الخطابات النقيضة والهيمنة الثقافية / ا. د محمد كريم الساعدي

تنطلق فاعلية الخطاب النقيض في المسرح خارج العالم الغربي عند الشعوب التي خضعت للإستعمار وخطابه الكولونيالي، إذ كانت الاشتغالات على وفق هذا الخطاب تتمركز في تمظهراتها في تفنيد أساليب الهيمنة الثقافية التي مارستها الدول الغربية ، وكيفية بسط نفوذها في كافة المجالات ومنها الثقافية ، التي تأطرت بالخطاب الكولونيالي ، ومن هذه المسارح المناهضة ما ظهرت منها في آسيا ، وتناولت عدداً من المسرحيات المختلفة ، منها مسرحيات غربية أكدت فيها على الفعل الكولونيالي كما في مسرحية العاصفة التي قدمت في جزيرة (بالي ) في آسيا ، إذ  ركز العرض المسرحي على جعل البيض هم من يؤدون الشخصيات الكولونيالية في المسرحية ،مثل شخصية (كالبيان) ودوره الاستيطاني ، بينما جعلوا الخلفية للعمل تؤدى من خلال راقصين من الجزيرة نفسها ، مع اضافة عناصر ديكورية  وأزياء للجزيرة التي وقعت تحت الاستعمار الأبيض الغربي(1). وكذلك قدمت مسرحيات أخرى تناولت الخطاب النقيض في عروض أخرى ،كما في مسرحيات (ساندي لي تعيش في نوى دات) ، (مذكرات جنسية كافرة) وهاتان المسرحيتان يتناول فيها قضية مهمة في الخطاب الكولونيالي، الا وهو تأنيث آسيا مقابل ذكورية الغرب ، الذي يمثل دور السيد ودور القيادة ودور المهيمن على الساحة الثقافية وغيرها من المجالات العسكرية والاقتصادية ، فأن السيد هو من يملك الحق في تقرير المصير للشعوب الأخرى التي تقع تحت هيمنته ، كذلك فأن أحداث المسرحيتين تقع في آسيا ، وهنا تبرز أهمية العناوين في إن آسيا تحمل أسم الانثى الكافرة ذات الغريزة الجنسية غير المسيطر عليها إلا من قبل الرجل الغربي ، فكلا المسرحيتان تبحثان في تجارة الجنس ، وخصوصاً في الشرق وإرساله الى أوربا وامريكا الإشباع الغريزة عند الرجل الابيض المتحكم(2).

أما في افريقيا ، فقد ظهر خطاب نقيض ضد الخطاب المهيمن في عدد من الحركات المسرحية ومنها (الحركة الزنجية) ، أو التي أطلق عليها اسم (الزنوجة) ، إذ نادى أصحاب هذه الحركة الى الدعوى بالعودة الى التراث الافريقي ، وتخليصه من الثقافة الطارئة عليه من قبل الغرب ، ودعا كل من (ايميه سيزار و سنغور) الى بداية جديدة للنهضة الثقافية الزنجية في افريقيا قائمة على بناء ثقافة افريقية يكون فيها التراث الافريقي هو الأصل ، ومن خلال هذه الدعوة قدمت اعمال مسرحية عديدة في هذا المجال، ومنها (الناسك الاسود) للكاتب الافريقي (نغوجي) ، ومسرحية (الموت وفارس الملك) للكاتب (وولسينكا) ، وغيرهما ، إذ تناولت هاتان المسرحيتان عند تقديمهما في مناسبات افريقية مرتبطة بالاحتفالات الخاصة بأعياد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي ، جوانب النضال ضد الاستعمار والتضحية التي قدمتها الشعوب الافريقية ، تخللت عروضهما المسرحية توظيف  التراث الافريقي من الطقوس والرقص المصاحب لمشاهد النصر على الاستعمار ، كذلك جاءت عملية توظيف التراث للحث على نبذ الثقافة الغربية ، التي حاول المقاومون لها تبرير كونها كانت مفروضة على الشعوب الافريقية أبان الاستعمار الغربي(3).

أمَّا في الوطن العربي فقد كانت عملية تشكيل الخطاب النقيض وفاعليته تتمركز في محورين ، الاول يركز على القضايا القومية ومقاومة الاستعمار البريطاني والفرنسي للبلاد العربية ، وكذلك للأستيطان الصهيوني لفلسطين وأرضها التي وقعت بيد الاستعمار البريطاني، والذي اهداها الى الصهاينة في وعد (بلفور)، الذي أباحها لليهود من اجل تشكيل دولتهم المزعومة . ففي الجانب الاول قدمت أعمال مسرحية عديدة منها  للكاتب المسرحي الجزائري (كاتب ياسين ) ومن أبرز مسرحياته ضد الاستعمار الفرنسي ، والتي تعرضت للمنع بسبب موقفها من هذا الاستعمار مسرحية (دائرة الانتقام) ومسرحية (انتصار البرابرة) للكاتب المغربي (عبد الخالق طريس) ، كذلك قدمت في مصر للكاتب (عبد الرحمن الشرقاوي) مسرحية (وطني عكا) ، وفي الشام قدم (محمد الماغوط) مسرحية (صقر قريش)، وهذه المسرحيات وغيرها كانت تنادي بالتذكير بمواجهة الاستعمار والاحتلالات لبلدان الوطن العربي، والعودة الى التراث والتاريخ العربي والاسلامي، الزاخر بالانتصارات، واستلهام هذه الانتصارات وتوجيهها ضد المحتل. كما قدم فيالجانب الثاني الذي يخص القضية الفلسطينية أعمال مسرحية عديدة ومنها مسرحية (لن تسقط القدس) للمؤلف (شريف الشوباشي) ومسرحية (الباب) للمؤلف (غسان كنفاني) ومسرحية (حفات سمر من تجل 5 حزيران) للمؤلف (سعد الله ونوس)، وهذه المسرحيات وغيرها ناقشت الخطاب الصهيوني الذي أصبح من المهيمنات على السياسة العربية في فترة قوته المدعومة من الغرب. إنَّ الأساليب الاخراجية لهذه المسرحيات  يرى فيها (سعد أردش) على وفق الخطاب النقيض ، ارتبطت بثلاثة امور مهمة وهي( الدعوة الى الارتباط بقضايا الامة المصيرية، والتأكيد على المسرح السياسي الملتزم بالأمور الواقعية التي تخاطب ضمير أبناء الأمة العربية، والعمل الجماعي المشترك بين التأليف والاخراج وعناصر العرض الاخرى )(4).

أمَّا في المحور الثاني الذي تميز بالبحث عن قالب مسرحي عربي اسلامي خالص ، فقد عمل عدد من المخرجين العرب على إيجاد خطاب نقيض تكمن فاعليته في البحث عن اسلوب مسرحي مغاير للمسرح الغربي، وبالتالي الى إيجاد مجال ثقافي جديد في العرض المسرحي غير مسرح العلبة وأساليب المسرح الغربي، فقد برز عدد من الأساليب المسرحية ومنها (الحكواتي) و (السامر) و(الاحتفالي) ، وهذه الأساليب أخذت واقعها في التعبير المسرحي والدعوة الى تغيير عددٍ من الدول العربية ومنها دول المغرب العربي ومصر وسوريا ولبنان والعراق ، وكانت هذه دعوة الى تأصيل المسرح العربي في الضد من الخطاب الثقافي الغربي ، وادواته ومنها المسرح ،” أن الدعوة الى صيغة مسرحية عربية كانت قرينة الدعوة الى صياغة مشروع نهضوي يستند الى الخصوصية التاريخية وحدها ، وارتبطت بالتالي بالرغبة في الانفلات من التبعية الثقافية والفنية للغرب”(5). لكن هذه الدعوة رغم إنَّها لم تأخذ استمراريتها بشكل كبير على الواقع المسرحي ، لكنها تعد محاولة جادة في مقاومة الخطاب الثقافي الكولونيالي الغربي في الساحة الثقافية العربية .

إنَّ تبلور فعل الخطاب النقيض في فاعليته في خط المواجهة بالضد من الخطاب المهيمن وهو الخطاب الكولونيالي ، على اعتبار ان الخطاب النقيض بفاعليته يندرج كأشتغال ثقافي معرفي تحت دائرة الخطاب ما بعد الكولونيالي ، الذي يبحث في آثار الكولونيالية وما خلفتها في ثقافات الشعوب. وتتجه فاعلية الخطاب النقيض الى البحث في مفاهيم افرزتها العقلية الغربية ومنها مفهوم غربنة الثقافة المحلية ، ومفهوم شعوب بلا تاريخ الذي وسمت به الحضارات الأخرى التي وقعت تحت الاستعمار ومنها الاستعمار الثقافي.

إنَّ فاعلية الخطاب النقيض اشتغل في مجالات البحث المختلفة، منها البحث في التاريخ الكولونيالي وكذلك البحث في مفهوم الاستشراق ، وكذلك في مفهوم التابع ومفهوم التأصيل الثقافي والبحث في الهجنة الثقافية ، وكل هذه الاجراءات هدفها كشف مهيمنات الخطاب الغربي على الثقافات المحلية ، مما اوجدت هذه الاشتغالات فاعلية الخطاب النقيض في الساحة الثقافية المحلية بالضد من الخطاب الغربي الكولونيالي، لذلك يعد المسرح أداة من أدوات الخطاب النقيض من خلال ما يمتلكه من اشتغالات تدخل في فاعلية الخطاب النقيض في الثقافات المحلية للشعوب التي وقعت تحت الاستعمار ،أو حتى في داخل الثقافة الغربية إنَّ فاعلية الخطاب النقيض في المسرح تشتغل بحسب مواجهة الخطاب المهيمن سواء كانت في داخل الخطاب الكولونيالي أم في خارجه ، والجانب الثاني ركز على نقاط مهمة ومنها: مواجهة الخطاب المهيمن على مستوى الثقافة المحلية ، او على مستوى المواجهة مع الاحتلال العسكري أو الاستيطاني ، أو مع ايجاد ثقافة بديلة للأدوات الثقافية لمهيمنة ، أو حتى استخدام الأساليب التي أوجدها الاستعمار في مواجهته ثقافياً.

 

الهوامش:

1/ ينظر: جيلبرت ، هيلين وجوان توميكينز ، الدراما ما بعد الكولونيالية ، النظرية والممارسة ، ترجمة : سامح فكري ، القاهرة ، مطابع المجلس الأعلى للآثار ، 2000. ص39،ص40

2/ ينظر: نفسه ، ص375ـص403.

3/ ينظر: واثيونغو،نغوجي: تصفية استعمار العقل، ترجمة: سعدي يوسف، دمشق: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر،2011، ص83ـ ص86.

4/ ينظر: اردش ، سعد : المخرج في المسرح المعاصر ، الكويت ، عالم المعرفة ، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 1979،ص347.

5/ نسيم،محمود: المسرح العربي والبحث عن الشكل (قراءة للعقل التنظيري) ،القاهرة: مجلة فصول للنقد الادبي،المجلد الرابع عشر، العدد الاول، تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995،ص72.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت