مسرحية: ” ميت مات”….ثنائية الموت والانتظار / جاسم الصافي
لا شيء يشغل المسرح غير الفراغ ورجلين يجلسان كلا منهما على مصطبة في تناظر غريب يبدو عليهما البؤس ،فضاء المسرح يفتقر لأي مفردة وكأنه إعلان طوارئ لافتقار العالم، تلك لحظة الاستهلال لمسرحية الميت مات، وأول تحرك للنص يبدأ في محاولة غودو بالكلام:
-هل أيقظتني انت؟
-لا أعرفك…
سؤال يصف حالة إدراك الوجود من خلال الأخر الذي لا يبتعد عنه سوى إقدام قبل ان ندرك الكينونة وبعد تعثر في النطق يتكشف لنا نسق تناظري في الحوار وكأنه صدى يتردد في وادي الذات حول سؤال يتأرجح بين الشك واليقين لمفهوم الانتظار، جدل قائم بين الجزئي والكلي والمجرد للوصول الى ذروة الصراع، وهي تفصح عن رؤية مشتركة للعالم.
ولان النص لم يأتِ في بنية مغلقة او مستقلة عن سياقاته الخارجية حدد لها الكاتب قصديه من خلال التضاد الذي يثور المتلقي باستفزاز الذات وحثها على التمرد ومع تزايد حجم المتناقضات التي لا تترك مجالا للذات في الاستقرار فالمواصلة في توجيه سلطة تركيبية للنص بلغة حيوية تغازل الذات بالمنطق والوجداني يعطي دلائل متعددة تبدأ بأشواق ولهفة الانتظار ولا تنتهي بحالة التمرد ومحاولة الانقلاب على ذاك المعتقد الذي لا يحدد بجغرافية، هذا ما يحتاج منا الى تفسير سيسيولوجي لردود فعل السلوك البشري بتعداداته الثقافية والسياسية والنفسية، وبشرقه وغربه والتي تحتِّم على المتلقي إقامة توازن ما بين الذات والعالم الخارجي، وتكون مجمل التفاصيل الخارجية مساعدة في تفسير العمل وإعطاءه فهم وإجابة لما يحصل بين الانا والهو وبين الذات والمواقف اللذان في تغير دائم حسب الظروف والدوافع وهذا ما يعود بنا الى نقطة البداية لإعلان حالة طوارئ أخرى وتقيم الموقف من جديد من السكونية التزامنية الى الدينامية التتابعية وهذا لا يتم الا بملاحظة البنية الذهنية أي ( الايدلوجيا ) لتتحقق الوحدة التوليدية بين الشكل والمضمون بين القيمة والواقع بين الفهم والتفسير بين الغائية والحتمية بين الإله الخفي والإنسان الممتحن وأخيرا بين الانتظار والموت، وهنا يأتي سؤال هجلي متكرر، هل يمكن للفن ان يجيب عن تلك الحيرة ويجسد الفكر على المسرح كتعبير حسي من خلال شخصيتين متناظرتين بالعجز والانتظار؟! من دون أن يُبدر منهما إي فعلٍ حسيٍّ سوى كلام وتفلسف لا يتوقف، ثرثرة تُعري أمامنا الخيبات وتكشف لنا عن رائحة قديمة تُزكم الأنوف لتراث عفن وتاريخ زائف، ان ثبات المشهد النصي يعطي دلالة للحركة العمودي وعمق يعتصر النسق بمعاني مختلفة وقد وظفها المخرج بحالة عجز المنتظرين على مصطبتين فقط دون تحقيق للوهم الأفقية المرتقب من المتلقي.
هل يمكن للكاتب ان يجمع بين لغة الأدب واللغة اليومية في حوار تصارعي يرفض التصالح، حوار يؤكد على التضاد في البنيان اللغوي والشكلي ويعد الفخاخ لطمع المتلقي في تقبل الصفعات وجلد الذات دون أي حرج؟ وهل كانت تلك اللغة كافية لتُمرغ أنوفنا بالواقع؟ حتى يزيد المخرج فيها من احتمالية جديدة بتدلي ستار ابيض يمتد من الواقع (المصطبة ) إلى السماء (أعلى المسرح) ويخبرنا عن إسهام الأقدار في تدبير ما يحدث، ان هذه الصورة قد أعطت تبريرية لتمرد الأدنى على الأعلى من خلال دلالة الستار الممتد من المصطبة نحو السماء وهو تأكيد على تأويل المعنى وإسقاطه على منطقة بعيدة عن الكاتب والاهتمام بما يتضمنه النسق الداخلي من ثنائيات متضادة وعلاقة البنى اللغوية لتوليد معنى ودلالة من داخل النص مروراً بالمفردة الإخراجية، بل ويترك حضورها طوال العرض ليؤكد انها علامة موجودة في كلٍّ منا كطريق معبد نحو الله الا اننا لا نراه بسبب الحُجب الدنيوية.
أنها (هيجلية ) مأزومة بالحاضر الشعبوي المُربك بعبثية بيكيت وغثيان سارتر وفقر مسرح غروتوفسكي وتمرد كامو، انه قلقٌ مغمسٌ بسخرية بؤس ديستوفسكي: (الخبز.. ستظل روحه يابسة). إن رحيق تلك الأفكار جميل لكنها قاسية! فالعرض يبدأ وينتهي بهدوء مقلق أمام سياط من الأسئلة المتنامية والمتلاحقة بلا رحمة.. بكلمات مكثفة تحمل طاقة شعرية وكأن هدف هذا الهدوء رهان الممثلين قبل المخرج على الجهد التعبيري، وعقم الحركة ما هو الاّ لتخفيف صدمة المتلقي الذي كان يترقب حركة أفقية على خشبة المسرح كما هو معتاد، لكن الزيدي غامر بعدم تشتيت الانتباه عن الغاية من كل هذا الانتظار الطويل (وهل هو وهمٌ صنعته السلطات الدكتاتورية؟) لسحق أحلامنا المكبلة بخديعة التاريخ، هل هذا الانتظار هو إلزاميٌّ حتمي ومن دونه تحلُّ على الوعي الإنساني كارثة فراغ الوجود وفقد الإيمان؟ لقد أوقفنا الكاتب أمام معادلة صعبة لكنه أجاب عن بعضها فلا وجود للانتظار بلا (منتظِر ومنتظَر) اذ لا يمكن التخلي عن إحداهما، مع ان هناك استحالة في جمع النقيضين في ذات واحدة.. الا ان الزيدي جمعهما وكأنه يعطي لنا درسا لفهم ان ملازمة الانتظار في الانسان يؤجل أي فعل لمحاولة الخروج من المشكلة ومع الزمن يعطي هذا الانتظار طاقة سلبية مع سببية تبريرية للاقتراب من مفهوم الموت الذي يشترك في السكونية وعدم ردود الفعل المقترن في الانتظار لتتساوى المقدمة مع النتائج ويساوى الانتظار مع الموت وأخيرا البداية مع النهاية ،فوجود احتمالية منتظر وهمي خارق القوى، يتسلسل مع أفكارنا من جيل الى جيل بمعجزات مبتكرة مع حجم الجهل الذي يزداد فينا، إمام منتظرٌ مقترح يخترق الوعي ليدجِّن الذات أمام السلطة، هذه الثنائية الفلسفية لم تكن فقط في انشطار الشخصيتين بين منتظِر ومنتظَر بل انعكس هذا الفعل أيضا في حوارات متعمدة، يستخدم فيها محاور ثنائية الرمز، مثال على ذلك أدوات المنتظرين غاية في القِدم بينما نجد أدوات (عامل الخدمة في المتحف) حديثة وينعدم بين هذين العالمين أي اتصال.. هذا ما يثبته لنا (الممثل تحسين داحس) الذي يؤدي دور عامل النظافة داخل المتحف في دخولات متقنة.. إذ ينسى الممسحة (قطعة القماش) فوق رأس شخصية مولاي ويجلس ويدخن ويغني بلا اهتمام لحضور المنتظرين، بل يتعامل معهما بعنف وكأنهما دمى لا تحس ولا تشعر، اما أدواته هي ( الدريل- الذي يثبت الرموز الآيلة للسقوط، والباور المفتاخ- الذي يغربل التراب بين الحين والحين، والمكنسة الكهربائية التي تنظف الأرضية من أقدام الوافد التاريخي وتستخدم بالأخير لكنس التمثالين أصلاً) في حين ان أهم رمزية تعامل بهما المنتظِران هما باقة الورود و(السيف الذي لم نره) وهي إشارة لطابع الانزياح الفكري بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وان التراث والحداثة بعيدتان عن بعضهما بل لا يبالي أحدهما بالأخر وهذا الفعل انعكاس للصورة على الواقع. العرض يخبرنا عن ثنائية الاغتراب في الذات والتغريب أمام تراث الأخر، صراع بين الأنا والهو داخل هذا الوجود القسري وهما محوران يدوران في فلك الانتظارين داخل الذات وداخل الوجود، هو إيمان الكاتب بثنائية الخير والشر والموت والانتظار كمصدر واحد ويؤكد على ذلك في العنوان، اذ وجد الكاتب حيلة اختزل فيها ثيمة العمل وتحايل بمفارقة اللغة على المعنى المتقاطع في الأضداد(ميت مات) فالانتظار هو موتٌ موجلٌ يقتل الأحلام.. لذا يؤكد على ان المنتظر هو موت بالأساس فترك الزيدي المتلقي يفهم الأمر بطريقته الخاصة.
إن ثنائية الأفكار والأشياء قصديه فكرية هيجلية، أنتجت لنا انتظار متوازٍ مع الموت الذي يمتد طوال العرض بل وينتهي به، بعد ان قرر كلا المنتظَرين الموت وترك المنتظِرين بلا مخلص، إننا بحق وجدنا مُخرجا مُدركا ينصف العمل بعد ان شذَّب المشهد عن المبالغة الإخراجية لينقلنا الى المسرح الفقير الذي يعتمد التمثيل في تحوّلاتٍ نفسانية وايدلوجية. لقد أقحم الكاتب القراءة النصية بقراءة إخراجية أعمق وضيّق علينا بقعة الحركة مع كسر الترقب الذي في داخل المنتظر الآخر، وهي خيبة تضاف إلى خيبات الحاضر، لقد جاء العمل برسائل فكرية مغايرة لكل ما هو مألوف، وكأنه يقول ما قاله بيكيت (لا شيء مثير للضحك والسخرية أفضل من البؤس) كان في العمل كل شيء ملتبس ومبهم بل قابل لان يفقِّس احتمالات أكثر وأكثر…
فالحروب تأتي ببيئة ثقافية تنهال بالنقد والانتقاد لكل شيء مما يحوجها الى انتزاع منهج جمعي يؤطر بمرجعيات تبريرية تلاؤم تكفير الثابت عسى ان تتخطى تلك المحنه وهو ما يحدث فوضى كلما زاد الغموض فيها زاد البحث عن الوضوح وهي فوضى تحفز في داخلنا الانتظام.
لقد كسرت مغامرة الزيدي قالب التقليد النمطي في التمثيل الذي اعتاد الاعتماد على الحركة في فضاءات خشبات المسارح حيث تتيح للممثل حرية في التمثيل والتقبل وتجاوز عين الرقيب، لكن الزيدي حال دون ذلك ووفَّر للممثلين الرائعين تلك الفرصة، بل تركهما في هذيان وثرثرة بحوارات وصلوات صوفية مختزلة للحدث ومكثِّفة للمعنى في بيئة مشهدية خارجة من الحس فاكتفت ببقعة الأداء الصوتي ببلاغته، أي أنها كشوفات عن جمالية الممثل الحقيقي إلا أن التقليد والثبات والنمطية متغلغل في لجنة الحكم التي (عاقبت) المبدعين محسن خزعل ومخلد جاسم لتمردهما على التقليدي المقدس رغم إنهما أجادا دوريهما حتى أخر نفس!! وهما يؤديان أصعب دور حتى أصاب قاعة مسرح الرافدين خرس محزن أمام عزاء إنساني رفع في وجه الرأي الأخر المداس، إنها ثرثرة لا يُوقفها صمت.. يعلنان فيها حقيقة مرّة من إنهما منتظَر ومنتظِر في نفس الوقت ذلك الوقت الذي لا يعلمانه لأنه مات في انتظار طويل، إنهما نقلا صراع الوجود إلى صراع الذات…إن ما أرده الزيدي هو الوقوف بوجه الحروب وعبثية المكان والزمان والالتفات لصراع داخلي يمكن أن يحطّم صنمية الثابت.
لقد نجح الكاتب بالمزاوجة في رؤياه بين السياق الخارجي لمفهوم الانتظار والموت وهي فلسفة انطولوجيه وبين النسق الداخل في بنية الحوارات مثل الثورية والاستسلام والتمرد واليأس وهي سيكولوجية الذات تناقض متداخل تكون القهر الطبيعي واستدعاءه من الواقع المرير فنجد غودو ومولاي في وعي سلبي آني يدرك المشكلة ولكن لا يملك القدرة على حلها رغم انهما طوال العرض كانا في وعي امكاني يدرك المشكلة ويمتلك امكانية تغيرها الا انهما تخليا وفضلا النوم مرة أخرى وهذه المحاولة ليست سوداوية بل رحمة.. فكما يقول شكسبير اقسو لأكون رحيما، وهي محاولة من الزيدي لاستفزاز المتلقي كما انها محاولة فنية في ترك شرف المحاولة ان يجد نهاية خارج خشبة المسرح ، وهذا منهج توليدي عند لوسين كولدمان الذي يمزج بين النسق البنيوي وانعكاس السياق اي بين الفهم والتفسير ويحدد وعيين هما الفعلي والممكن والتي تحتاج الى رويا تربط هذه الاواصر بالواقع.
ان مسرحية ( الميت مات ) كانت بحق تفريخ للدلالة وتشظي للمعاني وتكثيف للمتناقضات لدرجة انها تقذفنا نحو الهامش الى سياق المتن الاجتماعي والتاريخي وقصديات المؤلف حيث تتفلسف جوانية النص وعذوبة اللغة هو إبحار داخل المعنى ،ومغامرة عبر طلاسم الأحجية في بيان الزمن المتأرجح بين الموت والانتظار بإجرائية قيصرية بعد عسر في اكتشاف الوجود الذي تخشب على المصاطب.
الانتظار يتلف الأشياء ويوقف الزمن ويستملك الإنسان، شكراً لساحر العراق بريخت العرب بهذه التراجيديا الساخرة والتي تحرّض على الاحتجاج والتمرد وتعرّي مأساتنا وورطتنا في هذا الوجود، شكرا لأجمل تمثالين(محسن خزعل ومخلد جاسم) فقد صدقت ثرثرتكما البليغة، شكرا للممثل (تحسين داحس) وهو يتألق في أدائه، وللموسيقي الصوفية الجميلة لـ (ناظم حسين) محبتي لهذا الفريق الكبير.