الفنان ومخيال المدوّن في التجربة الجمالية الإغريقية / ا.د محمد كريم الساعدي
إنَّ ظهور البطل المخلّص الذي يرسم للأقوام آنذاك في الملاحم على أن القوة الخفية التي تسيطر على الأحداث تعشق ظهور مثل هكذا أبطال من أجل أن يقوموا بدور ما في توجيه الأحداث ، وتكمن المفارقة المهمة التي ترتبط مع تشكيل بنية الوعي المتمركز حول الذات المنتجة في صناعة فكر بطولي لابدّ أن يكون ظاهراً أمام المجتمع الإغريقي على يد هذا ابطل الذي تظهره هذه القوة الخفية التي تقود الأحداث ، فـ(آخيل) تحركه قوة ترسم له مسار حياته ومماته وبطولاته كما يصوره لنا (هوميروس) في الملحمة ، البطل الذي ” لا سلطان له على نفسه ، تنغص عليه حياته نبوءات الموت . أنظر ما يقوله لـ(ليكاءون) بعد أن سقط على الأرض وأخذ يسترحمه : (لا ، يا صديقي ، مت كما مات غيرك ، ماذا يجديك بكاؤك الذي لا يرجى منه خير؟ لقد مات (بتركلوس) وهو خير منك . انظر إلي ألستُ وسيما وطويل القامة أنجبني أب كريم ، وكانت أمي التي ولدتني إلهة؟ ولكن الموت رغم هذا يحوم حولي وتوشك المنية أن تنشب مخالبها فيَّ . ففي فجر يوم من الأيام أو ظهره أو مسائه تختطفني من بين الأحياء يد لا أعرفها). ثم يطعن (ليكاءون) في عنقه دون أن يهم بمقاومته، ويقذف بجسمه في النهر ثم يلقي خطبة من تلك الخطب الرنانة التي تزدان بها مذابح (الإلياذة) ، ويضع بها أساس البلاغة الخطابية عند اليونان . وقد ظل نصف بلاد اليونان يعبد (آخيل) ويتخذه إلها”(1).
إنَّ السيطرة على مصير البطل تتم من خلال نبوءات تعد أشبه بخارطة الحياة للبطل في الملحمة، إنَّ القوى الخفية هي من تسيطر على توجهات هذا البطل وتسيره نحو هدف معين تريد أن تظهره في وقت معين حتى يتحول الى صورة المنقذ لكن بصفات يذكرها (هوميروس) في الحوار السابق (ألستُ وسيما وطويل القامة أنجبني أب كريم) والتناسق في اوصافه تكمل الفكرة المنطلقة من الموضوع ذاته كونه بطل ومخلص ومنقذ من الأعداء.
ومن جهة أخرى أن صناعة البطل المخلّص الفردي الهدف منه دفع الوعي الجمعي بضرورة وجوده حتى يصبح الأمان والضمان لهم ، وهذه الصورة يقدمها (ميخائيل تانر) في مقدمته للترجمة الإنكليزية لكتاب (نيتشه) (مولد التراجيديا) بالقول ” في زمن التراجيديا ما قبل اليونانية القديمة ، يوم حدّث (هومر)الناس بالحكايات التي كانوا في حاجة للاستماع اليها . شعروا بالتسلية لأنهم واجهوا عالماً فيه أبطال مستقلون عنهم . يواجهون مصائب يمكن تبريرها بالفرح الذي غمر الآلهة أثناء مراقبة هؤلاء الأبطال ” (2). إنَّ البطل المخلّص الذي يواجه المصائب والصعاب يعطي صورة عن التضحية في سبيل مصالح الإمبراطوريات العليا ، وتبرير تضحياتهم وبطولاتهم بالفرح الذي ينتاب الآلهة التي تقدمهم للحروب وتشاهد مواقفهم في مقابل إبعاد الأخطار عن مصائر الناس العاديين الذين يقتنعون بإن من أعطى القوة لهؤلاء الأبطال هي الآلهة ، ومن يدفعهم للقتال والتضحية هي الآلهة ذاتها ، بينما يبقى الناس العاديين يتفرجون عليهم ، كون أن ما يبرر الفرجة من جهة الانبهار ببطولة الأبطال ، وكذلك تبرير موقف القوة الخفية الداعمة لإعطاء التصور عن هذه البطولات من أجل حماية الناس العاديين ويقنعهم بمفاهيم التفوق للبطل المنقذ من جهة أخرى. فـ (هوميروس) في هذا التصور الذي ينسبه الى المعتقدات من خلال إيجاد هذا المعطى الروحي يعمل على بناء حلقة وصل في صناعة الهوية الجمالية وصورتها التاريخية للبطولة عند ابناء الإغريق العاديين ، ويوجد فيها دور للملاحم في هذه الصناعة ، والهوية الجمالية في السابق التي تقنع الناس بضرورة صناعة الفرح نحو ما يراد لهم بمبررات من تصورات البطولة الصانعة لهذه الهوية.
إنَّ النقطة الرئيسة في كون (هوميروس) الأب الروحي الذي صنع البطل المخلّص خلافاً لغيره من الشعراء الذين وضعوا قصص البطولة الإغريقية ، تعود الى كونه أستلهم النموذج المخلّص الذي يعبر عن روح الأمة آنذاك ، وعن أبطال لهم امتدادهم التاريخي في ذاكرة الأمة ، فالتاريخ الاغريقي القديم يتوفر فيه العديد من الأحداث حالة حال التواريخ لدى الأمم السابقة ، ولكن (هوميروس) يتميز عن غيره في أختيار نوعية البطل والبطولة التي يقوم بها ، هذا ما يخبرنا عنه الفيلسوف الالماني (نيتشه) الذي انتج مفهوم الرجل السوبرمان ، والذي يرى في المفاضلة بين (هوميروس) و(إرخليوكس) في أن الأول صاحب رؤية موضوعية ، والثاني صاحب رؤية ذاتية ، لذلك يعتقد (نيتشه) بأن “هومر ،ذلك المعمر ، والحالم الذي استهلك ذاته ، النموذج الأصيل للفنان (الأبولي) العفوي . يبدو وهو مندهشاً وهو ينظر الى الرأس الرائع لآلهة الفن (الميوزات) المخلّصة التي تتقلد الدروع الحربية وهي تبعث بقوة في الحيلة ، ولم يستطع الجمالي الجديد أن يسهم بما هو أكثر من القول أن الفنان (الموضوعي) الأول يقف في مواجهة الفنان (الذاتي) الأول . لكن هذا التفسير قلما يساعدنا لأننا نعلم أن الفنان الذاتي فنان بائس. ونحن نطالب بالدرجة الأولى عبر تاريخ الفن كله ، قهر الذاتي ، بالتحرر من الذات وإسكات إرادة الفرد ورغباته ، وبالفعل ، من المستحيل علينا أن نتصور إنتاجاً فنياً صادقاً مهماً كان شأنه صغيراً ، يخلو من الجانب الموضوعي “ (3). و(هوميروس) يعد في نظر (نيتشه) الفنان والنموذج الاصيل للقوة التي تظهرها (الميوزات) المخلّصة التي تتقلد الدروع الحربية . والنموذج الذي أنتج (أخيل) في (الإلياذة) وواحد من المساهمين في إنتاج الهوية الجمالية من حيث إنتاج رغبة مهمة في صنع البطل المخلّص في هذه التجربة في تاريخ الفكر الغربي .
إنَّ استلهام التجربة التاريخية لا تأتي من نموذج سلبي ذاتي لا يعبر عن روح اللأمة ومخيالها الذي يجسده الفنان الموضوعي ،و(إرخليوكس) لم يكن بمستوى الروح الغربية المطلقة التي ابتدعت أورع نتاجاتها المعرفية في عهدها الرومانسي ، وكما يرى (هيغل) بإنتاج بطل مخلّص في ملحمة انتصار التمركز في الذات الجمالية على الآخر الذي أراد أن يغير المعادلة ، وما يريده (هوميروس) في فكره المتوقد في إنتاج تجربة ذات بعد تاريخي من الممكن أن تتطور في المستقبل وتصبح تجربة رائدة في تأسيس هوية بطولية منطلقة من جانب ملحمي من خلال إرث يحتوي ذرات هذه التجربة من عمق التاريخ . فالفكر الإغريقي يبحث في هذا الاتجاه الذي وفر له ذرات صناعته المتماسكة شخصيات لها صورة البطل في هذا التاريخ ومنهم ما أوجده (هوميروس) في شخصية (آخيل) ، ومن هذه التوجهات المعرفية بالتاريخ وخباياه أخذ ” التمركز موقعه ، حيث يمكن اعتباره تكثيف مجموعة من الرؤى في مجال شعري محدد ، يؤدي الى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلة التي تنتج الذات المفكرة ومعطياتها الثقافية ، على أنها الافضل استناداً الى معنى محدد للهوية ، قوامه الثبات والديمومة والتطابق ، بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة في أي فعل ، سواء باستكشاف أبعاد نفسها ، أو بمعرفة الآخر “(4) الذي يظهر في الصور الثلاث التي رسمت له في الذات المفكرة ، فتبات الصورة وديمومة الفكر وتطابق المعنى من جعل هذه الذات المفكرة تستلم قيمها من التاريخ المعبر عن الروح البطلة في رسم الثبات للتفوق التاريخي ، وذلك لأن التجربة التاريخية بمدلولاتها المتقصدة وبفاعليتها واستمرارية أهدافها انتجت فكرة التمركز الجمالي من ثنايا اللحظات الأولى للحدث الملحمي الذي أعطى حرية التفوق على الآخر . فـ(هوميروس) من هذه الدعائم التي اسست لهذا الثبات وصورة البطل المخلّص ، لقد دمت تجربة الثبات بتكرار صورة هذه التجربة على وفق سياقات ثقافية أصبحت المصدر لصورة التمركز في اللوغوس الغربي وامتداداته الأفقية والعمودية على مر التجربة التاريخية ومخيال الفنان في التجربة وأحداثه لصناعة البطل وابتكاراته لمميزاته اعطى الدعم المتلاحق لظهور الهوية التاريخية والتي دعمها في كل حالات ظهورها صورة البطل الهوميري المخلّص.
الهوامش:
1/ ولوايريلديورانت : قصةالحضارة / حياةاليونان،ترجمة : محمدبدران،بيروت : دار الجيل للطباعة والنشر والتوزيع،ب،ت،ص380.
2/ ميخائيل تانر : مقدمة الترجمة الى الانكليزية لكتاب فريدريك نيتشه : مولد التراجيديا، ترجمة شاهر حسن عبيد،اللاذقية : دار الحوار،ب،ت،ص 22.
3/ فريدريك نيتشه : مولد التراجيديا ، ترجمة شاهر حسن عبيد ، اللاذقية : دار الحوار ،ص 104 ،ص105.
4/ منير مهادي : نقد التمركز وفكرة الأختلاف ، مقاربة في مشروع عبدالله إبراهيم ، الجزائر : ابن النديم للنشر والتوزيع ، 2013،ص35.