مقبرة الموتى وقحط الاموات…مسرحية “مقبرة” للكاتب علي العبادي/ بقلم: د. طالب هاشم بدن
ضمن سلسلة نتاجات الكاتب الدرامي الساخر ( علي العبادي ) كتب مسرحية “مقبرة” التي جاءت مع سلسلة أطلق على تسميتها ( تفو) الصادرة في الجزائر الطبعة الاولى من عام 2020. والتي تعني البصق ؛ وهو لعاب يخرج من الفم يكون عند أوقات قهر الناس .
المقبرة تعني مكان دفن الاموات سواء بشكل فردي أو جماعي ،ذكرها الباري عز وجل في كتابه الكريم ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ) ، وكانت فيما مضى بعض الحضارات لها طقوس ومغالاة في تزيين مقابر شخصيات وملوك تراهم مرموقين ويجب الاحتفاء بمراسم في إقامة تلك الطقوس من أجل تمييزهم عن غيرهم من الاموات العاديين ، إذ نرى مقابر صنعها مثل المصريين لفراعنتهم ودفن آلهتهم ( توت عنخ آمون ، فرعون ، وغيرهم ) وما الاهرامات إلا خير شاخص عن تلك المقابر التي لا زالت موجودة في الجيزة بمصر.
يطل علينا الكاتب العراقي الكربلائي علي العبادي في مجموعته ( تفو) المثيرة للجدل بمسرحية من ثلاثة شخصيات حملت عنواناً بوهيمياً في عالم الادب والفنون خط بقلم أسود عريض بعنوان ( مقبرة ) وما حمله من معانٍ تثير المتلقي بوصفها مكاناً قلما يجد صداه في الاوساط الادبية بشكل عام . وعلى الرغم من أن المكان خاص بالموتى إلا إن كاتبنا جعله خالياً تماماً من جثث وقبور هؤلاء الموتى في بداية النص المسرحي ، واختار شخصياته الثلاثة من الدفانة الذين يقومون بحفر القبور وتهيئتها للقادم من الاموات ،جاءت على شكل تحول درامي وفكرة أشبه باللعبة من أجل بلورة الاحداث . ومثل هكذا مفارقة مهمة لم تحدث وهي سابقة في تناولها إذ إن من المتعارف عليه إن المقابر تعج بجثث وقبور متلاصقة وصار شراء وحجز أماكن الموتى في الحياة قبل الممات ، ذلك لكثرة الاموات وسرعة الموت في عالمنا الغرائبي الذي نعيش . والاغرب من ذلك هو إن القائمون على الدفن من الشخصيات الثلاثة هم أصلا غير مرئيين في الوهلة الاولى من إنطلاقة النص الدرامي ، ولا يسمع سوى صوتهم وهم في بحث مستمر عن ذواتهم وكل يخاطب الاخر بكلمة ( أين أنت ) وهي مرحلة من الضياع الذي ظل يطارد ظلهم ولا يفصح عن أجسادهم وهم المتخبطون في عوالم من وهم وخداع ، متخذين من فضاء المقبرة ملاذاً لهم بوصفهم مقبرة متجولة لا وجهة لهم ولا هدف مرجو من تجوالهم سوى البحث عن اللاشيء والتمسك باللاشيء ، كل يحمل في جعبته مشكلة يريد التخلص منها دون جدوى ، كيف ؟؟ لا يعلم .. فكل منهم محمل بكم هائل من الاحياء . أحياء موتى وموتى أحياء .. ثم يظهرون تدريجياً ليشكلوا صوراً تداخلت في عوالم متهرئة ضمت صمت مكبوت يحاول كل منهم أن يبتكر خطة للخلاص .إذ إن بتوقف الموت المفاجئ وكأن زمن الموت توقف ، تكون بداية اللعبة ينبري أحدهم ليقترح التخلص والخلاص عن طريق الضحك بلا جدوى ، ويمضي الاخر بمحاولته عن طريق البكاء لكن أيضاً لا يفلح وتبقى المشكلة عالقة ما بين الضحك والبكاء والافكار تتداخل والمشكلة نفس المشكلة التي لا حل لها وهي اللاشيء ، يحاول كل منهم معالجة المشكلة عن طريق المخاط من أجل التخلص مما علق في أنوفهم من أحياء وتبقى التجربة على الرغم من ضحالتها غير مجدية ، ربما ما أصابهم من قحط الموت واقبال الموتى الشحيح جعل من تلك المشكلة مشكلة بحد ذاتها . يحيلنا ذلك الاسلوب في كتابة مثل تلك النصوص العبثية إلى عالم ( صموئيل بكت ) الكاتب الايرلندي الذي جعل من( غودو) شخصية لا ولن تأت أبداً ، ويبقى كل من فلاديمير وإستراجونمنتظرين لا يملا الانتظار، ومسافرين في محطة لا يسلكها قطار ولا يأتي من انتظراه وظلت معضلة الانتظار شاخصة لا غودوقدم وانتهى الانتظار ولا قدم القطار . في إحالة واضحة أراد من خلالها (العبادي) تسليط الاضواءعلى عبثية المكان ولامعقولية المشكلة ، أين المشكلة ؟؟ وما هي ؟؟ وكيف لتلك المشكلة أن تحل ؟؟ كلها أسئلة شاخصة لا حل لها ما دامت لا توجد مشكلة وإن وجدت صارت مشكلة، فالمشكلة هي في التفكير والحل يكمن في نوع الحل وطريقة التعامل معه . وهل القائمون على الحل هم جزء من الحل أم أنهم المشكلة نفسها ..قضية جدلية باتت المانع الجامع للحل القائم على مشكلة لا حل لها سوى التفكير بإيجاد الحل . الحل يكمن في الموت والموت مغيب هو الاخر فلا جثث تأتي والخبز شحيح . ان الرابط ما بين العيش ورغيف الخبز هو الموت ، إن غاب الموت أنقطع رغيف الخبر عن حفاري القبور وهو السبيل إلى العيش ومصائب قوم عند قوم فوائد . لينبري دفان منهم يعلن أستمرار الدفن .. كيف ؟ بأعلانه عن موته ويقوم الباقون بدفنه وهي محاولة جادة في الاستمرار وبلوغ الصراع مراحل متقدمة في حبكة العمل الدرامي التي يريد بلورتها وصياغة حدث يتلاءم ومقتضيات صناعة النص الدرامي المبني على تنامي الصراع عبر شخصيات وضعها كاتبنا بعناية وتسلسل في بنيتها الدرامية مستثمراً طاقات شخوصه في تصاعد وتيرة العمل الفني . ربما الحل موجود تناوله كاتبنا في المضمر من النص والصريح من القول في حل طلسم المشكلة الماثلة في ( النقود) وهو ما يفصح عنه الدفانين عند قيامهما بدفن الدفان المتبرع بالموت ولا جدوى من موته بوصفه لا يملك نقوداً يمكن أن تحل المشكلة . يبدو أن كاتبنا ذهب إلى أبعاد أخرى فيها من التضحية والثروة الوطنية ما يؤشر إلى بعد سياسي غاب عن الاذهان ولم ينفع في مدركات وحواس العقل البشري وما تجلى عنه من ضياع وبخس للارواح وتقلبات الزمن الظالم سحق معه مئات بل آلاف الفقراء من أجل الثراء على حساب المعدومين من البشر التعساء ، وفي إنتقالة ملفتة للنظر يحاول كاتبنا إيجاد طريقة مغايرة شملت البحث عن حل للمشكلة في (القوادة) التي تعد مهنة تسهيل ممارسة الجنس بين أي أثنين ، ولتوفير البغايا أو العاملات لأجل عامل بالجنس ولفعل جنسي مع عميل والقواد هو وكيل للبغايا مقابل خدمات الدعاية والحماية للمشتري ، وتلك المهنة التي تدر أرباحاً خيالية لكنها تتخلى عن الشرف أعظم ما يمكن حمله وأطهر ما يتزيا به الفرد يظل ملاصقاً له حياً وميتاً .إلا إن مثل تلك المهنة لم تجد لها قبولاً عند الدفانين الاثنين الباقيين على الرغم من موافقتهما مسبقاً دون التعرف على نوع العمل ، فتعود الكرة مرة أخرى من أجل البحث عن عمل ؛ وفي كل طريقة مقدمة محاولة جادة في الكشف عن مرحلة من مراحل الصراع وبناء الحوادث التي من شأنها تصاعد وتيرة رتم العملية الابداعية في كتابة النص السردي على وفق هيكلية بنائية مغايرة يريد من خلالها كاتبنا الارتقاء بنصه الدرامي إلى القمم ، ومن ثم البحث عن هدف وغاية مفادها التطور وبلوغ الكمال في كتابة النص الادبي ضمن منهجية النصوص الدرامية المهمة ، وهو بحق أجاد في صف علاقات متبادلة بين المكان والحدث والشخصيات والصراع عبر سلسلة من التراكيب اللفظية واللغة المعدة في نحت ما يمكن نحته في نصه . وسرعان ما تتغير شخصية الدفان إلى شخصية قواد يحاول أن يكون مصلحاً ، ومن الغرابة إن شخصية القواد تأخذ صفة الاصلاح ، لربما نفد الشرف ولم يبق سوى قواد يقوم بالاصلاح وحاشيته تصفق من حوله وحينما يدرك الدفانين خطة القواد بإيقاظ الموتى يتسارع كل منهم بمعارضته خوفاً من كشف المستور ، إذ كل منهم له قصة في دفن الموتى ، فهذا دفن ميت بلا رأس وذاك دفن ميت بلا يد وكل أصابه رعب من المطالبة بما فعل من جرم بحق الموتى .. وتكمن في تلك المعالجة الدرامية مأساة أراد بها كاتبنا إظهار الجانب المظلم من عمل إجرامي ومهنة قذرة يمارسها الدفان بلا رحمة وهي سلسلة من الصراع مع النفس وضع دراميتها المؤلف من أجل إضفاء جمالية الحوادث وطريقة تناولها عبر جزئيات النص . بوصف أنتبادل الادوار واحلال الشخصية محل شخصية أخرى هي أحدى الطرائق التي اتبعها كاتبنا من اجل التخلص من رتابة الشخصيات والحوار وفي الوقت نفسه هي محاولة المغايرة والقفز في حركة الشخصية بين دورين يمكن تركيبهما على وفق نسق بنائي ذو بعد جمالي يمكن أن نطلق عليه بدراماتيكية النص المنطوق ، يوصلنا إلى العودة إلى الشخصية الرئيسة ( من القواد إلى الدفان ) . إذ تظل الافكار ومحاولات الكاتب تتلى من أجل التنوع في ديناميكية النص وهو القادر على صنع مفارقات جمالية تحيلنا إلى التوسع في مدركاتها الفكرية ، فتنطلق فكرة البحث عن عمل جديد قادر على حل شفرة التيه القابع على شخصياته ، يلجأ الدفانة إلى الدعاء من أجل خلاصهم من القحط القانط في معضلة الموت ، من أجل الموت يدعون ألله أن يزيد في عدد الاموات ، إلا أنهم لم يقوموا بالدعاء ، إذ يعاود المجموعة القرعة ويكون الدفان الاول نبياً من أجل الدعاء وتحقيقه وتبقى الامنيات غير المعلنة وغير المتحققة هاجس لا يمكن أن تناله أي شخصية من شخصيات المسرحية ويبدو أن استعانة الاحياء بالاموات فكرة طرقها الكاتب في إحالة أن الاحياء لا جدوى من اللجوء إليهم بوصفهم لا يمتلكون إرادة الحل ولا الرغبة في إتخاذ القرار وكأنهم أموات لا يقوون على صنع قرار أو تغيير الواقع وهي إشارة مهمة وواضحة على ان الاوضاع على الارض ليست كما هي تحت الارض وان الفارق في الناطق ما بين الارض وتحت الارض أطبق على نفسه ولم ينبص ببنت شفة بوصفه سكت عن ظلم ونام على غبن ولم يستطع تغيير الامر حتى بكلمة ، إذ غابت علامات الثورة وانقشع غبار الانقلابات وولى زمن الابطال فمات الناصر وقل المعين وكل في تلك الافلاك مهضوم مغلوب على أمره . أنحتاج إلى نبي ؟ وهل نتّبع خطوات المصلح ؟؟ وما الجدوى من التغيير إن لم نقم نحن بتغيير أنفسنا وإصلاح المعوج منها ؟؟؟ كل تلك الاسئلة تحتاج إلى منطوق واضح وإجابة يطرحها كاتبنا ضمناً في قراءة ما بين الكلمات ومعرفة سر الجدل الدائر ما بين الشخصيات ، فمراحل انتقال الشخصية وتقمصها دور القواد والنبي هي معالجة درامية يمكن أن تصنع هالة ويمكن أن تبني أملاً .. مجداً .. حرية .. الحرية في أطلاق الموتى .. الموتى ترفض أوامر الاحياء .. تعصي وتتمرد وتأبى أن تخرج للظلم وخلف القضبان أسراب من أحياء أموات .. وتستمر الدعوة إلى الاحتجاج ويجوب الدفانين بطلب من النبي تلك الشخصية المتحولة أن يوقظوا الموتى من أجل الاحتجاج والتظاهر في إنهاء القحط وتصل المسرحية إلى العقدة المتمثلة في توحيد الصف والاتفاق على يوم للاحتجاج على الرغم من الاستهزاء بالموتى وكشف طرائق دفنهم من قبل الدفانين ، غير إن نهاية المسرحية تأتي مغايرة بموت النبي بطلق ناري مجهول لا يعرف مصدره يخاطبه الدفان الثاني قائلاً ( أيه النبي أحتج الموت عليك ) وفي تلك الجملة يسدل الستار وتكون خاتمة المقبرة .