ملامح النّسويّة الراديكالية إزاء الإنتاج البطريركي في عرض مسرحية “انا وجهي” للدكتورة عواطف نعيم / م.م.حيدر علي الاسدي (البصرة)

قدم المركز الثقافي في جامعة البصرة العرض المسرحي ” انا وجهي” مساء اليوم الثلاثاء 2/15/ 2022 من تأليف الفنانة الدكتورة عواطف نعيم وتمثيل الفنانة والدكتورة شذى سالم ، والفنانة سمر محمد ، والفنانة شيماء جعفر ، وسينوغرافيا العرض الفنان الدكتور علي السوداني،

ويفتتح العرض على امراة جالسة على كرسي متحرك ( ترتدي السواد بالكامل) وأخرى متحجرة في مكانها ، خزانة معلقة عليها ملابس بالوان مختلفة ، وتتصدر وسط المسرح الفنانة شذى سالم وهي تحاول ان (تتحدث) لكن ثمة ما يخنقها ويحبس كلماتها ، وهذا مفتتح اشاري وعتبة دالة على (كم الصرخات) النسوية التي ضمها هذا العرض المسرحي فهو (جملة لصرخات نسوية مكبوتة) ، ابتداء من فكرة النص وصولاً الى الممثلات والمخرجة معاً ، تأزرن في اطار جمالي ايقوني ليشكلن خطاباً انتقادياً موجهاً الى الاخر عبر التحولات التي جرت طيلة العرض، ليشكلن بهذا الخطاب الثلاثي (نص، تمثيل، اخراج) صرخة احتجاج واحدة ضد الهيمنة البطريركية ، وهي تذكرنا في السبعينات حينما عرضن النساء من خلال مسرح الشارع احتجاجاتهم المجسدة ضد الثقافات المهيمنة للأنوثة آنذاك ( سابقا= مسابقة ملكة جمال العالم ، حاليا= تسليع المراة في الميديا)، وهذا ما سياتي ضمن رسائل العرض ،

لا يتوفر وصف.

فقد استطاعت المؤلفة وبخبرتها المسرحية الكبيرة ان تنتقل بالنص ورسائله من متغير لاخر دون ان يشعر المتلقي بهذا ، قاد هذا التجسيد على الخشبة فنانة كبيرة مثل ( شذى سالم) والتي تماهت مع متغيرات النص وتنقلاته عبر تنوع الخطاب او ايقاعه الذي يتجسد احياناً إزاء الذات واحيانا أخرى إزاء (الموضوع) العالم بتمظهراته البطريركية كافة ، ذلك ان النسوية الراديكالية تنطلق من ((الأيمان بان المجتمع البطريركي هو كل سبب لأشكال قمع المرأة وقهرها))(1) وهو ما تضمنه هذا العرض المسرحي ، كما ان الخطابية في هذا النص وان كانت بعض الأحيان مباشرة فهو من ضمن متبنيات المؤلفة (لصرخة الاحتجاج التي اطلقتها في ثنايا هذا العرض) ولم تكن من الهنات في هذا العرض بالمرة ، بل قصدية واضحة جسدتها الفنانة شذى سالم وهي تلقى حوارياتها عند مقدمة وسط المسرح بطريقة صرخة إيقاظية تنويرية (لإيصال الرسالة) يكفي انها لمحت وأشارت الى العديد من المفاهيم في موضوع المراة خلال العرض وكانت تحتاج في احايين أخرى لغة الخطاب لتبث مدلولها القصدي دون ان تشتبك الدلالة لدى المتلقي ودون ان تشتبك الدلالة مع الثيمة الأساس لهذا العرض المسرحي حتى وان تفرعت تفصيلاته، كما اشتغلت المخرجة على (إيقاع المفردة وجماليات التكرار) ليس بمنحى جمالي لغوي صرف وانما بايقاع جمال عياني يأخذ من انفعالات الشخصيات المسرحية بؤر للتعبير مثل ( زهايمر ، دم دم…القتل…الوضوح…من دم الى دم) فاجترت المؤلفة مثل هذه المفردات لتوكيدها في ذاكرة المتلقي وهو يشاهد مبثوثات العرض ماثلة امامه لعرض قضية حساسة بالنسبة لنا كمجتمع شرقي ، في مجمع تلك الايقاعات المنفردة للمفردات ستتشكل لديك بنى (قهرية) تجابه بها المراة من المجتمع البطريركي كما قدمته لنا المؤلفة في هذا العرض ((زولي ايتها البقعة…وغيرها)) ، كما اتسعت رقعة المفردة المتشكلة ضمن رسائل النسوية في هذا العرض ضمن حوارات الشخصية الرئيسة (شذى سالم) وتشظياتها او صورها الأخرى (ولاسيما صورتها السيئة او السلبية-الأفكار المتمردة) (( ماذا بوسعك ان تفعلين وانت لا تذكرين….انا اخلط بيني وبين أولئك النسوة الماكرات…اقتل من؟ انهن مجرد وهم….اتلبسه الوهم كالثياب …..كيف اعرف وجهي من تلك الوجوه…))

لا يتوفر وصف.

يمكن ملاحظة جل ما تعانيه المراة من النظام الابوي في هذه الحواريات المقتطفة من العرض المسرحي ، حتى محاولة (تسليع) المراة فهي محاولة بائسة لسحق انوثتها وسحق (حقيقتها) وهذا ما يمكن ملاحظته في مشاهد تبادل وضع الماكياج لبعض بين شذى وشيماء ، وعرض شذى لوجهها الجديد ( الممكيج) الذي حل بدلاً عن وجهها البريء الاصلي، وهو انتقاد لمجانية تسليع المراة لكيانها في ظل المجتمع الابوي وتصديرها في الميديا والاعلانات التجارية كسلعة (للعرض والابهار) وهنا الشخصية كانت بين نزاع (ذاتها) للخلاص من هذا الجانب السيء في داخلها ، ((انا الطيبة معدني …تلك المراة شريرة قاتلة …تلك يد لم تطهرها كل العطور العربية…هذا وجهي انا اما هي فوجهها قاسي …..وجهي رقيق وحالم وشفيف….كفي ايتها الأفكار المتمردة) وهنا تكمن دلالة التجسيد لهذه الأفكار عبر تشظي صورتها الأخرى ( شيماء جعفر) والتبادل الذي يجري بينهما على خشبة المسرح يتسق تماماً مع تلك النقلات الفكرية في حواريتهما ، وليس انتهاء بصرخة المراة إزاء النظام الابوي المهيمن والمتمثل بصرختهما معا (تفوووو) بعد ان (فقدت طفليها) قسراً ، لتستقر في الانفرادية ويتخلص هو منهم جميعا لكي ينعم (بزوجة ثانية)، وكأن المؤلفة والمخرجة في هذا العرض تستعرض لنا ماساة المراة العراقية بوصفها (مقهورة) ( شذى سالم : الكثير من البؤس والاسى) برفقة حركات (لطم) وهو المشهد الذي يمكن تأشيره ضمن تحولات أداء الممثلة وفقاً للفكرة وبطريقة اكثر من رائعة دون ان تشعر حتى، وهذا بفضل الخبرة الادائية الكبيرة لشذى سالم ، الباحثة عن ( وجه اخر …..فقد تعددت وجوهها) واجبرها ان تنصاع لمشهد الدفن فالمراة العراقية من فرط قهرها واستلاب حياتها وسعادتها فهي من أشرفت على دفن (ابيها، أمها ، اخيها) في ثباتها ازاء مأساة الحروب والحياة، وهذا (الدفن) عند الطاغية ذنب وجراة وهو إحالة لاقدم صرخة نسوية في وجه الدكتاتورية وهو قرار انتجونه بان تدفع اخيها بولينس رغما على انف الحاكم كريون، لتكمل صرختها النسوية (شذى سالم :بلاء وغباء ان أكون دمية ، روبوت…وجهي هو قراري) (سنحطم كل أوجه النسوة الساحرات =دلالة انتقادية للوجه الممكيج بقناع لا يمثل المراة او الوجه الراضخ للإرادة البطريركية) ولم تكتف المؤلفة بعرض هذا القهر واستلاب إزاء المراة ولكن انتقلت به من الخاص الى العام عبر الدلالة السياسية للقهر ، او تسليع المراة حتى على مستوى البنية الاجتماعية لهذا الاستلاب لجوهر المراة : (يامن سرقتم مني اناي …تركتوني صدى لاصواتكم…اواجهكم بلا خوف ولا تردد) وهي صرخة الختام التي تأزرت مع ارتدائها للون الأبيض ودلالاتها التي تشيء بعودة المراة (لحقيقتها) ونقائها الأول (دون تصنع او وجوه مصطنعة) لتعبر بنا المخرجة وعبر (الشاشة الكبيرة التي رافقت العرض) لساحة التحرير ليكون للمراة صوتاً حقيقياً يواجه الديكتاتورية بلا خوف ولا تردد  وهو ما تميل له النسوية الراديكالية للتركيز على التغيير الثقافي الذي يسعى هو الاخر لتقويض السلطة الابوية وما يرتبط بها من هياكل هرمية ، اذ ان ((الايدلوجية الابوية عبارة عن تصورات خاطئة تستخدم سياسيا ضد المراة التي تتحول الى ضحية لها))(2).

لا يتوفر وصف.

ناهيك عن فضاء الألوان التي وظفتها المخرجة بمساعدة السينوغرافي المميز علي السوداني ، لتبث مدلولاتها عبر التصور النفسي لهذا التشكل اللوني سواء على مستوى الإضاءة ومدلولاتها او على مستوى الأزياء التي ارتدتها الفنانات والأخرى التي شكلت (مفردات ديكورية متداخلة مع شخصيات العرض المسرحي) وكذا الامر بالنسبة لخيوط الحياكة (الحمراء) وتبدل الثياب لشيماء وشذى وفقاً للمتغيرات في الأفكار المطروحة في هذا العرض، وكذلك توظيف (شاشة الداتاشو واللقطات القريبة من وجه شيماء وشذى) أيضا ذات مدلول واضح للافصاح عن (فكرة الوجه في هذا العرض المسرحي) ومقاصده كمفردة محركة لكيان العرض برمته والتي سعت المؤلفة للعزف عليه طيلة العرض المسرحي ، فضلاً عن الأداء الأكثر من رائع وخاصة للممثلة (شذى سالم) (شيماء جعفر) والتحولات بالاداء وردود الأفعال بخاصة على مستوى الايقونة الأهم بهذا العرض ( واعني الوجه) بوصفه دال يومئ لتفسيرات متنوعة تتلاحم مع فكرة العرض المسرحي ورسائله ، واحسب ان المخرجة عواطف نعيم كان من الجيد ان أخرجت نصها بوصفه يضم (تفصيلات دقيقة) تشتغل على موضوع  سيكولوجية (مشاعر المراة وكيانها إزاء الإنتاج البطريركي) فاجادت مسك زمام الأمور كلها بوصفها صانعة للنص والعرض معاً ، ليعلن العرض نهايته بعبارة الشخصية الرئيسة ( لنطفئ الضوء ونحلم) نعم لنحلم بوجهنا فقط دون وجوه أخرى مصطنعة. مرحى لصناع الجمال كافة ولاسيما صاحب الدعوة والمحفل(البروفسور كريم عبود المبارك) ومرحى للجمهور الذي غصت به قاعة المسرح الجديد.

لا يتوفر وصف.

 

هوامش:

(1): سو الن كيس ، النسوية والمسرح، ط1،(القاهرة: المركز القومي للترجمة ، 2016)،ص111.

(2) : سارة جامبل ، النسوية وما بعد النسوية ، ترجمة : احمد الشامي،ط1،(القاهرة : المجلس الاعلى للثقافة، 2002)،ص68.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت