عن الإجتهاد والإحتجاج والتداخل في مسرحية " أوفر بروفه"/ جبّار ونّاس
يقودنا البحثُ بين طيات ما تضامن عليه عرض مسرحية “أوفر بروفه” مباشرةً إلى الوقوف أمام ناصية المسرح بكونها تتكفلُ لِأنْ تكونَ الحاضنَ الأمينَ لكلِّ براهين القول والبوح والإنفعال والتجسيد لمضامين في الفكر في الجمال في الإنسان في الحياة وفق دائرتها العريضة الواسعة ذلك أنَّ تلك الناصية/ الخشبة ستكون أو كما أريد لها لِأنْ يُسلطَ الضوءُ على أحشائها فتُصبح ميدان الفعل والحركة والتجسيد الفني و بعد أنْ تكون خياراً مركزياً لفعلٍ مسرحي حين ينطق برسالته وبكل وضوح وجمال وهو يتوخى إظهار مكامن الفن إلى العلن..
وقد بذل المخرج والمؤلف معاً الفنان (علي الشيباني) جهدا كبيراً وهو يصوغ لنا طريقة عرضٍ يمكن أن نسميها ب (العرض المتداخل) ويجتهد في تقديم عرض مسرحي يتواءم فيها ما بين حالتي العمى والبصيرة وتلك من حالات الإجتهاد لديه وقد عوَّل عليها في تكوين رسالةٍ خاصة تتسمُ بالإثارةِ..
فَمَنْ الأعمى ومَنْ البصير؟ حين يظهرُ لنا رجلٌ مُبْصِرٌ بين جمعٍ غفيرٍ من العميان ومن هنا نرى أنَّ بنية العمى وبكليتها وحتى في مجموع ما ترافدتْ به من أجزاء أخرى فإنها تاخذُ منحى مجازياً معبئاً بحمولات الترميز إذ تتناسلُ روح العمى لدى هؤلاء العميان وتجسدت بفضح تلك الروح المريضة التي ظهرت من خلال شراهة الطموح عند بعضهم عند ( الملك، الوزير، الجندي) ليقول لنا العرض أنَّ تلك الطموحات لا يمكن أن تتوقف أو يُمكن أن تُختزل عند حد فاصل ما بين حدود العمى والإبصار فقط.. والمخرجُ ( الشيباني) يتضحُ جهدُه وفعله في تشييد معمار فني لعرض مسرحي قُدِم لنا على أنه خارج التمرين المسرحي فإننا يمكن أن نتابع تفاصيل هذه أل (بروفه) وهي من نواميس المسرح شكلاً وإنتماءً وتوجهاً ونستخلص من مديات إشتغاله وهي :
1- ينجح المخرج ومدير اللعبة المسرحية حين يذهب بطريقة العرض صوب التداخل ما بين إسلوب الإحتفال إذ يُصبحُ مدير اللعبة هو الراوي وما بين الأسلوب البريختي حين يكون هو الكاشف وهو الداخل والمحرك لبواعث متن العرض في الإحتجاج والرفض والهدف التعليمي والتربوي.
2- كان لمكان وفضاء العرض بعدٌ بارز شكل مهيمنةً طاغيةً بعد أن أخذت موجودات المكان حضورها المؤثر رغم حالة الثبات المادي الذي تصيرت عليه على خشبة المسرح فالهياكل التي أوحت لنا وكأنها قبور إو جدران يتستر خلفها الفاعلون القادمون لأخذ أدوارهم في هذه اللعبة ستُصبحُ هذه الهياكل وبعد أنْ تُرفعَ عنها ستائر الحجب لتكون أمامنا قطع شطرنج ولكن بهيأةٍ كبيرة ومثيرة وتنطلق من خلالها بنية الإحتجاج والرفض التي شهدناه وسمعناها على السنة وافواه الممثلين من المكفوفين وبعد أن إستثمروا حضورهم الجسدي وما تواجد لديهم من أدوات ساندة كالعصي والتي أصبح بعض منها كدليل لتحديد السير والجهة والطريق وبعضها الآخر صار بنادق ترمي بنيرانها وأخرى صارت أدوات يرفعها الملوحون بها إلى الأعلى كما حصل مع مشهد الهوسات والهيجان والفزعة.
فهذه القطع تتعاشق من خلال الإشتغال مع وظائف أخرى كمقاعد جلوس ومن تحتها تتدلى فوانيس صغيرة ساهمت في إثراء البعد الدلالي الذي كان يطمح إليه المخرج في تكميل صورة مضمون العرض إلى الجمهور..
3- ينجح هذا العرض حين يجعل من تلاقح اللغة الفصحى مع اللهجة العامية ضمن مبررات موجبة ساهمت في توليد إتصال مثمر مع الجمهور في كوميديا نظيفة أخذت ببعدها التوضيحي ذلك أنَّ الهدف من إيجاد هذا النفس الكوميدي على قلة تواجده بين متواليات العرض ليكون جزءاً لايتجزأ من إتمام الرسالة المتوخاة من هذا العرض..
فهذه الرسالة قد ضجتْ بحمولات السخرية والتهكم والنعت المباشر في التوجه والقصدية إزاء موضوعات شتى يكاد يختمر بها واقع العراق الراهن والمتمثل بفقر الإدارة والحكم وفسادها المستشري وطغيان الجهل والإستهتار بأحوال الناس في هذا المجتمع و بمجمل ما نصت عليه هذه الرسالة التي أخذت بطابع النقد المباشر والرفض فإننا سنكون أمام خطاب توجيهي ينحو برداء المسرح حين يصير هو الخلاص والوضوح في فهم وفرز الحالة المرتبكة ما بين حالة العمى بكل تجليات السلبية وما بين جدارة البصيرة حين تبرز بثوب الفحص والفرز والنقد الثاقب المثمر..
4– تبزر في هذا العرض فاعلية الازياء ذات اللون الأبيض والأسود لتقول بتداخل الجميع بنفس حالات الرغبة والشراهة في تقصي الرغبات والنيّات وحالة التماثل والتشابه في الفعل والقصد والمراد.
5- يبقى مشهد نزع الملابس في المشهد الختامي ليعود الممثلون ويخرجوا عن قناع التمثيل الفني إذ كانوا في لعبة مسرحية من المشاهد التي إحتفظت لها بحيوية وفاعلية تضاف إلى رصيد حيوية الفعل الإخراجي للفنان على الشيباني وكنا نفضل أن ينتهي هذا العرض بمشهد نزع الملابس فقط وان لايستمر إلى فواصل الهتاف المباشر الذي سار بالعرض إلى الوقوع في شرك الخطابة الآنية الرتيبة والمفضوحة في بيانها..
6- تبقى التحية والإشادة واجبة لفرقة السراج المسرحية للمكفوفين وهي تأتي بالمؤلفين ( لؤي زهره وعلى الشيباني) وبالمخرج ( على الشيباني) والممثلين ( عثمان فاخر الكناني، كرار صادق، علي محسن البصير، عمار محمد رميض، صدام حسين الكعبي، زين العابدين حيدر الربيعي، محمد فلاح الخالدي، على عباس الكرخي، عبدالقدوس فاخر، أحمد جاسم شلال، أحمد هادي حمزه، حسين ماجد لازم، عبدالله عثمان فاخر، صادق مكي السيلاوي، حيدر ساهي حمزه) يُضاف لهم ( سعد سلمان) في الإضاءة المسرحية و ( حيدر حسين الجبوري) في المؤثرات الصوتية و (شاكر محسن شاكر) في الأزياء و( أسيل خضير النجار) في تنفيد الديكور..
فلقد ساهموا في تقديم عرض مسرحي قُدِم على مسرح سميره ميس في بغداد ضمن فعاليات مهرجان العراق الوطني للمسرح للمدة من 1-7/آب/ 2021 وبالإشتراك مع الهيئة العربية للمسرح تميز برسالة إجتماعية واضحة في هدفها الفني والمعرفي..