حيازةُ النص وفعلُ الإخراج في مسرحية ( ليلةٌ ماطرة) / جبّار ونّاس
يتبدى فعلُ المسرح بمدى قابلية التفاعل التي سيحدثها ويتلقاها حين تكون تلك القابليةُ ناجزةً في تحرير وتصريف ما تتضمن عليه من أواصر تبدو لها القدرة على التماهي المرن مع قابليات مَنْ سيدخلون في تفاعلٍ معها فتترشحُ بعدها صفاتُ ذلك التفاعل فتغدو كنتائج تحوز لها من براهين التواجد المسرحي المثمر والمُلَخَصَة عبر ما قُدِمَ على خشبة المسرح أو في عملية القراءة والتلقي المقابلة من قبل جمهور المسرح..
ومع عرض مسرحية ( ليلةٌ ماطرة) تأليف الكاتب والفنان مثال غازي ومن إخراج الفنان مهند العميدي ومن إنتاج وتقديم ( فرقة المسرح الكوني) في محافظة الديوانية وسط العراق سنكون مع تلك المحصلة الناتجة من تداخل وتفاعل ما بين فعل التأليف و فعل الإخراج المقدم أمامنا على خشبة مسرح الرافدين ضمن عروض ( مهرجان العراق الوطني للمسرح) التي شهدتها مسارح بغداد للمدة من 1/8 ولغاية 7/8 /2021
نص المؤلف :
– ينحو المؤلف مثال غازي بإتجاه واقع لم تَتَحَدْ فيه ملامحُ الإنتماء المكاني بشكل واضح ودقيق وربما أراد أن يُعطي لملامح ذلك الصراع الواقعي والمعاش عن قرب والمتجدد والمستمر زمانيا ومكانيا والمتمثل بصراع الأجيال او بصراع الثبات والتغيير والذي يكاد يشمل العائلة أو المجتمع بشكل أعم وأشمل فهو صراع أظهره لنا المؤلف لِيُظفي عليه طابعاً رمزيا إتسم بالعمق إذ مال إلى التفكر والتبصر بحاضنة الإنتظار وصار يتفلسف بها عبر الدخول إلى دواخل العلاقات الأسرية وإخراجها إلى العلن عبر العمل على إبراز ماتحمل من صفات إنسانية تكاد تبتعد عن لبوس التجانس المحلي رغم أنَّ هموم المؤلف هي من صميم الواقع العراقي تمثلتْ بحالة ( عطس الأم) وما تترسخ في الذاكرة والموروث في العراق وهذه تُحسب لمثال غازي إذ يقدم نصاً فيه من الحبك والقدرة على المحافظة في بث مراداته ومضامين نصه التي نرى أنها ستجد لها من التفاعل والقراءة حتى لو قُدِم هذا النص في أماكن أخرى خارج العراق فالصراح الموجود فيه يأخذ له أبعاداً كونية بعد أنْ نجد من ملامح ما إتصف به كُتّابُ اللامعقول أو العبث ذلك أنهم يضمنون بين دفات نصوصهم رغم حالة اليأس والكآبة والتوتر فثمة سخرية تتسم بطابع من الكوميديا وربما بث فسحة من المرح كما فعل الكاتب ( فرناندو آربال) في مسرحيته ( الشجرة المقدسة). ففي قمة الخراب الذي لحق بالبيت الذي قصفته الطائرات ومن وسط الأنقاض نجد أن الزوج وهو في الصالة ينادي على زوجته المحاصرة في الحمام من جراء القصف بعبارات وكلام تشيعُ منهما الكوميديا والمرح وقد قرأنا في نص مثال غازي وفي قمة الأزمة والتوتر فثمة سخرية وهزء يتبادر على لسان الإبن
الإبن : هل ثمة سفينةٌ في الجوار؟
الإبنةُ: عن أية سفينة تتحدث؟
الإبن: صدقا هل ثمة سمك في الجوار؟ فما بالنا لو إنتفخنا جميعا كما المحيطات بهذا الحجم الهائل من المطر المتساقط من السماء أو ربما من السقف؟
ونمضي مع هذا النص لتظهر لنا حالة من التوتر والوهن والتردد وقد نجح الكاتب في إبراز هذه العنونات فضلا عن إظهار حالة الرفض والتمرد على حالة الخواء والإهتراء فثمة كشف وتجلٍ نجدها أيضا على لسان الإبن: ربما علينا أن نفكر في توزيع جديد لجغرافيا الأمكنة على المائدة يا أبتي فلابد من التغيير
الاب: لاتغييرَ قبل أن يأتي الصباح
الإبن: بل لا مستحيلَ بقدر الرغبة في المحاولة، أنتَ خائفٌ يا أبي
الاب: سأبقى هنا حتى لو كلفني ذلك حياتي
الإبن: لكل منا رغبته يا أبتي… لكل منا رغبتُه……
ومن خلال هذا الحوار تتضح الرؤية الفكرية والمسار الذي يعول عليه الكاتب مثال غازي في تجسيد نص يبرز فيه عامل الصراع بين الثبات والتغيير وبمساحة كبيرة فثمة إنحيازٌ من الكاتب وإيمانٌ عميق بإتجاه روح التغيير حين أعطى قيمةً واضحةً لدور الإبن وهو يقارع رغبات والده المتسمة بالثبات والتقوقع وعدم المبادرة في إبداء الفعل والتصرف…
فعلُ الإخراج :
– لم يبتعد الفنان مهند العميدي عما حفل به نص المؤلف مثال غازي وهو يقدم مقاربته الإخراجية بل بادر إلى إجتراح شكل إخراجي لعبت فيه السينوغرافيا دورا مهيمناً فكل مكونات هذه السينوغرافيا تم تحشيدها ليمتلىء بها فضاء العرض لترسم بمجملها ما ترافدتْ به من علامات كلها تؤكد على وهن البيت وإهتراء سقفه فبات سقفا بثقب كبير صار يتناسل إلى ثقوب متعددة نجدها بارزة بين أحضان المستطيلات وفي الإناء الأحمر والذي تعدد بحضوره ووظائفه هو الآخر فبدى من مهيمنات ما جاء به فعل السينوغرافيا المقترحة من قبل المخرج ولايُستبعدُ تسلل هذه الثقوب ونفاذها إلى دواخل الشخصيات الأربعة فنرى (الرمل/ الرماد) وقد تشظت به أجسادهم فكل جسد راح ينفض ما لديه من آمل أو رماد تراكم فصار عبئاً ثقيلاً ولابد من نفضه..
وفي مسعى من المخرج لتعزيز مهيمنة المكان لجأ إلى مفردة مركزية ( الرمل/ الرماد ) وهو يتساقط من السقف الواهن ليتمازج مع أصوات زخات المطر إذ شكلت البعد والمرجع التأويلي لكل مراحل الوهن والإهتراء والخراب الذي أحاط ونفذ إلى دواخل البيت وراح يؤثر على موجودات البيت المادية والروحية وفي هذا تعويل من المخرج على فعل مفردة ( الرمل/ الرماد) بعد أن أعطاها حجماً وكثافة في الفعل والأثر وقد حققت لهذا العرض نجاحا ملموسا ومثمراً يُضاف لها مفردات ساندة أخرى كالسلالم المتدلية من الأعلى والتي ظهرت في نهاية العرض كوسيلة نجاة لجأ إليها الاولاد وكذلك مع وجود المستطيلات والتي تعزز فعل وظائفها تكاد توازي الأثر المادي والمعنوي الذي جاءت به مفردة الرمل ويضاف لها أيضا وجود الجداحات بيد الممثلين وفترات تناوب إشتعالها..
و يُضاف إلى هذا الإشتغال في المكان من قبل المخرج فإننا نراه في جانب آخر قد تعامل مع نص المؤلف بطريقة تكاد تختلف قليلا عما ورد في النص الأصلي إذ عمل على:
– حذف حضور الأم كعنصر فاعل لدى المؤلف وإستعاض عنها بدور النادل الذي ساهم في تحشيد الفعل الدرامي داخل العرض فمرة يساهم في زيادة التوتر وأخرى محرضاً وأخرى يشكل جزءاً مما ناله من الوهن والخراب والتصدع الذي أصاب البيت وإنهيار سقفه.
– أظهر الشخصيات وبالذات الاولاد في حالة من الإنهيار المستمر والإنصهار بين تلافيف هذا الوهن المتدلي فوق رؤوسهم فكانوا يؤدون وكأنهم في حالة من التوهان وعدم التبصر عما يدور حولهم في واقع يتشتت بالإنهيار.
– اذاب دور البنت في النص الأصلي وصرنا مع صوت يتناغم مع صوت وفعل الإبن والذي كان له حضور مؤثر داخل نص المؤلف فغابت أمامنا معالم الفرز والوضوح المتوخاة في فعل كل ممثل وبشكل مستقل عن الآخر فكان أن تماثلا في الصوت والإلقاء وحتى في بعض الأفعال والحركات مما أضاع على الجمهور فرصة التقصي والتحديد المطلوب لكل فعل وإشتغال منفرد لديهما.
– لم يخالف المؤلف فيما يتعلق بشخصية الأب فقد كان كما في النص مرتبكا وغير حازم في تدبر ومعالجة الخراب الذي تناثر على رأسه من سقف البيت رغم تشبثه بصفة الأبوة ولكنها ابوة خاوية تمسكت بميراث التسلط والثبات والعقم في المبادرة والمحاولة..
وبمجمل ما رأيناه وشاهدنا فيمكن أن نوضح عما ترشح إلينا من هذا العرض :
– كان لفعل الإضاءة إثر مهيمن هو الآخر حين تواشجت بفعل فني من قبل الفنان ( عقيل عبد علي) مع زخات( الرمل/ الرماد) والماء وكأننا مع سقوط أمطار ولكن بصورة مثيرة وفيها من المغايرة – كان لفعل الفنان ( عقيل عبد علي) كبيرا ومضافا حين ساهم في إنشاء وتأثيث سينوغرافيا العرض ومكملات الديكور المسرحي ولنا أن نشيد بفعل (حسين الشيباني) بتنفيد دور الموسيقى وكذلك ( سجاد رحيم) في تنفيذ الديكور وصولا إلى ( أنس راهي) في إدارته المسرحية.
– يدفع هذا العرض بطاقات ادائية نجحت جسديا في إظهار حالة التأثير والإنهيار والتوهان من جراء ما حاق بهذا البيت من تصدعات مادية وروحية فكنا مع حضور وأداء واضح من قبل الممثلين ( منتظر سعدون ومصطفى الهلالي وبسام الإبراهيمي ومهند العميدي) ورغم الثقل الذي قام به الممثلان ( منتظر سعدون ومصطفى الهلالي) إلا أنهما كانا مؤثرين في مشاهد إتسمت بتعبيرية وشاعرية جميلة.
– لم يفلح المخرج مهند العميدي حين دخل ممثلا بشخصية الأب وبهذا الشكل الذي جعلنا وكأننا مع أداء لاينتمي إلى ما حفلت به مجريات ومخاضات عرضه الذي كان بليلة وقد أمطرت رملا ورمادا أزاح وزاحم بمرارة ما تحمله ذاكرتنا عن المطر وحالات زخاته وتساقطه.