نص مسرحي: " سيامي أو رجل بثلاث رؤوس" / تأليف: جبار آل خديدان القريشي
(صرخةُ وعيٍ لشعبٍ اِستمرأ الغفلةَ كي يَصحوا قبلَ فواتِ الآوانِ وتقطَّع أوصاله.)
الشخصيات:
ـ شخص بهيئة عالم أحياء
ـ شخص سيامي بثلاث رؤوس
ـ أمامي، الرأس الذي اتجاه وجهه نحو الأمام
ـ أيمن، الرأس الذي ينتصب يمين رأس أمامي قرب الكتف الأيمن
ـ أيسر، الرأس الذي ينتصب يسار رأس أمامي قرب الكتف الأيسر
فكرة المسرحية:
(عالم أبحاث يقوم بتجربة تزاوج التكنولوجيا مع علم الباراسيكولجي لتطوير خلية إنسانية من مومياء لإنتاج انسان ريبورتي بذاكرة رقمية مجرد من المشاعر والأحاسيس لينفذ مهام خاصة للجهة التي تتولى البحث، تفضي التجربة إلى انتاج انسان سيامي بثلاث رؤوس.. ).
الخطاب المسرحي:
(المسرح عبارة عن كهف بجدران عليها رسومات أثرية قديمة مرتب على شكل مختبر أبحاث، صندوق فخاري أثري منقوش عليه حروف مسمارية، روزنامة معلقة على الجدار، حوض ماء، مجهر، جهاز حاسوب، جهاز عرض سلايدات، شاشة كبيرة، دوارق ومواد مختلفة موضوعة على طاولة، يظهر عالِمُ أبحاث ببذلة خاصة وكمامة وكفوف منهمك في أبحاثه يتفحص بعناية بمجهره خنجر أثري ملفوف بجلد أخرجه من داخل الصندوق الذي يحتوي على مومياء.. ).
العالم : (يهاتف أحدهم وهو جالس على كرسيه أمام الطاولة ويبدو عليه الأحباط) يؤسفني سيدي أن أقول لك .. بأنني فشلت، فقد جربت في أبحاثي عملية النسخ البايولجي بوسائلنا العلمية المتوفرة، وبذلت جهداً مضنياً، لكنني وللأسف لم أوفق، ثم لجأت لمهارتي في إحضار الأرواح وفق مفهوم العلم الباراسايكولجي، وقد فشلت أيضاً. أرجوا أن يأذن لي سيادتكم بمجازفة علمية ستكون على مسؤوليتي بمزاوجة التكنولوجيا مع الباراسيكولجي، فأن نجحت فسنحقق طفرة علمية كبيرة ستغير وجه العالم، وأن فشلت فستكون محاولة سبقنا بها من يأتي بعدنا ليكمل المشوار، وسأغلق أنا باب البحث في هذا المجال معلناً فشلي.
المتصل بالجانب الآخر : ………….
العالم : حسناً.. حسناً.. سيدي. سأوافيك بالنتائج (يغلق الهاتف ويجلس صامتاً لبعض الوقت وهو ينظر للصندوق، ينزع بذلة أبحاثه ويرتدي سترته ليخرج بعد أن يطفئ النور، ويغلق الباب خلفه بريموت يحتفظ به في حقيبته الخاصة.. )
(يعم الظلام أرجاء المكان، مؤثرات صوتية، ايقاع قرع طبول خفيف، مجموعة أشباح تمر تباعاً تجوب في المكان، حزمة ضوء تتركز على الصندوق، يُفتح غطاءه ببطء، ينسل منه رجل سيامي عاري بثلاث رؤوس تشترك بجسد واحد، يقوم ببطء مع تعالي قرع الطبول، تتجسد ملامحه، ينظر وجهه الأمامي مندهشاً، يتلفت متأملاً المكان، يتفحص أعضاءه، يتحسس الرأسين الآخرين ويبدو أنهما مازالا خاملين، يسحب قطعة قماش معلقة على مسمار كبير إلى جواره يلفها على وسطه ثم يخرج من الصندوق، يجرب أن يمشي خطوات كما الريبورت، يمد أصبعه فتتوهج المصابيح، يتجمد فجأة، كأن ذاكرته هي الأخرى بدأت تتوهج، يحاول أن يوقظ الرأسين الآخرين، يهزهما، تدب في [أيمن] الروح، يتثائب وعيناه مازالتا مغمضتين.. يهز الرأس [أيسر]، لا يستجيب، يدعهما.. يتأمل بنظراته ما حوله من أشياء بانبهار، عاد يهز رأس [أيمن] الذي مازال غائباً عن وعيه ..).
أمامي : أفق أيها الجاثم على منكبيّ منذ الطوفان الذي اجتاح الأرض، أَقَدَرٌ أنتَ تُلازمُني في كل ولادة .!؟.
(يلتفتُ الى الرأس [أيسر] ويهزه..).
أمامي : وأنت أيها الغاطس في أعماق سباتك الأزلي منذ ألف مأساة، متى تفيق وقد عبرتك السنون..!؟.، ومرت على غثيانك حوافر الأجيال، وها أنت متحجرٌ تنتصب على كاهلي كتمثالِ الهٍ عاجزٍ، صدع رؤوسنا به الكهنةُ بأن سكوته رحمةً للعباد، أفق أيها النتوء الثقيل، أما دبت بك الروح أنت الآخر.
(ينظر الى ما حوله مندهشاً.. يحاول أن ينبش ذاكرته بفرك جبهته بيده )
أمامي : يبدو أن ذاكرتي متصحرةٌ الا من بقايا بعض الصور الباهتة التي غطاها تراب النسيان، يا ألهي… ما تلك الأشباح التي تمر من أمامي.!؟.
( يجول بنظراته المرتابة أرجاء المكان، يتفحص خطوط كفيه كقارئ كف)
أمامي : أَحْسَبُ أنني لبثت يوماً أو بعض يوم.…. أو ربما مكثت دهراً أو دهور، من يدري.!؟. والا .. ما هذه الأشياء التي من حولي.!؟ لم تكن مألوفة في زماننا، لا أدري في أي عصر نحن الآن ..!.
( [أمامي] يخاطب [ أيمن]… )
أمامي : أنت أيها القدر المزروع في خاصرتي، أما صحوت..؟. هل مازال الخرس يُلجم لسانك.!؟. أجبني أيها الحاضر الغائب، أما دبت بك الروح .!؟.الى متى وأنا أجر بأثقالك كعربةِ ملكٍ بابلي.!!.
(يهز الرأس الآخر بقوة كي يصحو.. لم يفلح، يعاود تفحص الأشياء، يمشي نحوها .. يقف مندهشاً).
أمامي : ياه ..! منذ متى وأنا قابع في أعماق المجهول.!؟، عبرت قاطرة الأزمان على جسدي الغاطس في ظلمات التيه، تتزاحم في ذاكرتي الصدئة عوالم مليئة بالأحداث، منذ دهور وأنا أدور كالنُطَف في دهاليز الأصلاب أبحث عن كوكب يحتويني، لا ينظر ساكنيه اليَّ بغرابة، ولا يهزؤون مني ومن هيأتي.
( يسخر من نفسه …)..
أمامي : ههه.. رجل بثلاثة رؤوس..!، راسي الوحيد الذي أطلقوا عنان لسانه، وأقفلوا أعنة الألسن الأخرى بالخرس، منذ أن نمت شجرة أحلامنا وفؤوس الأحباط لم تدع لنا غصناً واعداً الا وقطعته، هكذا نحن، وهكذا وجدنا أنفسنا، رؤوسٌ ثلاث يجمعنا جسدٌ واحد، لا رأسٌ يمكنه العيش منفصلاً عن الآخر، الكلُ مرتبط بالكل، ان اشتكى أحدنا أنَّ لشكواهِ الآخر، هكذا خلقتنا ارادة الرب الساكن في علياءه كما حدثتنا عنه ألواح المبشرين.
(يستمر بتفحص ما حوله من الأشياء، يتلمسها، يتأملها بانبهار، تتعالى أصوات الطبول في المكان وفي رأسه، تزداد حركة الأشباح، تتوسع حدقات عينيه، يشد وجهه ممتعظاً، يمسك برأسه.. ).
أمامي : يا ألهي…! ما هذا الضجيج الذي يدوي في رأسي .!؟، منذ أن ظهر وجه اليابسة من جوفِ الماءِ لأول مرة بعد الطوفان، والضجيج الهازئ بالهدوء لم يتوقف في رأسي المدجج بالأحداث، ضجيج، ضجيج، ضجيج….!.الى الآن ومازال دوي الطبول وصليل السيوف وصيحات الجند تضج في رأسي، لم يكن (العيلاميون) أقل بأساً منا، لكننا أبلينا بلاءاً حسناً، واستطعنا أن نسترجع تمثال الآله (مردوخ) اله مملكة بابل العظيمة، ولولا صمودنا في المعركة ومباركة ملكنا المبجل وبركات الآلهة ودعوات الكهنة لمُنِينا بهزيمةٍ نكراء، يا ألهي..!.كان يوماً ليس ككل الأيام، لم يُعطهِ المدونون في رقمهم الطينية حقه.
(يتفحص جرحاً في يده، لا يجد له أثراً، يقول..).
أمامي : ياه..!!. يبدو أن جراحي قد اندملت الا تلك الغائرة في الذاكرة، والتي مازالت تنزف بصمت، وتلسعني كلما نكأتها الأحداث كأفعى سامة. أذكر أن جندياً عيلامياً في تلك الحرب كان قد باغتني بضربة اتقيتها بساعدي قبل أن أجندله أرضاً ، فأحدثت لي جرحا عميقاً أخرجني حينها من المعركة، كنت عائذاً في سري برب الأرباب الذي …آمنت به، والذي كنت أشعر أنه هو من يحدثني في الألواح، كان حاضراً معي يدفع عني السوء.
(يمشي مترنحاً كثمل، يتوقف فجأة كأنه انتبه لشئ، ثم يصرخ.. )
أمامي : أي قوة في الكون تلك التي انتشلتني من ظلمات قبري الموغل في الأعماق.!؟، من هذا الأحمق الذي تجرأ على ايقاضي من قيعانِ سُباتي ..!!؟. ونفخ فيَّ الروح وقد حنطتني عفاريت الجن ومردة الشياطين وصلى على جثتي غرابٌ أسود كان أذكى مِمَن سجدت له الملائكة، فخسرها من أجل دنيا لا تساوي عفظة عنز، هكذا قرأتُ في الألواح، كم فرحت حينها أنني تخلصت من أعبائي، كان الموت بالنسبة لي رحمة من حياةٍ لم أرى فيها غير القهرِ والبؤسِ والإذلال.
(يجلس متهالكاً ..ثم يقول بمرارة وانكسار كَمَن يُخاطِبُ جمهرةً من الناسِ)
أمامي : آه ..لو تدرون كم أعاني..!!، أحمل في داخلي المتناقضات، أحب وأكره في آن واحد، أضحك وأبكي في ذات الوقت، دهور وأنا أتحدث مع نفسي، لساني يحاور لساني، والفكرة تناقض الفكرة، يغضب رأسٌ فيهدئهُ آخر، هذا يُحب، وذاك يكره، هذا يعشق الليل، وذاك يتطير منهُ، جدلٌ ليس له نهاية، وعراكٌ بالألسنِ والأيدي، يلفني دوار الحيرة، يتعالى الضجيج في قعر رأسي ويفلت زمام الأمور مني، ولا أدري .. من ينهرُ من.!؟ ومن يسمعُ مَن!؟،
(يستدرك ..)
أمامي : لكن ..عندما تداهمنا الأخطار يوحدنا شعور المصير الواحد، هكذا نحن ..وهذا هو قدرنا.
(ينتفض كأنه تذكر شيئا ما فصرخ بهستيريا ..)
أمامي : لا..لا…مستحيل، أيُ عبثٍ هذا.!؟.، ليتهم تركوني راقداً في حفرتي بسلام، لا أريد أن أكرر مأساتي وسنوات العبودية التي سلبتني شعور الإحساس بآدميتي، وتلك السياط التي تلسع ظهري ليل نهار بتهم جوفاء عارية.
( يجري الى كل الاتجاهات، يتأمل الأشياء بعيون مبهورة، يتفحصها بيدية، يغترف شيئاً من الحوض، يتأمله، يتذوقه بلسانه، ويتساءل مع نفسه هامساً، وبصيص ابتسامة خافتة تلوح على وجهة..!؟.)
أمامي : أهي الجنة التي وُعِدنا بِها يا ترى..!؟…وهذا حوض الخمر الذي قيل أنه لذة للشاربين، !؟.أم اللبن الذي لا يتغير طعمه، (يقربه من أنفه ويشمه ) .. يبدو هكذا ، لكن…!.
(ينظر الى الرأسين الآخرين من فوق كتفيه، فيعود بنظرات الخيبة، يجلس متهالكا وقد وضع رأساً على رأس وأغمض عينيه، وأسئلةٌ كثيرة تتقافز في رأسه، أين هو الآن.!؟، وفي أي زمن يعيش.!؟، والى أي عالم ينتمي.!؟، ومن جاء به.!؟. ولماذا.!؟.)
(دخل العالم بهيئة [مُحَضِر الأرواح] هذه المرة يحمل مبخرة يتصاعد منها الدخان والعطور، يربط جبهته بشريط أخضر، ويعلق في رقبته قلادة بعدد من اللفات من أنياب الذئاب وأظلاف الماعز والخراف والحصى المثقوب. تتناهى الى مسامع أمامي خطى شخص قادم، يتهيب، يلمح العالم وهو داخل، يفزع مرعوباً ..ويختبئ ..).
أمامي: (هامساً) يا ألهي ..انه هو..!!!، يتلون بتلون الفصول …ما أقبحه..!.
(صُدم العالِم حين وقعت عيناه على الرجل الضخم ذو الرؤوس الثلاث وهيئته الغريبة وهو متكور خلف الحوض كجثة غول، انتابته رعشة خوف وارتباك لبعض الوقت، نسى في لحظتها أنه هو من ساهم في إحضاره، فقد ظن في حينها أن التجربة قد فشلت، وأعتقد أن هذا مخلوق من الجن أو كائن غريب تسلل الى الكهف، وراح يتراجع الى الخلف مرعوباً، لكنه توقف فجأة وهو يردد بعض التعاويذ، وأختبئ خلف الحوض حتى هدأت روحه بعض الشيء، قال هامساً مع نفسه وهو ينظر للرجل السيامي ويتأمل رؤوسه الثلاث وهو مُتكومٌ على الأرض ككتلة لحمٍ ضخمة.. ).
العالم : يا ألهي.. ربما وقع خطئٌ ما، أو أن التجربة قد أعطت أكلها بعد حين، فكان الناتج رجلاً برؤوس متعددة، وأيُ رجل.!!؟، لكن لا بأس سنعالج الأمر ان كان هذا ما حصل فعلاً، المهم أن التجربة نجحت…يبدو هكذا.
(اِستعاد العالم زمام نفسه مستعيناً بالتعاويذ وجرب أن يتكلم بلغة الآمر القوي عندما وقف أمام الرجل السيامي وبيده سلاحاً كان متأهباً ليدافع به عن نفسه ان هاجمه، وصاح به وهو في مكانه ..).
العالم : قُمْ..قُمْ ..أيها القادم من عمق التأريخ، قم أيها الوليد المُهجَن، ما جئنا بك لكي تنام، تنتظرك مهام كبيرة سنقلب بها الدنيا رأساً على عقب.
( جفل الرجل السيامي وفتح عينيه بذهول، وراح يتأمله مندهشاً..) .
أمامي: أنتَ أيضاً..!؟….دهور وأنت تلاحقني بسوطك.
العالم : أو تعرفني..يا هذا..!؟.
أمامي : كيف لا أعرفك وآثار سياطك مازالت تنزُ وجعاً في أعماق روحي المكبلة بالأوزار، وآثار أصفادك مازالت غائرة في مَعصَمَيَّ.
( العالم ..محاولاً تهدءة الرجل..يتقدم نحوه وكفاهُ مرفوعتان).
العالم : حسناً ..حسناً .. هاأنت تراني بلا أسواطٍ ولا أصفاد، لنفتح صفحةً جديدة من الوئام.
أمامي : لا بأس ..والآن قل لي بحق الآلهةُ ..كيف جئتم بي وقد متُ قبل هذا وكنت نسياً منسيا ..!؟.
( جمعَ العالِمُ شُتاتَ هلعهِ، وأمسك بزمام المبادرة بعد أن عرف بأن الرجل ما هو الا نتاج أبحاثه، فهاهو يسأل بلسانه عن كيفية المجئ به، وتلك لحظة لا يمكن التفريط بها، فرد بثقةٍ وبتفاخر .. بعد أن مشى خطوات ودار عدة دورات).
العالم : بالتكنولوجيا.. وعلم الجينات، أيها الخارق الذي سنحقق بك المعجزات، ويبدو أننا أخطأنا دون قصد، فجئنا بك بثلاثة رؤوس.
أمامي : رأس، رأسين، ثلاث رؤوس لا يهم، ما يهمني أن أعرف هو كيف جئتم بي، ولماذا .!؟.
العالم : لا تقلق، ستعرف كل شيء في حينه، ولكن ليس الآن، فأمامنا مشكلة الرؤوس ولابد أن نسوي أمرها، وأعلم أننا لم نفكر أبداً في أن نأتي بك برؤوس متعددة، غير أن خطأ ما قد وقع، ولكن لا يهم، فأنت بالنسبةِ لنا شخصٌ واحد، وسنتعامل معك على هذا الأساس.
أمامي: (معترضاً ) لا..لا..من قال أننا شخص واحد، نحن أشخاص ثلاث، وكل منا له شخصيته المستقلة.
العالم : لا..لا..بل شخص واحد، وسنقوم بتصحيح الخطأ، سأذهب أنا لإحضار بعض الأدوات وسأتولى بنفسي مع فريق طبي متخصص فصل الرأسين الآخرين، لتبقى أنت برأس واحدة مثلما نحن..لا تقلق.. الأمر هينٌ بالنسبة لنا، فنحن محتاجون اليك في مهمة خطيرة، ولكن برأسٍ واحدةٍ.
(العالم يهم بالخروج، وأمامي يثور معترضاً وهو ممسك ومتمسكٌ بالرأسين الآخرين ..).
أمامي : لا ، لا أرجوك، لا تفعلوا ذلك، أيُ مهزلة هذه..!؟ لا انفصال أبداً، انهما جزءً مني، كيف تفصلوهما.!؟.هذا جنون..!!
العالم : (وهو خارجاً) لا تجهد نفسك، دع الأمر لنا، فذلك ليس من شأنك.
(أمامي يحاول إيقاظ الرأسين الآخرين، يهزهما بقوة، يغرف غرفة من ماء الحوض ويرشها على وجهيهما، يبدأ أحد الرؤوس بالانتباه، ينظر الى الرأس الأمامي بانبهار، يثور أمامي غاضباً..)
أمامي : أ ألآن..!؟، وقد مضى وقتٌ طويل، أما شبعت من نومك يا رجل، أما حلّت عقدةٌ من لسانك..!؟، اسمع يا صاحِبي، يهيئ لي أننا وقعنا في أسر أقوام آخرين أكثر مِنا رُقياً، لكنهم يتميزون بالخبث والشراسة، أقوامٌ يُظهرون لك وجه السماحةِ ويُظمرون لك الحقدَ والعدائية، تماماً مثل كهنةِ المعابد، قلبي ومنذ أن التقيت هذا السجان المخادع لم يطمأن له أبداً، شعرت أنه عازم على أمرٍ ما، فيه أذىً لنا جميعا، صرح ببعضه، وأخفى بعضه. ما فهمته أنه يريد أن يجعل منا حقل تجارب، يفصل رأسيكما عن رأسي ويجعل مني رجلاً برأس واحدة.!. لكنني رفضت، أعتقد أن هذا السجان يُضمِرُ لنا في قلبه سوءً، ولابد أن نفكر بطريقة نهرب بها، ونعود الى أهلنا.
(أيمن ، يهز رأسه تعبيراً عن الرفض ..).
أمامي : لا وقت لهذا.. أعلَمُ يا صاحبي أنك لا تريد أن تعود الى حياة العبودية والرق، لكن من يدري، ربما هؤلاء القوم اصطادونا كأي حيوانٍ بري، وسيعملون من أجسادنا وليمة ويقدموننا على صحون موائدهم شواءً لذيذا، في مناسباتهم الغريبة، من يدري.!؟.
( ينتبه الرأس الآخر [أيسر] ، ينظر مندهشاً، يلمحه أمامي بنظره ويقول ساخطاً..).
أمامي : يا لخيبتي..!، لا أصدق أنك أفقت…!!،على أيةِ حال، لا وقت عندي للحساب، اِسمعا..قبل أن تعودا الى وعيكما كان هُنا سجانٌ بهيئة الغريبة والتي لم تكن كهيئة سجانينا، ولباسه لا يشبه لباسهم، قَزِمٌ، أملطٌ، ليس له لحيةٌ ولا شاربين، يرتدي لباساً ناعماً غريباً، يربط عنقه بقطعة قماش حمراء، ونعلين أملسين مطليينِ بدهانٍ أسود يكممان أقدامه، حتى أنهما لا تتنفسان، كان هنا بشحمهِ ولحمه يقف على مقربةٍ مني ويحدثني بكلامٍ أفهمه.
( يصمت للحظات كأنه يتذكر..).
أمامي : ما فهمته أنه سيأتي بعد قليل ومعه فريق من الجزارين سيقومون بفصل رأسيكما عن رأسي، والغريب أنكم غارقين في غثيانكم غير مكترثين بما يحدث حولكم، وما يعد بالخفاء لكم ، كأنكم موعودون بالجنة التي صدع رؤوسنا بها كهنة المعبد.
(تتسع عينا الرأسين الآخرين ويبين الهلع على تعابير وجهيهما، ويصدران تصويتات وشحرجات ويؤشرانِ بأيديهما بحركاتٍ فهم منها أمامي على أنهما يدعوانه للهرب)
أمامي : يا صاحبّيَ السجن ، لقد فتشتُ المكان جيداً فوجدت أنه محكم الغلق وليس بمقدورنا الهرب، ويبدو أننا سنواجه مصيرنا مثل كل مرة أعيد بها تدويرنا، هكذا كتب علينا أن نعيش كأي حيوان حُجِرَ عليه في زريبة بائسة يقدم له العلف والماء لكي يسمن ومن ثم ليذبح قرباناً للآلهة، أو مناسبات التتويج،.. انه قدرنا، ولامناص لنا من ذلك .
(الرأس أيمن.. يفتح فمه ويمد لسانه ويلوك بفكيه، ويصدر شحرجات وأصوات، يفهم منه أمامي أنه ربما يطلب طعام، فيجيبه أمامي..)
أمامي : لم أرى مخلوقاً بليداً مثلك، المقاصلُ تعدُ لقطع رؤوسنا وأنت تبحث عن طعام..!. يا للتفاهة..!! ثم أنني فتشت المكان فلم أجد شيئاً من هذا الذي تطلبه، بحثت كل زواياه فلم أجد طعاماً أو شراباً الا هذا الحوض الذي يحتوي على سائلٍ شفاف أحسبهُ ماءً، غير أن رائحته غريبة، سأجرب أشرب منه وأعطيكما ان وجدته ماءً.
( يغرف من الحوض بكفه فيشرب متردداً وهو يهز رأسه كمن يُقدِم على شرب علاج مُر، ثم يعطي كفاً أخرى للرأسين الآخرين فيشربا أيضا..)
أمامي : ها..ماذا وجدتموه، أهو ماء يا ترى.. أم شئٌ آخر..!؟. ان طعمه لا يشبه طعم الماء الذي كنا نشربه، لم أشم فيه رائحةُ الغِريَنْ، زَبدُ الأرضِ التي نُحِب، رائحتهُ تُذكرنا بكافور مغاسل الموتى، كل شيء في هذا المكان غريب..!.ولقد.. فتشت عن رُقَمٍ طينيةٍ عَلِي أفهم منها أين نحن .؟. وفي أي عصرٍ نعيش؟، ومن جاء بنا هنا ؟ ، وما الهدفُ من ذلك.. ؟. فلم أعثر على جواب يشفي غليلي. عثرت على أشياء بيضاء صقيلة مثل ورقة التوت عليها خربشات لم أفهم كُنهها، لا تمت للكتابة السومرية بصلة، فتشت الحيطان وعلى سطوح الأغراض الغريبة التي تملأ المكان فلم أعثر على جواب لتساءلاتي، أنا مثلكما يا صاحبّي تلفني الحيرة وتتزاحم في طرقات مخيلتي الأسئلة العقيمة التي لا تجد لها حلاً. الشيء الوحيد الذي وجدته مكتوب على ذلك الصندوق الفخاري الذي يشبه تلك الصناديق الفاخرة التي يضمها المعبد البابلي الكبير، والتي تدفن بها رفاة الملوكِ وكبارُ الكهنة ِعند موتهم، مكتوبٌ عليهِ..هذا قبر الملك (سنحاريب) الذي قتل مغدوراً.
( يتساءل مستغرباً..)
أمامي : من سنحاريب هذا..!؟.
(يمط الرأسين شفتيهما كتعبير عن عدمِ معرفتهما..).
أمامي : أظنه الملك الذي مات مغدوراً بمؤامرةٍ كانت قد هزت أركان العرش، وقد أقتيد حينها المئاتُ من الحراس والخدم الذين كانوا يعملون في القصر، والآلافُ من الفقراء ممن كانوا يتسولون في بابه أو يعتاشون على نفاياته أو يتسكعون قرب المعبد يستجدون رغيف خبز من فضالة موائد الكهنة الباذخة. كانوا قد جمعوهم مثل قطيعِ خِراف, ونُحروا على أيدي السيافين بلا رحمة، وألقيت جثثهم على قارعة الطرقات لعدة أيام، تنهشها القطط والكلاب، ولم يُسمحُ لذويهم التقربَ منهم، أو دفنهم، حتى أن رائحتهم قد ملأت أرجاء المدينة قبل أن يجمعونهم ويدفنونهم في حفرٍ كبيرةٍ كانت قد أعدت للأزبال، كان يوماً دامياً، رمى بظلال خوفه على كل القلوب، وأستوطن الرعب طرقات المدينة وأزقتها وبيوتاتها القابعة تحت رحمة الفقر، وبدت وكأنها مدينة ُأشباح، وشلت الحياة تماماً لعدة أسابيع، حتى أن شارع الموكب سمي حينها شارع الموت، لكثرة الجثث التي ألقيت على قارعته من شُرفِ القصر وهم أحياءً لنشر الرعب والفزع في قلوب الناس، كان يوماً مشؤوماً بلغت فيه القلوب الحناجر، وظنوا بآلهتهم الظنون، وتوزع الرعبُ على قلوب الجميع.
(يتسائل بدهشة…!!)..
أمامي : ذلك اليوم المروع..! أما تذكرانه..!؟.
(الرأسين الآخرين يهتزان اشارة على أنهما يذكرانه، يواصل أمامي سؤاله مندهشاً.)
أمامي : لكن ما يحيرني، من أتى بالقبر الى هنا يا ترى .!؟، ولماذا.!؟ أهو فصل جديد من التعذيب والترويع سنخضع له على يد هذا السجان المارق ..!؟.أم انها القيامة التي حذرتنا منها الألواح…شيء محيّرٌ حقاً…!!.
(يدور في المكان ، يفتش عن أي شيء، يغرف بكفيه ماءً من الحوض يصبه على رأسه ورأس صاحبيه، ثم يقول ..).
أمامي : أشعرُ بالخواء يجتاحني كالحمى، وأن معدتي فارغة حتى من عصاراتها، بحثتُ عن طعام أسد به رمقي فلم أجد ولو فتاتاً، لا ثغور هنا يختبئ بها جرذ أو أفعى أو حتى خنفساء، كل الجدُر ملساء مسقولة مثل بلاط القصر، أعتقد أننا مازلنا في طوامير السجن، أو جرى نقلنا الى سجنٍ آخر، وأن السجان نسي أن يقدم لنا الطعام كما في كل مرة، أو ربما تعمد ذلك، أو أن الملك هو من طلب منه ذلك فأمره أن يتركنا لنموت جوعاً، أو حبسونا ليقدموننا وجبة للأسود المُجَوَعَةِ في مناسبةِ التتويج.. من يدري.!!؟.
(ثم يقول مخاطباً الرأس أيمن متسائلاً..)
أمامي : أتذكرُ آخرَ مرةٍ تناولنا فيها وجبة طعام..؟
( أيمن يهز رأسه، ويبدو على ملامح وجهه الخواء والمسكنة ..وكذلك أيسر الذي يبدو من ملامحه وقد جعل منه الخواء بليداً..).
أمامي : أذكر أنهم قدموا لنا قليلا من حساء القمح في جفنة من فخار، وقطعة من رغيف خبز سميك قبل أن ينفذ الجلاد بنا القصاص المجحف الذي نطق به كبير الكهنة، كان يوماً عصيباً لم يقوى بلعومي حينها على ابتلاع اللقيمات التي اجبرتُ على تناولها والتي أمر بها الكاهن. كان من المقرر أن يلقوا بنا أحياءً في أقفاص الأسود في ليلة التتويج، لكن هزالنا جعلهم يصرفون النظر عنا فألقوا بغيرنا من السجناء، هذا ما صرح به السجان الذي اقتادنا الى أقفاص الترويع الملاصقة لحلبة النزال وأقفاص الأسود.
( يكرر سؤاله …)
أمامي :أتذكرانِ ذلك..!؟،
(ثم يواصل حديثه..)
أمامي : أتذكر ذلك الشاب المفتول العضلات الذي ألقوه في حلبة الصراع مع الأسود من أجل أن تتسلى به ابنة الملك في عيد ميلادها، وكيف مزقته الأسود النهمة بأنيابها حتى تلاشى في بضعٍ من الوقت، كنت حينها أتمنى أن أكون أنا ذلك الرجل الذي قاتل ببطولة في أغرب نزالٍ لم يكن متكافئاً ولا مبرر له. على الأقل أنه مات دفاعا عن كرامته، وهو الوحيد الذي كَفَرَ علنا بربوبيتهم، وبصق بوجوههم أمام الجموع التي احتشدت للتسلي به من نساء وقادة جند وحراس وحتى خدم. كانت ابنة الملك المدللة تجلس في متكأ أعد لها بمناسبة عيد ميلادها، تحيط بها النسوة من كل جانب وهي تشاهد بانتشاء واضح نزا ل تحدي مثير كما أفهموها، لكن الشاب أجبرهم بشجاعته وبسالته على الصفير والهتافِ والتصفيق، كان بطلاً بحق، حتى أن البعض منهم بكى لكنه أخفى دموعه. كنت حينها ونحن نرتجفُ هلعاً في ألأقفاص أصلّي للآلهة قبل أن يدخل الأيمان قلبي، كي تخلصنا من محنتنا، فيما كنتم أنتم الى جانبي تشعران بالغثيان كما هو الآن، كأن نبيذ التوبة الذي أُجبِرنا على شربه بكؤوس الكهنة قد ذهب بعقليكما، أو ألقى برداء النعاس على جفونكما، أنا الوحيد الذي كنت بكامل وعيي، قبل أن تحدث المأساة، وتمزق الأسود جسد الشاب المسكين الذي ليس له ذنب سوى أنه صدّقَ المبشرين في ما ذهبوا اليه في ألواحهم من أن ذلك لا يرضي رب الأرباب، ولهذا لم يمتثل لأمر الملك ويعمل سيافاً في دار العدل كما كانوا يسمونها، كانت تلك جريمته التي من أجلها دفع حياته ثمناً. أذكر أنني حينها غبت عن الوجود أو أن شيئاً ما أصابني فذهب بعقلي، ولا أدري أكان نبيذاً مقدساً ذاك الذي شربناه .!؟ أم أنه سُماً زُعافاً كان قد قضى علينا .!؟، أظنُ ذلك. تلك اذاً كانت وسيلة اعدامنا، وان كان ذلك حقاً فذلك الموت الرحيم الذي يتشدقون.
( أيمن: يمد ُ لسانهُ المتحجر ويُصدر تصويتات يقرا منها أمامي أنه يتوسل ليبحث له عن طعام…)
أمامي: (صارخاً) من أين أأتي لك بالطعام والسجان قد أوصد كل المنافذ التي تؤدي الى السجن الذي نقبع فيه.!؟، ولا يوجد شيء يصلح أن نأكله، فكل الأشياء الغريبة التي من حولنا لا تؤكل، حاولت أن ألوك بعض الأنسجة اليابسة فوجدتها جافة صلبة لاتُسمِن ولا تُغني من جوع، حتى أنني بحثت عن حجارةٍ أو شيء من هذا القبيل لأأكله فلم أجد، كأننا موضوعين في قعرِ أملس لصخرة ٍ كبيرةٍ أعدت لنا كي نموت هذه المرة ِجوعاً، حتى أن هذا الشراب الذي نحسبه ماءً، من يدري فقد يكون كذاك الذي شربناه ليلة تصفيتنا. دعونا نفتش المكان علنا نجد أي ثقبٍ ننسل منه خارج السجن, أو لنرقص مثلما كنا أطفالاً ونحن نغني للملك الرب المحفوف بالآلهة، علّ طقوس الرقص تنسينا الجوع الذي رافقنا منذ أن طُرِد أبونا الأكبر من الجنة كما حدثتنا عنه الألواح.
(على ايقاع موسيقى غريبة ..أمامي يتمايل بجسده المتعب يمينا وشمالاً والرؤوس تميل معه وهو يغني.. والرؤوس تحرك شفاهها معه بأصوات غير مفهومة..).
بابل.. مدينةُ المجدِ.. والكبرياء..!
محصنةٌ بجيشها القوي..
وسواعدِ المحاربينَ الأشداء
تحميها آلهةُ الشمسِ..
وآلهةُ الحربِ
بسم ملكها الرب ..
ملك الجهات الأربع ..
المحفوف بالآلهةِ..
ستبقى بابلنا العظيمة ..
على مر الأزمان..
عصيةٌ على الأعداءِ
(أمامي يلهث بعد الرقصة التي أداها وهو يجر بالرؤوس التي بدت ثقيلة على كاهله، راح يفتش المكان بدقة بحثا عن أي فتحة أو منفذ أو حتى ثقبٍ صغير يطل من خلاله على الفضاء الخارجي ليطلع على ما يدور حوله فلم يجد، خارت قواه فتهالك محبطاً، وقال بصوت موجوع محدثا نفسه بعد أن أدرك أن صاحبيه قد أغمضا عينيهما واستسلما الى أشبه ما يكون باغفاءةِ موتٍ ..فراح مثرثراً يحدثهما..)
أمامي : يبدو أننا محشورين بجسدنا في قاع الأرض، لا يصلنا ضوء الشمس، ولا تدركنا الأبصار، ولا أدري أنحن في الحياة الدنيا، أم أننا في حياة أخرى، تلك التي كانت تتحدث عنها الرقم الطينية والألواح المحظورة بأمر الملك، والمنسوبة لنبي مبعوث من رب الأرباب، والتي كان يهزأ منها كهنة المعبد ويسخفونها، ويصفوها بالشعوذة التي يراد منها الانتقاص من هيبة المَلِك، وتقويض سلطته المؤيَدةُ بالآلهة. كان يدعي مروجوها أن هناك الهٌ واحدٌ في السماء يدعوا الى العدل ِ والإحسان، وكانوا يدعون أنه لا يعترف بربوبية آلهة الأرض والسماء، كنت حينها بعد تردد طويل قد آمنت بهذا الإله رغم أنني لم أره، عله يخلصني من عبوديتي، لأنه كما كانوا يقولون أن الناس أمامه سواء، لا فرق بين جنسٍ وجنس، ولا بين عرقٍ وعرق، ولا بين لونٍ ولون، الكل أمامه سواسية، وكلٌ عبيد للرب.
( يدور في المكان…ويكمل حديثه..).
أمامي : والغريب أنهم كانوا يقولون أن ملكنا الآله (أسرحدون)، حاكم الجهات الأربع المؤزر برعاية الآلهة وسطوتهم، عبداً هو الآخر أمام رب الأرباب، كنت قد آمنت سراً بهذا الإله وأحببته، وكنت أتمنى أن أراه، لكنهم قالوا.. أنه ربٌ لا تدركه الأبصار، وقد كتمت ايماني خوفاً من بطش الملك، وقسوة الكهنة الذين يخشون على نفوذهم وعلى هيبة المعبد، ويخشون من تجرأ الناس على الآلهة، وتصديقهم بتلك النبوءات، كانوا أشد مايفزعهم هم أولئك الدعاة المبشرين الذين ينسلون بين الناس تخفياً كالنسيم، لا يشعر بهم الا من تلامس كلماتهم شغاف قلبه، كانت حقاً ألواحهم تحمل في خفاياها لذة وانبهار، كنت أنا ممن تناغم قلبي مع ما تحتوي من كلام لم أسمع مثله من قبل، كلاماً ليس ككلام الكهنة ولا حتى كلام الملك الإله، ولا حتى كلام الآلهة المدون على وجه (مسلة القوانين) هدية الآلهة التي تتوسط المدينة، فآمنت على أيديهم، وكتمت ايماني.
(فجأة .. تغيير صوته وراح يتحدث بنبرة ألم وحسرة ..)..
لكن أحدهم ممن تقمص شخصية المُبشِر كنت قد وثقت به كان قد وشى بي لعيونهم، فاقتادوني مكبلاً بتهمة الارتداد عن دين الملك، وألقوا بي في ظُلَمِ المطامير، وأنزلوا بي أشد العذاب، لكنني تحملت ماسكاً على معتقدي كما الجمر، نزعوا جلدي بسياطهم لكنهم لم يستطيعوا أن ينتزعوا ايماني، كلما زادوا من تعذيبي كلما ازددت تمسكاً بعقيدتي، ثم قرروا أن يقطعوا لساني ولسانكما يا صاحبّي…، لكنهم تراجعوا فأكتفوا بوضع الحديد الساخن على ألسنتنا، فتحجر لسانكما، غير أن لساني عاد لمرونته بعد حين، كان ذلك بفضل كلماتٍ تعلمتها في رقيم طيني كنت أخبؤه في شقِ بجدار بيتي قبل أن يقتادوني الى السجن.
(أمامي ، يسأل أيسر، بعد أن سأم صمته ..)
أمامي : أتذكر ذلك..!؟ أيها الغاطس في بحر غثيانك اللآمتناهي.!؟.
(أيسر، يهز رأسه، كأنه يقول لا أذكر..)
أمامي :أعترف أن هناك ظلماً كان قد وقع مني عليك، كونك ..كنت لا تؤمن بما أؤمن به أنا، ليس لقناعتك بألوهية الملك، وتخرصات الكهنة وشعوذاتهم كما كنت تذكر لي ذلك قبل أن يتحجر لسانك، لكنك كنت تخشى على حياتك، ولم تكن مستعداً للتضحية بها من أجل دعوةِ مصلحٍ ألقى بألواحه وانصرف متخفياً، ( يضحك ) المفارقة أنك من طلبها من ذلك المصلح وآنا من آمنت بها…لا أظن أنكَ نسيت ذلك .!؟.
(توقف أمامي عن ثرثته فجأة، وانتابته حالة من الأغماء، فمال برأسه متكأً على رأسَّي أيمن وأيسر اللذان مازالا في غثيانهما.).
( لحظات ودخل العالِم، وهو يدفع بعربة خاصة تحمل جهاز ارواء فموي، معلقاً به عدد من المغذيات، بدا برأس أمامي وذلك بادخال انبوب رفيع في فمه، بعد أن وضع جهاز تنفس في أنفه، ثم ربط مغذي في ذراعه. كان العالم يقوم بتلك الاجراءات بمنتهى الارتخاء غير مكترث بشيء، كأنه واثق من اجراءاته، وأن كل شيء كان يجري وفق حسابات دقيقة معد لها سلفاً، لحظات وأفاق الرأس أمامي، أعقبه بالأفاقة الرأس الآخر أيمن، قال أمامي متسائلاً بعد أن أفاق..).
أمامي : ألا يوجد في سجنكم طعاماً نسد به رمقنا.
العالِم : كنت قد خططت في أبحاثي أن نحصل على انسانٍ يعمل بالبطارية، لكن الأمور وكما يبدو سارت على عكس ما خططت له، وهاأنت كأنك بشراً مثلي مثل أي انسان، نحتاج الى كثير من الوقت كي نُصلح الخطأ. هذا السائل الذي حقنتك به سيغنيك عن الطعام، كما لابد أن يكون ذلك بتدرج خوفاً من أن تفاجئ أعضاؤك فتفشل أو يصيبها العطب.
أمامي : لم أفهم شيئاً مما تقول، ولكن أجبني أيها السجان الغامض، أين نحنً، وفي أي عصرٍ نعيش..!؟.
العالِم : قلت لك سأخبرك بعد حين، ولكن ليس قبل أن أُكمل الاجراءات التي ستجعل منك مؤهلاً للقيام بما هو مطلوبٌ منك.
أمامي : وما هو الشيء المطلوب مني لأقوم به بحق الآلهة، ألم أقل لكم في جلسات التحقيق السابقة أنني برئٌ من تلك التهم الملفقة.
العالم : عن أي تهمٍ تتحدث.!؟. نحن نَعِدّك لمهمة خطيرة ستغيّر وجه الدنيا، لكن ذلك يحتاج الى بعض الوقت، في البدء لابد أن تتكيف مع الحياة كانسان مع بعض الفوارق، وهاهو جسمك يستجيب لتجاربي…أأمل أن أجعل منك ريبورتاً خارقاً. ولكن أجبني، ما التهمة التي لفقوها لك، والتي تتحدث عنها..!؟.
أمامي: (منزعجاً) أوووو، هو ذات السؤال الذي يلاحقني منذ دهور، كلما رقدت روحي قرناً من الزمان بعد ان قضت تحت جور سياط الجلادين، جئ بها ثانية لفصل تعذيب آخر، هذا السؤال سمعته آلاف المرات في جولات تحقيق سابقة، وفي كل مرة كنت أجيبكم بنفس الجواب.
العالم : لكنني لستُ محققاً، ولا جلاداً، وليس لدي أي نية في تعذيبك.
(أمامي ، مندهشاً.. وبلوعة )
أمامي : لا أصدق ذلك، كلهم يقولون هكذا، يقولون ما لا يفعلون، وهذا الخنجر المخبوء في الصندوق والذي مازال يلاحقني في كل جولة تحقيق، خنجر قابيل، وهو شاهد على جريمته، لكنني والملايين من بعدي سيظل يلاحقهم الى آخر الدنيا.
العالم : وما قصة الدماء التي على الخنجر..!؟.
أمامي : آ…هذا هو السؤال العقيم الذي يلاحقني منذ أن بصقني رحم أمي، ولم أجد له جواباً، لاشكَ انها دماء هابيل الذي حدثتنا عنه الألواح.
العالم : دعك من هذا الآن، ولنفكر فيما سنفعله في الأيام القادمة.
أمامي : بودي أن أعلم لماذا أنا هنا..!؟.
العالم : لا تتعجل، قلت لك ستعرف كل شيء، ولكن في الوقت المناسب.
( بعد لحظات من التأمل يقول العالم )..
العالم : ولكن دعني أقول لك، ان نجحت أبحاثنا فستكون أنت انسان خارق، ستجوب روحك كل الأزمنة والعصور، وستصور لنا ذاكرتك الرقمية التي سنزرعها في رأسك كل محطات التأريخ، سيكون الماضي بكل أحداثه بين أيدينا، سنكشف بك اللثام عن كل الحقائق المخفية، وسنكتشف بكامراتك فائقةِ الوضوح كنوز الأرضِ وما تخبئهُ الأقوامُ من لُقى وآثار على مدى الأزمان الغابرةِ، ** وسنحدث ثورة معلوماتية تغير كل مناهج التعليم، وسيكتب التأريخ بأيدينا من جديد، عند ذاك سنكتشف أن كان الخنجر لك، أم لقابيل.
(أمامي ،معترضاً.. وقد أنفجر غاضباً..).
أمامي : أرجوكً لا أريد أن أسمع هذا الموال، ولا أريد أن تعاد مأساتنا من جديد، كما أنني لم أفهم شيئاً مما تقول.
العالم: (بحدية) ليس المهم أن تفهم أي شيء، ما أريد أن تفهمه هو أنك ريبورت حي، ريبورت بروح بلا مشاعر، تنفذ ما نمليه عليك نحن، هذا ما يجب أن تفهمه ولا تشغل نفسك بأمور أخرى هي ليس من صلب اهتماماتنا اطلاقاً. لكن لن يكون ذلك بمقدورنا قبل أن نعالج مشكلة الأورام الدخيلة التي سوف تؤخر برنامجنا، لابد أن نقوم باستئصالها سريعاً ونخلصك من متاعبها، لتبقى أنت برأس واحدة.
(أمامي ، يصرخ مذعوراً..)
أمامي : لا..لا..أرجوكم، كيف تُقدِمون على حماقةٍ كهذه، يجب أن لا يحصل ذلك، لا يمكن أن أعيش بدونهما، انهم أنا، هذا يعني أنكم تحكمون علينا بالاعدام كما كل مرة، والأفضل أن تعيدوننا هيأتنا الأولى.
العالم : كفى..كفى..قلت لك لا تشغل نفسك بهذا الأمر، حاول أن تسترخي لتعود أجهزتك للعمل بكفاءة، أي غضب سيعرضك للخطر، أرجوك عد الى هدؤك، ان حصل لك شيء فستفشل كل جهودنا، وتجاربنا التي أنفقنا عليها أموالاً كثيرة، عندما تُنتَزَعُ منك مشاعرك وأحاسيسك عند ذاك سوف لا نسمع منك كلاماً كهذا.
أمامي: (معترضاً) لا..لا..كيف يحصل هذا ..أرجوك، ما قيمة أن يعيش الانسان بلا مشاعر وأحاسيس، ثم أننا وان كنا برؤوسٍ ثلاث فأننا نشترك بقلبٍ واحد، هذا هو الواقع، هو من يمنحنا الحياة، منذ آلاف الخيبات وهو يضخ لنا دماء الأمل بشرايينه التي تجري في عروقنا، يجمعنا مصير واحد، نحيا سوياً، ونموت سوياً…ما تقدمون عليه شيء فضيع، وسوف لن يهدأ لنا بال قبل أن تخبروننا ماذا أنتم ناوون لتصنعوا بنا.
العالم : لا بأس، دعك الآن من هذا،..ولا تستبق الأمور، كل شيء أعددنا له حسابه، وكما قلت لك أنك في الوقت المناسب ستعرف كل شيء، وسيكون كل شيء على ما يرام.
( يخرج العالم من باب سرية تفتح وتغلق أوتوماتيكياً، تاركاً على الطاولة قناني مياه..، أمامي يقوم بصعوبة ويدور بالرؤوس المنذهلة، يأخذ قناني المياه، يشعر بصعوبة في فتحها وكيفية الشرب منها، يسقي الرأسين الآخرين قبل أن يشرب هو، ويقول بألم وانزعاج.. ).
أمامي : ما هذا التخريف..!؟، ومالذي يحصل بحق السماء، قبل الانفجار الكوني العظيم، وقبل أن تدور الأرض دورتها الأولى حول الشمس، كنا نحن مزروعين في أحشائها كالوشم يجمعنا جسدٌ واحد، نرضع حليب أمنا الطهور المعفر بملح الأرض المقدس، نشرب من أثدائها ماءً عذباً فراتاً، ونسقي عطش أرواحنا بشرايين نبعها الصافي الذي يمتد على مساحة أجسادنا، وهناك كنا دائماً عند الملتقى نكتب ملحمة وطن، لا يمكن الا أن يكون موحداً، وسيد نفسه. أيُ خَرفٍ هذا الذي أصاب هؤلاء.!!؟، ما هذا الذي يدور في أذهانهم ..!؟، كيف للمرء أن ينسلخ عن جلده ويتنكر لجذوره، ويتجرد عن مشاعره وأحاسيسه، ويتحول الى مجرد دميةٍ تحركها أهواء العابثين الطامعين ..!؟. كيف للنخلةِ التي ظلَلَ سعفها أول مخلوقٍ آدمي أن تتنصل عن جذورها وتنبتُ في الفراغ.!؟. هذا شيء محال، وضرب من ضروبِ المستحيل..!
(يمسك بالرأس الأيمن ، يشده اليه بحنو ،ويقول ..)
أمامي : أنت ..أيها المزروع في أعالي جسدي، الممتدةُ جذوركَ في مجرى شراييني، المغروس كشجرة آدم في عميق أحشائي، أيها القدر الذي يشاركني أنفاسي، وتآلف مع روحي، كيف أفرط بك وفي ذاكرتك بعضاً من ذكرياتي، ولا أدري أفي رأسك أم رأسي تقبع ذاكرتي..!؟.
(ثم يمسك بالرأس الآخر..)
أمامي : وأنت أيها الصامت في أوج سنوات الضجيج، لم أرَ منك مذ قذفنا رحم أمنا في دنيا المتاعب سوى الصمت والهدوء والابتسام، كنت أنيسي في كل سنوات الشقاء، تمسح على قلبي بأصابع روحك الشفافة كالنسيم البارد فتزيح عنها كوابيس الحزن التي ما أنفكت يوماً تلازمني كملامحي التي ورثتها عن أبي، والذي مات كمداً تحت أقدام الفقر في قصور البذخ والطغيان، كيف أفرط بك وأنت جزئي الذي به يكتمل كلي.!؟.
( يجمع الرأسين الى رأسه ويقول بتودد..).
أمامي : قد تُثَوُرِني الأعباء بما تلقي عليّ من هموم أحياناً، فأنفجر ساخطاً على نفسي وكل من حولي، وقد يلحقكم من ثورة غضبي بعضاً من شرار، لكنني سرعان ما أعود كطائر الماء الى واحة هدوئي، فأنتم معنى وجودي، ولن أسمح أبداً بأن تُقطّعُ أوصالي بسكين عدوٍ طامع، ينظر الى مصالحه على حساب مصلحتنا نحن، مهما كانت المبررات، فالنردد سوياً، نحن جسدٌ واحد، ولن تستطيع أي قوة في الأرض أن تفصلنا عن بعض.
(أمامي يردد وهو يدور في المكان والآخرين يحركون شفاههم معه بتصويتاتهم ..).
أمامي والرأسين الآخرين : نحن جسدٌ واحد .. ولن تستطيع أي قوة في الأرض.. أن تفصلنا عن بعض.
(أمامي، يلمح صورة تمثال لأسد بابل في الروزنامة المعلقة على الجدار..، يتقدم نحوها، يتلمسها بأنبهار.. ثم يقول ..)
أمامي : وأنت أيها الشامخ عبر العصور، الرابض على صدر الموت، يا من على ضفاف جرحيكَ نشأت أول الحضارات، كيف تسمح لهم بأن يُقطّعوا أوصالك، وكيف لنا أن نتنكر لطهارة خبزك المعفر بملح الأرض وعفَّتِها، ونتجرد عن قيمنا التي رضعناها جيلاً بعد جيل، ونصبح مطايا تحركنا نوايا الطامعين.
( ينظر الى الرأسين الآخرين ويقول بحزم )
أمامي : لابد أن نتوحد ونشد البطون بحزام العِفة، لنفوت على المتربصين بنا فرصة أن يُنفِذوا ما يخططون له، لابد أن نجد مخرجاً من زنزانة ضعفنا وتشتتنا وننطلق بأجنحةِ الثقة الى فضاءاتٍ أرحب، فالشمس لا تهب ضياءها للقابعين في كهوف الظلام والاحباط، هيا لنكسر طوق الخوف، ونحطم أسوار اليأس، الفجرُ الواعد ينتظرنا خلف جُدُرِ الظلام ِالواهن الذي يرتجف هلعا بوجه شمعة أملٍ نوقدها بارادتنا نحن.
(أمامي، يدور في الأرجاء حاملاً جسده الرؤوس، وفي هيئته ثورة عارمة تتطاير بوادرها شرراً من عينيه، وعيون نظراءه المعبئين فزعاً على فكرة الانفصال.. تتعالى تصويتاتهم وشحرجات حناجرهم الملبدة بالغضب المكبوت تحت كواتم الخرس المطبق)
أمامي : لن أسمح بذلك أبداً، مستعيناً برب الأرباب الذي آمنت بهِ ذات مساء، وتحملت من أجله لعنة الآلهة، وازدراء الكهنة، وقسوة السجانين، وكم من الليالي نمتُ على أديم الأرض ببطن خاويةٍ، أصارع وحشتي في ظلمات ِ طامورةٍ لم ترى خيط ضوءٍ منذ بدء التكوين، وتحملت سياط الجلادين التي رسمت بالدم والجراح خريطة وطني المكابر على مساحة جسدي، عزائي في ذلك أن لي رباً ينام في أحضان روحي الموجوعة، أستقوي به على شياطين ضعفي وخوفي، فكم من المرات التي ناجيته بها فأنزل سكينته على روحي الموؤدة منذ أمد، فشعرتُ بلذةٍ غريبةٍ سرى دفؤها في جميع أوصالي .
(يصرخ مستغيثاً رافعاً يديه الى السماء..والرؤوس تهمهم معه ..)
أمامي : رباه ، أيها الساكن في الأعالي، يا من تُذعن لك الخلائق كلها، أعدني حيث كنتُ راقداً في أحضان حفرتي، بعيداً عن عيون المتلصصين في جوف الليل لهمسات شفاه الغلابى، وهفوات ألسنة المساكين، وهمهمات أفواه الجياع. رباه.. أعتقني من عبوديتي التي لازمتني كملامحي التي ورثتها عن أبائي منذ أول الخلق، فلن أعد أحتمل العيش تحت رحمة كاهنٍ حربائي امتهن الدين صنعةً من أجل دنيا تُشبع غرائزهِ ونزواته، أفقر العباد، وسرق ما تجود به أرض السواد، فأنتفخ كرشه، وعلى جماجم الفقراء نَصَبَ عرشه، هيمن بِدجلِهِ وشعوذته على عقولهم، وشاركهم في موارد حقولهم، للحد الذي قاسمهم بالعُشرِ، وطوق رقابهم بسلاسل العُسرِ، فكبلهم بالديون، وأوردهم بظلمه موارد المنون ..! رباه ..أَمِنْ أجلِ عمالةٍ هَجنونا..!؟. أم مِنْ أجل خيانةٍ أيقظونا..!؟. وهل عقمت الدنيا وليس هناك من يحملها غيرنا ونحن من وهبناها تباعاً رخيصةً من أجل كرامة، ومازال صدى صراخ السياب يدوي في مسامعنا.. (اني لأعجبُ أن يخون الخائنون، أيخون انسانٌ بلاده..!!!؟.
( التفت الى الرؤوس وهزها بقوة، وقال محرضاً ..وبصوتٍ عال..)
أمامي: لابد أن تتحرر ألسنتكم سيوفاً، وتتفجر أفواهكم صراخا، وتدوي حناجركم هتافاً، كفاكم خرساً، لنوحد طاقاتنا، ونرمم ما تهدم في نفوسنا، ونشحذ قوانا، كي نحطم بوابات السجن، ونلج سويا الى فضاء الحريةِ.
( يدور هائجا في المكان، يبحث عن وسيلة يحطم بها الأبواب، يحطمُ ويبعثر كل شئ من حوله، يضرب بكفيه على الجدار، يصرخ.. تُحَلُ عُقدةُ ألسنةِ الرؤوس الأخرى، يصرخون، يمتلأ فضاء المشغل بالصراخ.. ).
الرؤوس الثلاث : لن نسمح أبداً بأن تمر مؤامراتكم، وفينا عرق نابض.
(هرع العالِمُ فَزِعاً على أثر الضجيج، دخل والدهشة في عينيه ووجهه، وقف مصدوماً وهو يرى أجهزة بحثه وهي محطمة وملقات على البلاط، وكل شيء مبعثر، والرجل السيامي مازال يحطم كل شيء يعترض طريقه، والرؤوس الثلاث تصرخ ثائرة, شعر حينها أن كل جهوده قد باءت بالفشل، وذهبت أدراج الرياح، وأن كل ما بشر به أسياده كان مجرد كذبة، أو حلم في خيال مراهق، حاول أن يسيطر على الرجل الهائج بريموت كان يحمله في يده، فلم يفلح، قرأ تعاويذه التي يحفظها ولم تفلح هي الأخرى، حاول أن يستخدم اسلوبه بالأقناع كرجلٍ لرجل..)..
العالِم : مهلاً..مهلاً..، أنا آسف، امنحوني فرصة كي أكفر عن ذنوبي، فلقد نسيت أن أقدم لكم الطعام، كان خطأي أنا، اعذروني.
(الرجل السيامي يلتفت اليه برؤوسه الثلاث وهو يحمل ذات الخنجر الذي وجد في الصندوق الى جوار المومياء، يتقدم نحوه والغضب يتطايرُ شرراً من العيون والوجوه..أمامي يمتلأ غضباً وهو يتقدم باتجاه العالم)
الرأسان الآخران: (يهتفان) الموت له..الموت له..
(يتراجع العالمُ مرتعداً، يضيق به المكان وهم يقتربون منه، يلصق ظهره بالجدار، أمامي يقول وهو يضع الخنجر على رقبتة..)
أمامي : قُل لأسيادك، لن نكون مطيةٌ تحملُ أسفارا تُسرَقُ من خلالها كنوز بلادنا العظيمة موطن أسلافنا منذ فجر التأريخ. و لن نسمح بمخططاتكم الخبيثة أن تَمرُقَ من خلالنا بأي مبررٍ كان فتُقطِعَ جسدنا الغامقُ بالسمرةِ لشدةِ ما لفحتهُ شمس تموز الى أوصالٍ متناحرةٍ تشربُ دموع خيباتها وأنتم تتفرجون. ولن تعشعش أفكاركم في ذواكرنا التي عمها الضياء فأضحت تُشِعُ نوراً وبهاءً، وقلوبنا التي ما أنفكت تقطر دماً عبيطا لكثرة ما مرت على رقابها السيوف.هيهات ..هيهات…فنحن جسدٌ واحد وان كنا برؤوس متعددة، لن تفرقنا المكائد، ولن تثنينا الشدائد، نموت ان حكم القضاء، ونحيا ولكن بكرامةٍ واباء. أعدنا أيها الحالم من حيث أتيت بنا، لا نريدُ حياة تُمرِغُ أنوفنا بوحلِ الذلِ، أكفاننا المعفرة بتراب الأهل ثيابُ عِز وفخار، أعدنا أيها المعتوه.
( يقرأ العالم وهو يرتجف متوسلاً ببعض التعاويذ، ويتمتم ببعض العبارات .. مخبئً وجهه خلف كفيه المرتجفين ليتقي طعنةً من خنجرٍ أمامي الذي مازال يلوح به. )
العالم : حسناً..حسناً..ابعد السكين عن رقبتي، سأعيدك حالتكً الأولى.
(لحظات ويحل الظلام في المكان، تعود الأشباح تظهر من جديد وهي تمشي متعاقبة، تخرج حزمة ضوء تتركز باتجاه الصندوق الذي يحتوي على المومياء .. يتعانق الرؤوس الثلاث، ثم ينسل الجسد برؤوسه داخل الصندوق، فيما يجلس العالم محبطا وسط أشياءه المبعثرة والمحطمة وقد خسر كل شيء).
(ستـــــــــــــــــــــــــــــــــار)
** الكاتب جبار آل خديدان القريشي/ العراق.