..أعرف أنَّكَ كديدان الموتى – تجلبُ لي العفونة.. تحاولُ أن تسلخَ عني أبجدية الأنوثة
الملثم: (بغضب) أستري وجهكِ عن ملامحي أيتها الآسنة ، حربنا لا هوادة فيها … حربنا لا تهادنُ أمثالكِ .
الفتاة: (بجدية وصرامة) الحربُ سوادٌ يلتصقُ بعيون الأمهات .. فيتحولُ الدمعُ جرادا .. والزغاريد مواويل
الملثم: ( بلغة حادة ) سأجعلكِ تتقاسمين الرغيفَ مع الفئران وتلعقين نثار الماء من على الأرض
الفتاة : (تتساءل) هل رأيت الأرصفة ؟
الملثم: (يتساءل) أيُّ أرصفةٍ هذه .. هل تقصدين أرصفة المتسولين والشحاذين ؟
الفتاة : نعم
الملثم: (باستهزاء) وماذا تفعل هذه الأرصفة هنا وعلى مائدة حوارنا الممتع هذا ؟
الفتاة: (بحزنٍ بليغ) تجلبُ الخراب .. تسلخُ جلودَ الفقراء .. تنثرُ شظايا مازالت تُشعِلُ السكائر من مؤخراتها
الملثم : لٱ أفقه هذا اللون الغائم
الفتاة : لن تصلوا تلك الضفة .. لأنكم ملثمون .. والملثمون لا يصنعون … ؟!
الملثم: ( مقاطعاً ) اخرسي … لنكمل التحقيق
الفتاة : أكمل … فما عاد بالرحم بيوض … وما عاد للخوف بقية
( هلع يسود المكان )
الملثم: (وهو يصرخ) عليكِ أن تعترفي .. منْ كان معكِ ؟
الفتاة: (بشموخ) كان معي القصب.. وكانت برفقتي حضارة، وأنهارٌ، وأشعارٌ، وقلوبٌ لا تعرفُ الوَجَلْ .صريحة ٌ هي أسماؤنا .. نقية ٌ كخيوط الشمس حين تمرح على خدود الماء .
الملثم: (باسلوبٍ مخادع) إذن..سأمنحكِ فرصة ً أخيرة وسأعفو عنكِ وأنفذ طلباتكِ إن قدمتي لي اعترافاً كاملاً ماذا تطلبين مقابل الأسماء؟ ماذا تريدين ؟!
الفتاة: ( بحزم وثقة ) أُريد وطن
( مرة أخرى يتحول الملثم إلى غول .. يمزق ما حوله .. يحطم ما تمسكه يداه .. موسيقى مفزعة )
( يمسك الملثم بشعر الفتاة وينظر إلى الجلاد بنظرة غريبة ثم ينظر إلى السرير وينسحب من المسرح بهدوء … يقترب الجلاد من الفتاة ، يحملها بخطواتٍ بطيئةٍ إلى السرير … فعلٌ دال على الاغتصاب وسط رفض الفتاة وصراخها )
………… دم …………
(موسيقى حزينة..بقعة ضوء على الفتاة وهي تجلس على السرير مكسورة الجناح..تنهض بصعوبة، تجرُّ خطواتها بجهدٍ جهيد)
الفتاة: (بصوتٍ مجروح) ما القادم أيها الأوباش؟ ما الذي يُشبعُ رغباتكم الناقصة ؟! ما الذي لم تفعلوه بعد..ونحن أسرى حصاركم الملغوم بالوحشية والجهل المركب في عقولكم الصدئة
لا جورٌ يدوم … ولا ظلمٌ يطول
لا جورٌ يدوم … ولا ظلم يطول
( تستعيد بعض قواها )
الفتاة: أيُّها المقنعون..قريب ذلك اليوم الذي ستعلو فيه جراحاتنا فخراً..ستشهدُ دماؤنا، ويذوبُ الصمت..سنملأُ الساحاتِ والطرقاتِ بالشواهدِ والدلائل والكلمات (بثقة عالية) خيطٌ رفيعٌ من الضوء يكفي لبعثرة الظلام..يدٌ واحدةٌ كفيلة ٌبرفع سارية.. سطرٌ واحدٌ يكتبه قلبٌ ينتمي لشرف التراب يمضي لإحياء أمَل .
( موسيقى حماسية .. أصواتٌ لهتافاتٍ وطنية ومزيج من أبياتٍ شعريةٍ وطنية )
( بقعة – يظهر الملثم وهو جالس على ذات الكرسي ، منحني الرأس وفي حالةٍ من الانكسار .. ذات الجلاد يقف في مكانه المعتاد … الفتاة تقف بعنفوان وشجاعة وثبات خلف رأس الملثم )
الفتاة: (بصرامة) اعتذر … اعتذر قبل أن يُخزيكَ الندم وتهجركَ المحطاتُ … فلا قطارٌ عائدٌ إليك أيها المنسلخ
( يرفع الملثم رأسه بصعوبة ثم يعود به للانحناء )
الفتاة: (تصرخ بوجه الملثم) اعتذر ….. اعتذر الآن
(تنظر الفتاة إلى الجلاد وتنسحب بهدوء إلى إحدى زوايا المسرح.. تبدأ موسيقى أغنية – نازل اخذ حقي للفنانة رحمة رياض – وبذات الوقت يتحرك الجلاد نحو الملثم حاملا حبل مشنقة … يرتبكُ الأخير مخاطباً الفتاة )
الملثم: (بخوف وقلق) أرجوكِ..لا تتركيني وحيدا بين أغلال العدمِ والضياع..خديعة ٌ هي منْ أكلت من جرفي، وظلمة ٌ هي منْ حَجَبتْ بصيرتي
( تنظر له الفتاة نظرة لوم وعتب )
الفتاة : ( بثقة ) البؤسُ ليس مكاني … وليس من فصيلة ألواني ، لأنه قاتمٌ كأفعالكَ المزعومة .
الملثم: (بخوفٍ شديد) إلى أين تذهبين ؟
الفتاة: لأرمم ابتسامة وطن..وأجهرُ بالحرية – فطعمها لا يعرفه أمثالك أيها ال …..
الملثم: (يقاطعها مرعوباً ) وأنا ؟!
الفتاة : أنتَ … كما قلتُ لكَ .. البؤس يليقُ بك .. لذا ستبقى بائساً وعائماً في مزبلة التاريخ .
( تنسحب الفتاة ويبدأ الجلاد بوضع حبل المشنقة حول رقبة الملثم والذي بدوره يصارع البقاء – تبدأ كلمات الأغنية بالظهور – حته السكف الي ساترني ، حته بهذا اجيت اضرني – وتستمر الأغنية )
النهايـــــــــــــــــة