مسرحية الراديو ألفها النيجيري "كين تساور ويوا" وأَذاعها العراقي "محمد حسين حبيب"/ يوسف عبد الحسين السياف
الدكتور (محمد حسين حبيب) أول المهتمين بالمسرح الرقمي والمنظرين له عربياً, لكنه لم يوظف التقنيات الرقمية في عمله المسرحي الأخير, في الحقيقة كنت متوتراً في حينها ومتسائلاُ ما هي الغاية من تقديم عرض مسرحي ينتمي إِلى المدرسة الواقعية / التعبيرية في الإخراج, هل أّنَّ المخرج لم تسعفه إمكانيات المسرح الكبير في (كلية الفنون الجميلة / بابل), أم أَنه لم يتمكن من التغلب على النص المسرحي والخروج من واقعيته في زمن قد غودرت فيه العروض التقليدية, وبات المُخرجون المعاصرون يمتلكون قراءة خاصة ومغايرة للنص المسرحي الأصل, إِذ أَنَّ (ما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة والحداثة السائلة) غيرت الكثير من المفاهيم والثوابت, وباتت العروض المسرحية المعاصرة تتجه نحو التشكيل الصوري وادخال التقنيات الرقمية والوسائل السينمائية, والتقليل من اللغة وسرديتها الكبرى ان لم نقل مغادرتها, وانا لست بصدد الحديث عن الاتجاهات الإخراجية المعاصرة بقدر الإجابة عن التساؤل الذي يدور في ذهني بعد أن شرعت بالذهاب إلى مشاهدة عرض مسرحية (الراديو) يوم الاثنين المصادف (31/5/2021م) كعرض خاص (جنرال بروفة) لطلبة الدراسات العليا في الفنون المسرحية, وفي نيتي أَنْ أكتب عن العرض انطباعي الذاتي بكل صراحة ومهنية, لكنني لم أتمكن من ذلك, والسبب هو انتمائي للمخرجين الشباب الذين يرفضون كل أشكال المسرح التقليدي, إلَّا أَنَّ المشكلة في نفس الوقت إنني قد استمتعت طيلة عرض المسرحية الذي إستغرق (60 دقيقة), وقلت في نفسي سأذهب وأشاهد العرض مرةً أخرى في اليوم التالي وذهبت وكررتها في اليوم الثالث أيضاً, وفي كل يوم أستمتع في المشاهدة ولم يصيبني الملل, فما السر في ذلك رغم أني أشاهد عرضاً مسرحياً لم يخرج من قوقعة المدرسة الواقعية, هل كان السبب في أنَّ المُخرج عكس إمكانياته الإخراجية ومعالجته الدرامية بخطاب عرضه المسرح المليء بالجماليات على مستوى الشكل والمضمون بشكل أكاديمي رصين ليرسل لنا نحن الجيل الشبابي رسالة مفادها أَنَّ المُخرج باستطاعته أَنَّ يقدم فرجة مسرحية ممتعة بعناصر سمعبصرية تقليدية, ولا يتعكز على التقنية الرقمية من أجل خلق الدهشة والإبهار وهذا ما لأحظناهُ, وكما عودنا (حبيب) دائماً في الاشتغال إخراجياً وفق مدرسة أو منهج مسرحي معين كألكلاسيكية في مسرحية (هاملت) والرمزية في مسرحية (العميان), فهو يقدم درساً عملياً لطلبة الإخراج والمختصين المحترفين في هذا المجال ومن بصمته كمخرج أكاديمي محترف.
إذْ أنَّ (حبيب) في (الراديو) قدم لنا عرضاً مسرحياً لا يخلو من التجريب رغم (واقعية / تعبيرية) المسرحية, فالنص كتبه (كين تساور- ويوا) واذاعه (حبيب), وما الجمل الاذاعية التي سمعناها عن طريق الراديو مثل : (تم القاء القبض على أربعة فاسدين, تشكيل لجنة تحقيقية رقم مليون, تدهور الحالة المعيشية, أزدياد حالة الفقر, هجوم مسلح على عربة في طريق, زيادة أسعار المواد الغذائية, الإفراج عن أثنين من السياسيين بعد براءتهما من التهم, تزايد ظاهرة المشاريع الوهمية) إلَّا وسيلة تحريضية هيمنت على خطاب العرض لتعري الأنظمة الأستبدادية التي توالت على حكم المدينة التي يسكنوها, إذْ كان خطاب العرض المسرحي مليء بالتهكم والسخرية من الوضع السياسي والاقتصادي, منذ اللحظة الاولى لوضع ملامح النص إخراجياً أي (نص العرض) والذي قام بترجمته أدائيا شخصيتين رئيسين (الالي – باسي) اللذان تواجدا طيلة وقت العرض المسرحي, وقد جسد شخصية (باسي) المخرج نفسه, أما شخصية (الالي) فقد جسدها الممثل المحترف (أحمد عباس), شخصيتين تعاني الجوع والغربة والإضطهاد, لا يملكان وطن (دار) ولا مال يمكنهما من توفير الطعام ولا وعمل, مما يضطر (الالي) لسرقة طعام صاحبه (باسي) ألذي أواه في غرفته التي لا يملكها بل هي تابعة لمالك آخر, أما (باسي) فقد أستسلم للقدر وأراد أنْ يستمر في المكوث داخل هذا المجتمع المليء بالعقبات وان يتماشى مع ما هو سائد ليصبح شخصاً محتال, مما أضطرهُ أنَّ يكون مخادعاً ليأخذ حقه المسلوب تحت مسمى (الرشوة) من قبل أحد موظفي الدولة صاحب التصاريح (الضابط هيومن) والذي جسد شخصيته الفنان (علي عدنان التويجري) بعد أنَّ حصلا الإثنين (الالي وباسي) على جائزة (راديو) وبقيمة مقدارها (ثلاثون دولاراً) من قبل (السيد هنكن) الذي جسده شخصيته الفنان (حسنين الملا) نتيجةً لامتلاكهما زجاجة (بيرة) والتي حصلا عليها من قبل (مالك الشقة) الذي جسد شخصيته الفنان المحترف (مهند بربن) بعد أنَّ تركها عند مجيئهِ للمطالبة ببدلِ إيجار الشقة, وقد حاول (باسي) الذي تقمص دور شخصية (الرقيب أول) محاولة منه لإبتزاز (الضابط هيومن) نتيجة قبضه لرشوة من أجل إعطاء تصريح لحيازة ذلك الراديو, إلَّا أنَّ (الالي) يكتشف بأنَّ (الضابط) – رغم توسله بأنَّه صاحب أطفال وحالته المادية دون المتوسط وعلى إنَّه سيرجع الرشوة ويعطي تصريح للراديو مقابل إطلاق صراحه – إلَّا أنه كان مخادع ودجال فالتصريح كان مزور والرشوة التي حصل عليها أبدلها بأموال مزورة أيضاً , الأمر الذي جعل (الالي) أنْ يقرر العودة إلى مدينته, وأنْ يغادر هذا العالم المقرف, ومن خلال شخوص المسرحية طرح لنا العرض كم هائل من العناوين التي يعانيها الفرد (البطالة, التشرد, الجوع, الحرمان, الرشوة, التزوير, ارتفاع الآيجار), عناوين عاشها (الالي وباسي) بكل تفاصيلها وحذافيرها, وترجمها المخرج الى جمل سردية نطقتها تلك الشخصيات, ومن تلك الجُمل تلكَ التي أذاعها الفنان (مهند بربن) عبر الميكرفون (المواطن ليس مواطن) تلك الجملة حملت أبعاد فكرية تمكن المخرج من خلالها ان يعبر عن معاناته كتصريح يدين به السلطة, فما الشخصيات المطروحة الى مشاريع للثورة ضد الظلم والأستبداد إنطلاقاً من المخرج نفسه وهو يصرح كممثل رئيس في العرض المسرحي بجملةٍ ظلت عالقةً في ذاكرتي, إلا وهي (يجب أنًّ اُعيد نظام حياتي) ومروراً بثورة (أحمد عباس/الالي) والكم الهائل من السخرية والتهكم من واقعه المر .
ومن خلال رؤية المخرج كوسيلة لتحقيق رسالة العرض وما لعبه خياله في الأشتغال جمالياً على أداء الممثلين, ولكون المخرج قد تعامل مع ممثلين محترفين وليسوا مدرسيين كما وصفهم الدكتور (وسام عبد العظيم) في مقالته عن العرض والمنشورة في موقع (المسرح نيوز) تحت عنوان (كيف يمكن للراديو أن يلتحق بالتطور الرقمي الفائق؟), بل أنني أجد أنَّ أداء الممثلين (أحمد عباس ومحمد حسين حبيب ومهند بربن) اللفظي (الصوتي) واللا لفظي (الحركي) كان في غاية الجمال والاحترافية, إذْ قدموا لنا اداءً مسرحي متصاعد لمدة (60 دقيقة) دون ملل, فهما المكون الأساس الأكثر أهمية في الإنجاز المسرحي وجوهره ومحور العلامات وتحولاتها التشكيلية, فقد كانت السيادة المطلقة لهم كما عند (كروتوفيسكي وباربا), فما قدمه (أحمد عباس) من أداءات خرجت عن نطاق النمطية عبر الشخصيات المنسلخة من الشخصية الرئيسة التي جسدها ما بين (الدكتاتوري المتسلط صاحب الجاه والسلطان) وما بين (البرجوازي المتعجرف صاحب المال) وما بين (الرجل السكير) وما بين (الرجل الفقير) شخصيات قام بأداها وفق نظرية (ستانسلافسكي) وبتقمص عالي رغم خروجه من تلك النمطية الستانسلافسكية والإبحار في خلجاته الداخلية كإنسان يرتجم معاناته الداخلية والنفسية وبذلك يخرج من تلك الشخصية بدقة وإتقان ليتقمص شخصية اخرى تضفي جمالاً إلى خطاب العرض, مما جعله يتمكن من اجادة تلك الشخصيات المنشطرة بقدرته على التنوع في الاداء الصوتي والحركي, في حين نجد أنَّ قدرة (محمد حسين حبيب) في التحكم بمخارج الحروف وصوته الجهوري الذي مكنه من التحول من (رجل فقير بائس) إلى (رجل محتال) استطاع من خلاله ان يتماشى ادائياً مع الشخصية الرئيسية الثانية ليقدما ثنائي جميل خلاقة وانيقة من دون تنافس بين الاداءات بل الأول يكمل الثاني والعكس صحيح, , بينما نجد أنَّ حضور الفنان (مهند بربن) كان بارزاً اكثر من غيره من الممثلين المساندين للشخصيات الرئيسية لما يشكله من حضورٍ بارزٍ واسترخاء عالي وأداء متقن لشخصية (الرجل السكير صاحب الشقة), ومن خلال المهارة العالية التي يملكها (بربن) خرج بأدائه من التقليدية محاولاً كسر النمطية والبحث عن علاقة تواصلية بينه وبين الجمهور, بينما نجد أنَّ الفنان (حسنين الملا) قدم لنا شخصية فنطازية تمكن من خلالها المخرج أن يخلق صراع لتتصاعد من خلاله أحداث المسرحية, رغم قصر فترة ظهوره على خشبة المسرح الا ان حضوره كان له تأثير على سير الاحداث رغم إبتعاد مضمون شخصيته عن واقعنا المعاشي, بينما نجد أنَّ نمطية الفنان (علي عدنان التويجري) قد تماشت مع شخصية (الموظف المحتال) بمساعدة ما يمتلكه الممثلين الأخرين من مهارة وامكانية عالية في الأداء والدقة والاقناع والمصداقية؛ وما ذلك الأبداع من قبل الممثلين إلَّا مادة أساسية في فن الإخراج وعنصر مهم لديمومة الحدث الدرامي وللتواصلية الابداعية .
وأني أجد أنَّ هنالك مشكلة قد واجهها المخرج في كيفية ملاحقة أحداث النص المسرحي والأداء التمثيلي جمالياً من قبل عناصر العرض الأخرى (السينوغرافيا), لكن المخرج قد عالجها منطلقاً من الفضاء الذي قُسمه إلى نصفين, النصف الاول أحتوى الخطة الإخراجية لحركة الممثلين والقطع الديكورية والملحقات الأخرى ألتي تكونت من (راديو صغير الحجم ووسادة وجودلية قديمة واقداح بلاستيكية وسماعة محمولة يدوياً وميز ومكتب قديم والعملة النقدية ونظارة شمسية ونظارة طبية وقبعة وباروكة وحقيبة ملابس وكاسكيتة ومجلات وكتب بالإضافة إلى مايكات مثبته على ستاندات), أما النصف الثاني حاول المخرج أنْ يختصره بـ(كرسي ومنضدة وراديو صغير الحجم ولابتوب), ليشكل من خلالهما سينوغرافيا تعتمد الثابت والمتحرك رغم واقعية الموجودات ودقتها, الَّا أنَّ الاشتغال والتوظيف الدقيق من قبل المخرج فكرياً وجمالياً تمكن من تحويلها الى عناصر متحركة, فما لحضناه من تكوين مرتفع يتوسط أسفل خشبة المسرح كان معالجة في غاية الأهمية لسردية النص, من خلال اقامة علاقة مباشرة ما بين ذلك التكوين المعماري والممثل (علي العميدي) المهيمن على ذلك التكوين وهو يستمع الى تصريحات المخرج التحريضية وينتظر الخبر الأخير (الفرج), واحسبه امتداد لشخصية (الالي), إذ أنَّ ذلك الكم من الرسائل السمعية الي بثت من قبل الممثلين والتي اذيع جزءاً منها عبر الراديو والعلاقة مع شخصية (الرجل المستمع) الساكن والغير ناطق (المنتظر) ما هي إلّا علاقة طردية بين صوت المضطهدين والمهمشين وما بين الرجل عديم الارادة الصامت, كالعلاقة ما بين جهاز الراديو والحاسوب للترحيل بين جيلين, جيل عاشه المخرج والممثلين قبل عام (2003م) وما بين الجيل الشبابي الحاضر الذي عاصر (الإنترنت) وأدمن على مواقع التواصل الإجتماعي يتصفح الأخبار وينتظر (المُخَّلص) فعديم الإرادة موجود في الماضي والحاضر, وان الظلم مستمر حتى بعد ان تغيرت الأنظمة رغم إعتماد المخرج على الميكرفونات كوسيلة لتنقل الصوت الحق لأبعد مدى ممكن, من أجل أن يوصل مظلوميته بصوت عالي, فما تلك (الميكرفونات المحمولة على استاندات) الى معالجة درامية اعتمدها المخرج لجعل الساكن متحرك والصامت منطوق, بينما نجد ان المؤثرات الصوتية والموسيقى كـ(ضربات اقدام بطيئة, وصوت الشخير والتبول والسيفونه واصوات التظاهرات وتكسير الزجاج, وموسيقى حزينة ومبهجة وراقصة تصدر من الراديو) قد أدت وظيفتها بإتمام المظهر العام لفضاء العرض كمظهر سمعي اعتمد المخرج في تحقيقها جمالياً من خلال مزج الاصوات الصناعية المسجلة مسبقاً كالهتافات والتصريحات التي بثت عن طريق الراديو ما بينها وبين الأصوات التي بثت مباشرةً عن طريق الميكرفونات, وان ذلك التباين ما بين الاصوات وما بين المؤثرات الصوتية والموسيقى خلق تناسقيه سمعية بمفارقة جميلة خلقها المخرج مع منفذها الفنان (علي عادل عبد المنعم ) لإزاحة النمطية في الجانب السمعي الذي شكل جزءً مهم في تشكيل العرض المسرحي وبمساندة تقنية الإضاءة كجانب بصري احترف في ادائه الفنان (علي زهير المطيري), بأعتبارها تجسيداً للمجرد وتعبيراً عن الحالات النفسية والشعورية لقدرتها على استجلاء الدواخل وملامسة الشعور والأحاسيس للتعبير عن الحالات المطروحة في العرض, فهو المصدر الاساس للصورة المسرحية .
وفي ختام عرض الراديو البعيد عن التقنية الرقمية نجد أن المخرج قد اعتمد على عنصر تقني (الميكرفونات) في السيطرة على الممثل (باسي) بعد ان قرر تغيير واقعهه والثورة ضد الأنظمة الاستبدادية ومنعته من ايصال صوته الى الآخر, وقد أتم المخرج عرضه المسرحي بدقة واتقان متناهي واوصل ما اراد ايصاله في انك أيها الإنسان يجب ان تبدأ بنفسك وترفض فكرة الإنتظار .