المسرح الراقص … لماذا؟ / محمد الروبي
كلما شاهدت عرضا مسرحيا مصريا قوامه الرقص أتذكر عرضين جذابين عرضا في دورتين متباعدتين من دورات المهرجان التجريبي. الثاني هو “الشقيقات الثلاث” لفرقة جورجيا. والأول كان قد قدمته فرقة ألمانية بعنوان “جلسة سرية”،في الدورة الثالثة.
فكلا العرضين غامرا – كل بطريقته – بتحويل نص (الثاني لتشيكوف والأول لسارتر) يعتمد اعتمادا أساسيا على الحوار، إلى عرض بلا كلمات، عرض راقص بذل فيه الممثلون جهدا فائقا لينقلوا إليك معاني كلمات تشيكوف أو كلمات سارتر من دون كلماتهما!
العرضان يكشفان بجلاء عن عدد من السمات أولها وعلى رأسها أن المخرج قرأ وفهم واستوعب وحلل واختلف- أو اتفق- مع نص يعد من أيقونات المسرح العالمي. ويكشفان أيضا عن أن (الرؤية) شيء مختلف تماما عن (الموضة)، فأنت تقدم عرضا راقصا لا لأن الموضة هذا العام أو تلك الأعوام هي كذلك، لكنك تقدمه لأسباب عدة، منها التحدي الذي هو أحد ملامح الفنان، ومنها رغبتك في كشف زيف أن النص وحده هو العرض.
لذلك حين ستشرع في تقديم أحد هذه النصوص فأنت على وعي مسبق بأنك ستقدم نصا مقروءا من قبل، وأن ملامحه الأساسية محفورة في أذهان مشاهدك الذي تستهدف إبهاره بكيف نجحت في التعبير عن ذلك الصراع (الذي يعرفه) بهذا الصمت الراقص. وهنا تحديدا يكمن مربط الصعوبة، إذ عليك أولا أن تقرأ النص كما هو على ممثليك – راقصيك – وتناقشهم فيه وفي كل شخصية وفي علاقتها بالأخريات؛ أي أن عليك أن تصنع ورشة صغيرة، قد يشاركك فيها دراماتورجي محترف، لتكتشفا معا جوهر كل شخصية ومن ثم كل علاقة، وبعدها تحددان (معا) ما الذي يمكن الاستغناء عنه وما الذي لا يمكن تجاوزه ليستقيم معنى ما ستقدمان. وبعدها ستشرع في اختيار الخطوات والحركات المميزة لكل شخصية، التي بتداخلها مع خطوات وحركات الشخصيات الأخرى ستشكل مشهدا، ومن ثم مشاهد تخلق باجتماعها حالة معبرة بجلاء عن روح النص الذي فرغته من حواراته المنطوقة.
إذن، أن تقدم نصا بالرقص فذلك عمل شاق ومجهد على المستويين الذهني والبدني. وذلك على العكس تماما مما يتصوره بعض شبابنا الذين يتصدون لنصوص معروفة، بل وقد يجمعون بين أكثر من نص، بل وأكثر من وسيط (مسرح، رواية، قصيدة..)، ليخلقوا منها عملا راقصا. وقد يأتي عملهم رقصا جميلا إذا ما اعتبرنا الرقص مجرد خطوات رشيقة وحركات تتمازج مع موسيقى، لكنه أبدا لن يكون عملا دراميا متكاملا.
خلاصة القول إن آفة المسرح (بل وكل إبداع) هي الاستسهال الذي يتمثل في تتبع (الموضات) دون تدبر أو سؤال عن (لماذا؟ وكيف؟). وهو ما ستكتشفه سريعا إذا ما توجهت بعد أحد هذه العروض إلى الراقص- أو الراقصة- لتسأله عن معنى الشخصية التي قدمها وتفسيره لعلاقتها مع الشخصيات الأخرى، لتصطدم – كما حدث لي ذات مرة – بأنه سيفتح فاهه دهشة وينظر إليك نظرة تقول لك: “يا أيها المجنون أنا مجرد راقص”!!
مرة أخرى علينا أن نتذكر ونتأمل ما قاله الراقص الأسباني الأعظم انطونيو جاديس : ( قبل أن تشرع في الرقص عليك أن تسأل: لماذا أرقص ؟ ).