انهيار المقدس / أحـمد طـه حـاجـو
قراءة تحليلية في العرض المسرحي ( The Home )
العرض المسرحي هو منظومة متكاملة من العناصر المنصهرة في بعضها البعض ، منطلقة من فكرة المؤلف ومستقرة في فكر المخرج لتنطلق مرة اخرى الى فكر المتلقي ، موصلةً هدف العرض ورسالته السامية ، وقد تختلف الاساليب والطرق التي يتبعها المؤلف والمخرج في ايصال افكاره ، فلكل كاتب ومخرج تقنيته الخاصة في التعاطي مع مفردات النص والعرض المسرحي ، والمتميز دوماً يكون مستخدماً الطرق المتماشية مع المتغيرات الزمكانية ، وعليه يكون منجزه اكثر اثارة للجدل بين مؤيد ورافض ، وهنا استطيع ان اقول ان العرض المسرحي ( The Home )للكاتب العراقي ( علي عبدالنبي الزيدي ) والمخرج ( غانم حميد ) اكثر العروض التي اثارت جدلاً في الوسط المسرحي العراقي والعربي لدى عرضه في ( مهرجان العراق الوطني للمسرح ) في دورته الاولى والمنعقدة في ( بغداد ) كونه تطرق الى المقدس المتمثل بالشرف بطريقة جريئة .
ان فكرة النص تتلخص في عائلة مكونة من ثلاث اشخاص رجل ويجسد شخصيته الفنان ( محمد هاشم ) والزوجة وتجسدها الفنانة ( بيداء رشيد ) والأم وتجسدها الفنانة ( هناء محمد ) وهناك شخصية محورية تظهر بصورة متناوبة تقوم بضبط ايقاع العرض شبيهة بالـ ( جوكر ) الا وهو الفنان ( د. مظفر الطيب ) .
تدور الاحداث وتناقش موضوع الاغتصاب، اذ ان النص يتحدث عن جريمة اغتصاب ستحدث والرجل لا يقوى على المواجهة او ردع المغتصبون، وهو بالفعل ما حدث لدى دخول عصابات داعش الاجرامية الى العراق في عام 2014 ، فالنص يتحدث عن بيع نساء وانتهاك شرف البيت، ثم يدور النقاش عن طاقية الاخفاء التي يتقاتل على الحصول عليها كل من الابن والام والزوجة، ثم يبلغهم الفنان (د. مظفر الطيب) ان الطاقية (منتهية الصلاحية) ويخرج ويترك الباب مفتوح، اي ان العرض ينتهي ولا يوجد هناك من مضحي الى الآخر حول الطاقية ، بل تمسك الجميع بحبهم وتشبثهم بالحياة على حساب الآخرين .
ان النص مليء بالرمزية المضمرة ففي بداية العرض يظهر الفنان ( د. مظفر الطيب ) مرتدياً البدلة العسكرية ويحمل عصا ويطرق على ثلاث توابيت ويسألهم بصيغة الاستجواب ( هسة احسن لو قبل ، انت ويانا لو وياهم ) وهنا ترمز التوابيت الثلاثة الى الرئاسات الثلاثة النائمة عن الهم العراقي والغير مبالية لمتطلبات الشعب ، كما نرى ان التابوت الاول يجيب بانه مع الضابط فينهره مجيباً بانه معهم ، فيجيب الرجل في التابوت الثاني بانه معهم بصيغة التحدي مشيراً للجمهور بصورة مستفزة ومحرضة بضرورة ان يكون لهم موقف وصوت مسموع ، فيذهب الضابط الى التابوت الثالث فتجيبه امرأة توحي بصيغة كلامها بانها عاهرة ومرحبة بوجوده بان الوضع افضل بكثير من ذي قبل .
ان التحريض واضحاً بصورة كثيفة في النص والعرض ، فقد استخدم المخرج ( غانم حميد ) تقنياته في تجسيد النص بصورة رمزية مستفزة تارة وصورة مباشرة تارة اخرى ، محققاً بذلك استفزازاً واضحاً الى المتلقي عبر الجرأة في الطرح والمعالجة .
عنوان المسرحية ( The Home ) ( البيت ) يرمز الى الوطن والمفترض ان يكون مصدر الأمان لأهله ، عادة العنوان يكون جزءاً اساسياً من عملية الاستفزاز للمتفرج ، لأنه يتماشى من العرض المسرحي من البداية حتى النهاية ، فالعنوان هنا كان حاوياً للصراعات القائمة بداخله ، فالمتفرج يستمر بإثارة الاسئلة بداخلة هل هذا بيت ؟ ام وطن ؟ ولماذا هو بشكل هيكل فارغ ، اسئلة تكمن اجاباتهافي أعماقها .
اللغة : كانت خليطاً بين الفصيح والعامية ، وهذا من ضروريات العرض التحريضي لأنه يضمن اكبر عدد من المتفاعلين والمتضامنين من مختلف مستويات المتفرجين ، ولسهوله ايصال بعض الاحاسيس لا سيما المفردات التي تعتمد في ظل المتغيرات المستمرة على الثقافات ، كما انه يدلل على ان العمل منطلق من نبض الشارع الآني .
الحوار : تضمن الحوار على العديد من الجمل الفلسفية العميقة الدلالة والرمزية برغم مباشرتها داخل العرض ، الا انها تحيل المتلقي على اماكن اخرى بالتفكير ، وقد وضعت بقصدية ، مثيرةً بذلك الحس النقدي للمتفرجين ، فمثلاً ( عزرائيل يتجول في شارعنا ، سيتحول بيتنا بقدرة قادر الى لا شيء ، الشرف لا يحتاج الى بنادق بل يحتاج الى وطن شريف ) وغيرها .. ما هي الا استفزازات صريحة من اجل التحرك ورفض الخنوع ، فهي دعوة لرفض الوضع القائم حالياً والتفكير عن حلول جذرية من اجل الخلاص ، كما ان المبالغة في تجسيد الألم مثل ذكر ( عزرائيل ) ان احالة الى تحريض على كسر نمط التفكير الاعتيادي والبحث عن اسباب زج تلك المفردات المبالغ فيها .
وفي مكان آخر تنادي الام ( الغجر قادمون يا ويلكم من الغجر ) والغجر هي رمز للهمجية والمجون والرقص وان ذكرهم هنا والتحذير من طغيانهم هو رمزاً لمن يحاول تعميم وطغيان ثقافته الهجينة والمصدرة الينا من الخارج ، وعلينا ان لا نبقى كما نحن صامتين متوقفين .
كما اننا نرى ان تناول المقدس بصورة مباشرة عبر جمل تحريضية مثل ( متى تنزل الرحمة ، زلزال يا ربي زلزلها ، الذبح على القبلة ، الاغتصاب على القبلة ، يا رب خذ شرفي كله من اجل بقائي ، ولتغتصب امي وزوجتي قرباناً لك وانا اعدك بشرفي بأني سأصلح ما تساقط من شرفي ) نرى هنا توجيه الخطاب بصورة مباشرة الى المقدس وعرض التحريف القائم في الواقع والذي يتبجح به المحاولون الى استحمار الشعوب ، وايضاً نرى ان هكذا تناول يدلل على ان هناك طرف يلتزم الصمت ينبغي ان يتحرك ، فالواقع المسلوب الارادة والذي هو مليء بهكذا حالات لا بد من مسبب .
فإثارة تلك الاسئلة من خلال عرض الواقع بصورته المريرة كانت لعبة رمزية اتقنها الكاتب والمخرج بمهارة العارف ماسكين الذروات ومتحكمين بها عبر التمهيد في الافعال الدرامية والاخراجية ، وتوجيه التفكير نحو المسبب ، ما هو الا وسيلة من وسائل الاصلاح والتغير الذي يتبناه المسرح بصورة عامة ، كما ان تلك الحوارات الكونية والموجهة نحو المقدس تدلل على اليأس من المتواجدين من اصحاب القرار او انهم الخصم ولا مشتكى الا لمن هو اكبر واعظم ، لأننا يأسنا منهم ولا نعول عليهم في اي استجابة .
وفي دعاء الفنان ( محمد هاشم ) المتمثل بــ ( يا رب خذ شرفي … الخ ) نرى ان الدعاء يمتزج بنوع من الخيال عبر الدعاء للرب واستجداءه بالموافقة على اغتصاب امه وزوجته من اجل بقاءه على قيد الحياة وهذا ما حدث مراراً عندما سيطرت العصابات الاجرامية في اجزاء من العراق وباعوا النساء الايزيديات بسوق النخاسة متحججين بالدين الزائف ، لكن الخيال هنا يحيلنا الى الغور بأعماق القصدية التي اوجدت هكذا خيار صعب ، فأي دعاء هذا ؟ واي وضع مأساوي يعيشه الاغلبية الصامتة ؟
ان هكذا اشتغال سردي هو معروف لدى الكاتب ( علي عبد النبي الزيدي ) فالمبالغة فيه واضحة لكنها منبثقة من عمق المأساة ، والمأساة في قاموس ( الزيدي ) الدرامي لابد من الثورة عليها بجرأة وقوة وشجاعة ، لا بالمهادنة والاساليب المألوفة ، كما هو مألوف ايضاً لهكذا اشتغال للمتتبع لأعمال المخرج ( غانم حميد ) في مسرحية ( الذي ظل في هذيانه يقظاً ) والتي عرضت في تسعينيات القرن الماضي .
فالمقدس رمز لا يستهان به ، وعادة المتمثل بالشرف والعفة والغيرة ، والدين ، لكن اي مقدس يمكن ان يمنع حبل المشنقة في ظل الخراب وفي ظل المتلاعبين به وفق مقتضياتهم الشخصية ، حتى ان المقدس صار مقدساً فقط عند الفقراء والمعدمين ، وانهيار المقدس عند المتسلطين ، وفي ظل هكذا حقائق صادمة لابد من طريقة غير مألوفة في التعاطي معها ومع المتلاعبين بها ، لابد من المبالغة في الجرأة لتكون واخزة للضمير والغيرة ، فمن ينتفض وانتفض على مفردة وردت في العرض لجرأتها لماذا لم ينتفض عندما استباح شرف الازيديات ، لماذا لم ينتفض على المتسببين ؟ ولماذا لا ينتفض على الذل الطاغي والمفروض ؟
الرؤية الاخراجية : ان الرؤية والفلسفة الاخراجية المتجلية في عرض ( The Home )كانت واضحة عبر الانسجام الذي حاول بناءه المخرج ( غانم حميد ) بدءاً بالمنظومة الديكورية المتمثلة بالهيكل الاجوف لبيت وعبر حركته المتكررة لتتلاءم مع روح المشهد ، لكن ظهور عمال المسرح بصورة متكررة من اجل تحريك وضع البيت قد حقق تغريباً ليس في محله ، وكان من الممكن ان يستعاض عنهم بآلية اخرى كأن يكون عبر عتلات وحبال من اسفل البيت وتحريكه بصورة مخفية لتحقق جمالية اكبر . كما ان الديكور قد احالنا الى العديد من الصور اولها انه البيت العراقي ( الحوش ) الذي بينه الفنان ( محمد هاشم ) في بداية المسرحية ، وقد رمز هذا الهيكل الى ( العراق ) الذي تكالب عليه الطامعون من كل الاتجاهات وقد تم كشف تلك الاطماع بصورة رمزية عبر بعض اللهجات في الحوارات ، كما ان الرسائل الذي تضمنها العرض كانت متداخلة ومتشابكة ومترابطة ، وقد تمحورت بسياقات الحدث ومساره منذ البداية وحتى النهاية ، كما ان المخرج حقق اهم العناصر الواجبة لنجاح العرض الا وهي الصدمة والدهشة والترقب ، وكان ذلك عبر اداء متفوق وجرأة بالطرح كانت لها مبرراتها الرمزية ، فالجرأة مؤكد في وجودها في اي عرض لا لمعناها المباشر الوضعي ، بل هناك امور مرعبة كبيرة في الواقع وما هذا الجرأة الا هي تجسيد قليل جداً بالنسبة لذلك الدمار الحقيقي الواقع خارج حدود العرض المسرحي .
الاضاءة : كانت متوائمة ومعبرة عن روح المشهد وافعاله السريعة ، وكان هناك توافق ( هارموني ) مع الموسيقى وضرب الطبل المعبر عن احتفالات ( الكاولية ) ، فكانت الاضاءة وعبر اختيارات الالوان دالة مباشرة عن لحظات الحزن والفرح والرقص ولحظات التأمل ، فاللون عادة مرتبط بسايكولوجية المتلقي ومرجعياته وبناءه الوجداني ، فاللون يلعب دوراً اساسياً في التأثير عبر ابراز الفعل بصورة مبالغ فيها وهنا كان التحريض من خلال الاقناع المتحقق ، عبر استخدام اللون الاحمر والالوان متعددة المتحركة بصورة سريعة .
الشخصيات : كانت جميعها رمزية وهي كل من ( الابن ، الزوجة ، الام ) ومن قبلها التوابيت الثلاثة في بداية العرض المسرحي ، فالشخصيات الثلاث تمثل الرئاسات الثلاثة ومواقفها الخجولة ازاء الواقع وصراعاتها من اجل البقاء ، وجسد ذلك عبر الصراع على ( طاقية الاخفاء ) وحب كل منهم لنفسه على حساب شرفه ومبادئه وقيمه ولو عكسنا ذلك على ارض الواقع لوجدانه في افعال الرئاسات الثلاث فلا منجز يذكر منذ 19 سنة من الحكم .
الفنان( محمد هاشم ) جسد العديد من الافعال الدائمة التحول ، عبر الرقص واللامبالاة والغيرة والخوف على العائلة تارة وعلى رقبته تارة اخرى ، كان يثير الاسئلة بقوة عبر الثنائية المتوائمة مع الفنانة ( بيداء رشيد ) التي اجادت دورها عبر حالة التقمص لأبعاد الشخصية المسندة لها ، فنراه يأخذ عباءة زوجته التي هي رمز الستر والعفة والشرف ليقوم بشدها على خصره ويرقص ويقول ( ان هذا البيت سيتحول بقدرة قادر الى لا شيء ) على صوت طبل الكاولية ، ان هذا الفعل وعبر هذا الثلاثية ( الشرف –الكاولية – الرقص ) يدل على ان الواقع يسير بالتجاه العدم والمجهول ، فلا امان لنا في ظل طغيان الكاولية ، والكاولية هنا فعلاً واقعياً مرمز مسرحياً الى الاستهانة بكل شيء ، فهو يقول العراق الى زوال ما لم نغير الحقائق الفعلية .
( هناء محمد ) كان اداءها جيد بالنسبة لفنانة بعمرها فقد كانت متمكنة من الالقاء والتنوع والتلاعب في الطبقات الصوتية الا اني ارى انها كان ينقصها التمرين بعض الشيء حول القاء الشعر لتكون فاعلة اكثر ، لا سيما وان قصيدة الشاعر ( موفق محمد ) المعروفة بنقدها اللاذع للحكومة والوضع العراقي كانت مؤثرة ، وكانت في استهلال دورها ودخولها للمسرح .
كما ان شخصية ( د . مظفر الطيب ) ( الجوكر ) وفق مسرح المقهورين ، فكان محوري يوجه الافعال باتجاه الحقائق ، بصفته الناصح ، وكان لا يظهر الا اذا اشتدت الذروة ، فما ينطق به كان رسالة مرمزة ومشفرة تدعوالى الانتباه .
الاحداث : كانت مترامية تدور داخل بيت واحد يمثل العراق ، فما تم تناوله له خصوصية تكاد مشتركة من الشمال حتى الجنوب ، واثارة الذاكرة عبر مفردات قديمة مثل ( حوش ) وتلك الايام البسيطة المليئة بالأمان ، والعاصمة وجمالها في الماضي .
كما ان ذكر الشهادة وعذابات ذوي الشهيد الذي خسر حياته من اجل وطن لم يقدر ذويه بعده ، والم الحرمان الذي يعيشه الاهل في لحظات سماعهم خبر استشهاد ابناءهم .
ظهور الفنان ( د . مظفر الطيب ) وهو يقول ( تم انتهاء رصيدك لا يمكنك اتمام المكالمة ) في اشارة ان الرسالة وصلت ولا داعي للاستمرار ، بح الصوت وتكاثرت النجوى ، لا حياة لمن تنادي ..
النهاية كانت مفتوحة وهو بخروج الفنان ( د. مظفر الطيب ) وتارك الباب خلفه مفتوح قائلاً سأخرج واترك الباب مفتوح والي يريد يطلع بكيفه ) وهنا تستمر عملية الاستفزاز والتحريض عبر وضع الخيار اما الهجرة وترك البلد ام تحمل العذاب والخوف والصراعات ، وهنا يرفض اهل البيت ذلك معبرين عن رفضهم بعبارة ( اولاد الكلب ) بصورة مجتمعة ، اي ان الصحوة تحققت وكشفت اساليب توجيه الاوضاع من قبل العملاء والخونة الذين يتلاعبون بالبلد ومقدراته ويعملون على توجيه الشعوب الى الهجرة ..
العرض المسرحي ( The Home )هو عرض مسرحي صادم لمحتواه الفكري والفلسفي والتقني ، من ناحية النص والاخراج وكافة التقنيات المستخدمة في انتاجه ، اذ ان هكذا انواع من العروض التي تتبنى موضوع المصائر ، يمكننا ان نطلق عليها ( عروض تحريضية ) لان نسبة اشتغالها على الاستفزاز والاثارة والمبالغة كثيرة ، وهذه من اهم عناصر وشروط تحقيق التحريض الايجابي وهو المنطلق لعملية التغيير ، فكرياً اولاً ومن ثم حركياً مستقبلاً ، لأنه عرض الحقائق بطريقة غير مألوفة وغير مستنسخة وهنا تكمن المغايرة والثورة على ما هو مألوف بدءاً باشتغالات المسرح ومن ثم بايدولوجيات التخلف المتواترة والمصدرة ، وبتعدد هكذا نمط من العروض المسرحية ستحدث النهضة ..