الذاكرةُ المُسْتَعادَةُ وخطابُ البوحِ المباشر قراءةٌ في عرضِ ( القمر الأخير) / جبّار ونّاس
تُعدُ الذاكرةُ المعينَ الذي سيرافقُ مَنْ يحاولون البحث أو النبش الذاهب بإتجاه تقليب صفحات التاريخ وتصفيته أو لِنَقُلْ غربلةَ ما فيها من أحداث ووقائعَ بغيةَ النطقِ أو التصريحِ بحدودِ ما تتمكن فيها الحقيقةُ من التجلي والوضوح بنصاعة ما هي عليه..
ولِأنَّ الذاكرة الجمعية وهي تحفلُ بعديد ما تختزنه من تفاصيل واحداث فقد صارت الأرضية التي يُنطلقُ منها عند الإحتكامِ إلى دقائقَ التبصرِ والمراجعةِ الحاذقةِ والتي تتوخى الوصولَ بأمانٍ الى مرافئ الأحداثِ والتاريخِ ومن ثم الخوض في تقليب تلك الأحداث وذاك التاريخ..
وتُعَدُّ هذه العمليةُ التنقيبيةُ والنابشةُ عن جذور التفاصيل الأولى من بطنِ التاريخ وما شهد ومايزال يشهدُ من تلاوينَ شتى ساهمتْ وماتزالُ تقفُ حائلاً كبيراً وشاخصاً في طريقِ تجلياتِ الحقيقةِ للوصولِ إلى منطقةٍ آمنةٍ يمكنُ من خلالها أن يحصلَ ثمة إستقرارٌ وإستقراءٌ يتظَلَلُ بالمنطق والهدوء حين يُصارُ إلى مرحلةِ كشفٍ تأخذُ فيها الحقيقةُ مساحتَها الواضحةَ وتحت ضوءٍ كثيف…
وفي ضوء هذا التوصيفِ الماثلِ آنفا يمكن أن نقرأ ونتبصرَ في العرض المسرحي ( القمر الأخير) المقدم من قبل نقابة الفنانين فرع النجف من تأليف ( دخيل العكايشي) وإخراج الفنان ( هيثم الرفيعي) ضمن مهرجان ينابيع الشهادة الوطني للمسرح بدورته الثامنة للمدة من الأول ولغاية الرابع من تشرين الأول 2021 في محافظة بابل وسط العراق..
بناء النص:
لايمكنُ إعتبارُ ما كتبه ( دخيل العكايشي) نصاً مسرحياـ كما هو متعارف في توفر شروط واساسيات بناء النص المسرحي التقليدي وحتى النص الذي يتوخى المغامرةَ والخروجَ بعيداً عن سماتِ التقليدية فهذا النص هو عبارة عن حالات أو ربما ترسيمات نصية متفرقة ولكنها ترتبط حول مضمون أو هدف يرادُ منه الخوضُ في حالاتٍ وهذه الحالات يمكن إظهارُها بأسلوبٍ تلعب اللغةُ فيه دوراً كبيراً في إبراز معالم ذلك الإسلوب.ولو دققنا فيما كتبه (العكايشي) فسيتضح لنا مدى إعتماد الكاتب على قابلية اللغة والمدارات التي تجمعت في بروز الإسلوب ويتضح أمامنا مدى إهتمام الكاتب في رصف حالاته بروح الشعر وإستثمار إسلوب الخطاب المباشر المتمثل بإستخدام أساليب الدعاء والأمر والنداء وكذلك في إسلوب الإستفهام الذي إكتظت به الحوارات أو مناطق البوح المباشر من على ألسنة الممثلين أو المؤدين فهذه الحوارات كُتبت وفق لغة عمادُها الشعرُ ولكنها لغةٌ تحوزُ على خصوصيةٍ بارزةٍ ذلك أنَّها يُراد منها أن تتواءم وذلك البوح المتسامي مع قدرة الأرواح الباحثة لها عن مناطق من التصور والتجلي النوراني وهذا ما كان يهدف إليه منتج النص حين جعل من حواراته لأن تحظى بخصوصية التميز عن باقي النصوص الأخرى الطامحة إلى التعبير بأساليب مبسطة وغير معنية في إحتضان روح الشعر.
أسلوب العرض :
لجأ المخرج الفنان ( هيثم الرفيعي) إلى إسلوب يتوخى البساطة وربما التقشف في التقديم حين حاول أن يستثمر ما وردت به تلك الحالات فوجدنا يوجه العرض نحو التداخل مع الجمهور وهو يجعل من شخصية ( على الأكبر) تدخل من باب القاعة لتشق طريقها من بين الجمهور وربطها مع أبيه الإمام الحسين الذي سمعناه بصوت الفنان ( مهدي سميسم) الذي نقل لنا بصوته كلمات الكاتب المصري ( عبدالرحمن الشرقاوي) من نص مسرحية ( الحسين شهيدا والحسين ثائرا ) وكذلك في نهاية العرض إذ يجعل من الكاتب الباحث عن الحقيقة يحمل عصا في طرفها ضوء ليسلك بالتعاقب مع على الأكبر نفس الطريق وكأنه يؤشر بعصاه وضوئه إلى أن طريقاً سيؤدي يمكن تسميتُه بطريق الإصلاح أو ربما في إشارة إلى طريق المشاية بإتجاه كربلاء
وفي هذا الإشتغال من قبل المخرج ربما نلمح مدى إستثماره لمنهج بريخت في طريقة العرض المسرحي فما ورد من بوح مباشر غايته التوصيل والتفاعل المباشر مع الجمهور لتكون غاية التوصيل هي المبتغاة والتي ستجد لها من التحقق بمساعدة تلك الطريقة المستثمرة من منهج وإسلوب بريخت..
وبالخوض مع ما نطقت به تمخضات ما اوجده المخرج ( هيثم الرفيعي) فيمكن أن نرى ما يلي :
– ميل المخرج إلى التبسيط في موجودات العرض فقد إعتمد على وجود ميز وكرسي وقماش أبيض أصبحت فيما بعد شاشة بيضاء نسمع من ورائها حوارات لمروان بن الحكم والوليد بن عتبه وهذه الحوارات جاءتنا عبر الصوت بعد أن عمد المخرج إلى عزل هاتين الشخصيتين وإقصائهما من فاعلية الظهور الجسدي أمام الجمهور وفي نهاية العرض تخرج( ليلى) أم علي الأكبر لتلقي حوارتها أمام الجمهور مباشرةً فيما الكرسي وميز الكتابة الذي يجلس عليه الكاتب كشخصية واقعية بملبسها اليومي والمعتاد تشكل بحضورها فعلا كاشفاً وباحثاً عن تفاصيل الحقيقة بين طياتِ الكتبِ وإستمراره على تمزيق الأوراق ورميها على جانب من جلوسه
– جميل فعل عامل النظافة حين قام بتنظيف وإزاحة ما تراكم من أوراق وفضلات ليكتشفَ بعدها جهاز الريمونت والتوجه إلى قطعة القماش المعلقة لتُصبح شاشة ناطقةً ويبدأ بعملية الكشف والوقوف على حقائق ووقائع جديدة ستكون مثار البحث والتقصي..
– وجدنا أن المخرج يميل إلى التعرية والسخرية حين شاهدنا أمامنا أوراق التنظيف التي تستخدم في الحمامات والمرافق الصحية في إشارة إلى الإستهزاء ببعض ما أورده التاريخ وكمية الزيف والتدليس التي رافقت احداثه
ـ وجدنا أن المخرج يعتمد على مقاطع من الموسيقى العالمية لتعزيز ما يتلاءم وتلك الأجواء الروحانية ومديات البوح المباشر
وكذلك رأيناه يعول على عنصر الإضاءة والأزياء الملائمة المصممة من قبل ( وجدان رحمن) وكذلك في تأثيث منظومة المكان والديكور من قبل ( مرتضى صباح)..
– إعتمد العرض على الأداء التمثيلي المشفوع بقابلية الإلقاء بالصوت كما الحال مع شخصية الحسين الغائبة جسديا والحاضرة بصوت الفنان ( مهدي سميسم) وكان إلقاءً مؤثراً وكذا الحال مع شخصية ( ليلى) وكانت بأداء الفنانة ( إبتهال سميسم) وقد أظهرت هي الأخرى مقدرة في التعبير الصوتي والإلقاء المعبر مباشرة فيه من الشجن والتأثير العاطفي الناتج من تمخضات فعل الأمومة فيما تكفل الفنان الواعد (محسن حيدر) بأداء شخصية علي الأكبر فأظهر لنا موهبة واعدة تضاف الى رصيد التمثيل المسرحي التي برزت في هذا المهرجان إستحق على أثرها أن ينال جائزة أفضل ممثل واعد..
وإذا ما أمكن أن يؤشر بالإيجاب لهذا العرض فلابد من التنويه بحالة الموازنة التي قام بها المخرج ( هيثم الرفيعي) حين وازن بواسطة الإشتغال البصري ما بين طغيان الفكرة ومباشرتها وتكرارها على مسار الذاكرة التي جاء بها باعث الحالات الشعرية حواريا ( دخيل العكايشي) وبين التشييد البصري لإنشاء نص عرض يعتمد اللون والإضاءة وتوزيع المفردات الصورية بشكل ناجح ساعد على تخفيف حدة المباشرة وإرتفاع منسوب العاطفة التي غلفت أغلب مفاصل العرض..
وكذلك يمكن الإشارة لخلو هذا العرض من الأخطاء اللغوية والنحوية على عكس عروض اخرى شهدها المهرجان سمعناها تعج بأخطاء فادحةٍ لغةً ونحواً ولابد من الوقوف عندها وتاشير فعلها السلبي على ترابية العرض المسرحي ومدى حضوره لدى الجمهور…