الوعي والهوية الجمالية / أ.د محمد كريم الساعدي
إنَّ الجزء المتعلق بالهوية والمرتبط بالجانب الجمالي، الذي نطلق عليه (الهوية الجمالية)، هذا الجزء مرتبط بمفهوم الجمال ومفهوم الجميل. إنَّ فلسفة الجمال ودراسات الجميل تعطي للباحث عنهما نطاق واسع من الفهم والإدراك لهذه الهوية الجمالية، كون أن دراسة علم الجمال تجعل من المهتم بها ذات بعد ذوقي خاص يختلف عن المتلقي العادي الذي لا يعير أهمية لهذه الدراسات، التي من الممكن أن تدخل في دراسة أهمية الفنون في إيجاد جيل واع لهذه الشروط وقادر على أن يتعامل معها في حياته الشخصية، أو من خلال إيجاد وعي جمعي لها، وما تتميز به ” فلسفة الجمال عند تناولها للفنون الجميلة وتاريخها بأنها لا تتناول آثار ماضية بقدر تناول العوامل والمؤثرات المكونة للوعي الجمالي عند الانسان، هذا الوعي الذي يكّون على مدى العصور، ذلك لأن لروائع الفن والادب قيمة دائماً، ويترتب على ذلك أن يصبح البحث في تاريخ النظرية الجمالية بحثاً في مكونات الوعي الجمالي عند الانسان ومظاهره المختلفة”(1) . وهنا تقع إشكالية بين التاريخ والفن وهذا الاشكالية تقدم لنا مقارنات وهي كالاتي :
- التاريخ يتناول هذه الوقائع باعتبارها وقائع مضت قد تشكل من خلال دراستها وأهميتها لمرحلة ما وكيفية تأثيرها في الأحداث التي وقعت وشكلت وجود أمة ما، وبين الفن الذي ينطلق من الرؤية التاريخية، فالفن جزء من تاريخ الأمم وجزء من ثقافتها، لكنه ليس جزء من الماضي فقط، بل هو من يصنع الحاضر كونه قد عمل على بناء منظومة ثقافية متصلة مع الحاضر والمستقبل .
- التاريخ يدرس الوقائع، ولفن يرسم ما هو قادم بفكر متحرر.
- التاريخ يتقيد بمفاهيم ومعاني تلك الوقائع على وفق قوانين صاغتها الأمم في ظرف ما، بينما الفن عمل على صياغة تلك الأحداث بعيداً عن المفهوم الجمعي الذي يقع تحت مبدأ القانون الذي وضعته الأمم.
- التاريخ يعطي من الحقائق والوقائع ويعرض لقوانينها في زمن من أزمان الأمم، بينما الفن بَحَثَ في المساحة الموازية لهذه القوانين وعمل على إنتاج نظام معرفي له أهميته في الكشف عن حقائق ووقائع التاريخ الذي قد أغفلها المدّون للوقائع في بعض الأحيان .
- التاريخ هو التزم بما حدث على وفق أطار معين، بينما الفن هو مساحة الحرية التي ينتج بها الفنان أعماله وتاريخه الموازي لتاريخ السياسة والقانون والدولة في عصر ما.
هذه الإشكالية بين الفنان والمدّون للأحداث جعلت من الفنان ينتج حضارة موازية دائمة الاستمرار وليس متوقفة عند حد ما كما في تاريخ الامم الذي يدونه يقرأه المؤرخ لوقت ما يرتبط بوقوع الاحداث في زمن ما. فالأعمال الفنية على سبيل المثال حضارات متحركة تعتمد في بناءاتها المعرفية على الصيرورة التي من الممكن أن تتجدد في أي لحظة في المستقبل، أو ربما ليست متوقفة أصلاً ، فأعمال فنية كثيرة كشفت حقيقة طبيعة الحياة في مجتمعات مضت كتب تاريخها على وفق سياق معين، ومثال ذلك فنون الحضارات الأولى مازالت تكشف العديد من أسرارها على خلاف ما دونه التاريخ لنا في مذكرات تلك الأمم، فالفن في هذا المجال هو صورة متحركة من الممكن أن تكشف أسرار كثيرة متغيرة عن الوقائع التي حدثت في تلك الحقب الزمنية. ومن هنا فأن دراسة هذه الاعمال الفنية – ومنها (المسرحيات الاغريقية، وقبلها الملاحم الهوميروسية، وأعمال فنية اكتشفت في حقب زمنية تعود الى أبعد من ذلك الزمن، مثلما هي عند السومريين، والبابليين، والفراعنة أو حتى في حضارات اخرى مثل الحضارات الهندية والصينية وغيرها )- دراسة جمالية تخلق وعي مضاف الى الوعي الذي ايقنها أول مرة خلال التاريخ وما كتبه عنها .
إنَّ إيجاد وعي جمالي في الاعمال الفنية، أو حتى في الطبيعة التي من الممكن أن تضع عملها الفني على المستوى البيئة وغيرها يكون للفن دور في أحيائها فيما بعد. وللجمال ودراسته دور في خلق الوعي عند المتذوق، وذلك لأن ” علم الجمال يُعنى إذن بالقيم الجمالية كما تبدو من خلال الأعمال الفنية، وفي هذا الموضوع، يقول أحد كبار المفكرين في علم الجمال الفرنسي (شارل لالو) إنَّ الطبيعة لها قيمة جمالية إلا عندما تنظر إليها من خلال فن من الفنون، أو عندما تكون قد تُرجمت الى لغة أو الى أعمال ابدعتها عقلية أو شكّلها فن وتقنية “(2) ما. الطبيعة لوحدها ناقصة في مجال انتاج الهوية الجمالية في الاعمال الفنية عند شعب من الشعوب، بل لابدّ من مفهوم الجمال بالأساس يعنى بإنتاج القيم الفنية للهوية الجمالية. ويأتي دور مهم آخر هو العمل الفني الذي نبحث فيه الحساسية الجمالية التي تدخل ضمن الجانب الفني في التحول من طبيعة عادية الى قيمة فنية يتناولها الجانب الجمالي .
إذن، لابدّ من وجود عامل ينقل هذه الطبيعة الى مجالها الفني، وفي هذا المجال الذي قدمه (شارل لالو) يوجد جانبان هما :
- إنَّ الطبيعة التي لا يمكن أن تكون لها قيمة فنية، أو نظرة جمالية مالم تدخل ضمن تصورات البناء الفني في نوع من أنواع الفنون حتى تترجم الى صورة ذات بعد جمالي فني قابل للدراسة الجمالية، وهذا التحول في الرؤية الفنية دليل على أن الفن هو الأساس الذي يشكل الرؤية الجمالية وعلى أثره تؤسس الهوية الجمالية وانتماءاتها القيمية لدى جهة ما، أو مكان ما حسب عائدية الفنان المنتج، على وفق التصنيفات والدراسات في الفنون الجميلة، وإذا لم تكن هذه الطبيعة متحولة فنياً فأنها ستبقى بعيدة عن طرح مفهوم القيم الفنية في أطار الهوية الجمالية في ذاتها عموماً.
- إنَّ الطبيعة التي يقصدها (شارل لالو) هي ليست فقط الطبيعة التي تشير الى الجبال والأشجار وغيرها فقط، بل يدخل معها كل طبيعة أخرى غير متداخلة مع الفن، أو هي ليست من ضمن أطار فني، ومنها الطبيعة الإنسانية، وهل من الممكن أن نتعامل مع السلوكيات التي تظهر في الاماكن العامة وفي داخل الاسرة، أو المدرسة وغيرها فهي تختلف عن السلوكيات ذات البعد الدرامي التي يقدمها الممثل المسرحي فهذه السلوكيات مصاغة فنياً . كذلك الكتابة توجد في مجالات أخرى ومن ضمنها التاريخ والعلوم وغيرها فهي تختلف عن الكتابة الفنية ذات الملامح الابداعية الداعية للجمال، مما تبرّز هذه الكتابة وهذه السلوكيات بطريقة فنية تدرس بشكل جمالي، وكذلك الاعمال الفنية الاخرى مثل الرسم والنحت وغيرها من الفنون، تبرّز الهوية الجمالية التي تُنتج من الممارسات والاشتغالات الفنية المختلفة عن الطبيعة عامة والطبيعة الإنسانية خاصة في كل أشكالها.
إنَّ الجمال الذي ننشده في الاشياء الجميلة ينتمي الى فكرة الجمال، الذي يحدد ملامح الهوية الجمالية ذاتها، أي إنَّ الموضوع الجمالي يكمن في فكرة الجمال وليس في هدف أخر غيره، ومن يبحث عن الجمال يجب أن يضع في وعيه أن يكون الجمال في تمييز الهوية الجمالية التي تظهر على ملامح الفترة التي ينتمي اليها، وهنا يتشكل الجمال في ذاته ولذاته حتى يتحقق المفهوم الذي يصبو اليه. وما يعرف بالجمالي ” هو المنسوب الى الجمال، والشعور الجمالي، والحكم الجمالي والنشاط الجمال، وهذا الأخير عند بعضهم لعب، أو آلية خالية من الغرض تقوم على طلب الجمال لذاته، لا لنفعته أو خيريته “(3)، وتكوين شعور جمالي يعطي للعيان ظاهرة تبعث بإحساس من الظاهرة ذاتها، ويتشكل نشاط جمالي ينتج حكم جمالي من ذات الشيء الذي هو موضوع الجمال، ويتشكل في وعي المشارك في الموضوع الجمالي لحظتين في هذا الإطار :
- الاولى : لحظة مشاركة عملية ناتجة من فعل المشاهدة والتفاعل مع الموضوع في فضاء مشترك بين ما يطلقه الموضوع، وبين ما يستهدفه الوعي الذي يبحث الظاهرة الجمالية دون منفعة، أو هدف خارجها، ويتشكل على اساسها الفعل الجمالي واللحظة الجمالية من خلال الممارسة ذاتها.
- ثانياً : وبعدها يتشكل في داخل الوعي الموضوع الجمالي الثاني، وهو لحظة تصور وتشبع بالموضوع الجمالي الى حد من الممكن أن يتكون معه صورة إدراكية تطلق أحكام بطبيعة الموضوع الجمال المتمركز في الذهنية المستقبلية. واللحظة العملية تتشكل بعدها لحظة نظرية تنتج حكم بالظاهرة الجمالية من الممكن أن ينتقل مع الوعي ويتبلور في المفاهيم النظرية لحكم الظاهرة الجمالية الخالية من أي منفعة، أو تصور أخر خارج المعطى الجمالي العام، وليس من خلال الجزئيات البسيطة التي من الممكن أن تبعد الوعي عن المتعة الجمالية المنطلقة من المواضيع الجمالية الكلية .
وهنا يقسم الجمال في طبيعته وأشتغالاته الى قسمين هما :
- القسم النظري : ” يبحث في الصفات المشتركة بين الأشياء الجميلة التي تولد الشعور بالجمال، فيحلل هذا الشعور تحليلأ نفسياً، ويفسر طبيعة الجمال تفسيراً فلسفياً، ويحدد الشروط التي يتميز بها الجميل من القبيح. فهو إذن علم قاعدي أو معياري (Normatif) كالمنطق والأخلاق، فكما أن المنطق يحدد القوانين التي تعرف بها الصحيح من الفاسد، كذلك علم الجمال فهو يحدد القوانين التي بها يتميز الجميل من القبيح “(4). والقواعد والمعايير يطلقها العقل تجاه الموضوعات الجمالية، في الاصل استقاها من أشياء حملت هذه الموضوعات، وهذه المعايير لم تأتي من شيء جمالي واحد فقط، ولا من تجربة جمالية واحدة فقط، بل جاءت نتيجة عمل وجهد للوصول الى هذه الأحكام والمعايير الجمالية، فالفعل الجمالي الذي مارسه المتبني لهذه المعايير هو بالفعل عمل مستمر ناتج عن تبني نقاط مشتركة في أكثر من موضوع جمالي للوصول الى النقاط المشتركة في الكلي الجمالي، والمعطى العملي الجمالي يتأتى من المنظور العملي الذي يمارس في الجمال الكلي المستقى من التجارب العملية الفنية في أطارها الفني، أو النماذج الفنية التي مارس من خلالها الدارس للجمال ممارسات تكشف عن طبيعة الظواهر الجمالية فيها من أجل اختصارها في معايير تصبح هي القواعد للتصور الجمالي.
القسم العملي : ” يبحث في مختلف صور الفن، ويقدم نماذجه المفردة، ويطلق على هذا القسم أسم النقد الفني، وهو لا يقوم على الذوق وحده، بل يقوم على العقل ايضاً، لأن قيمة الأثر الفني لا تقاس بما يولده في النفس من الإحساس فحسب، بل تقاس بنسبته الى الصور الغائية التي يتمثلها العقل “(5) ، فالذوق والعقل، هذه الثنائية التي يتشكل من خلالها الاحكام الجمالية بصورة عامة، فلا الذوق وحده من يعطي للممارس في الذوق الجمالي أمكانية أطلاق أحكام جمالية تجاه العمل الفني، ولا المتأمل وحده يفعل ذلك دون أن يركن الى الذوق، وكلاهما من يحقق صورة الاحكام الجمالية ومعاييرها الذوقية في تكوين الصور الذهنية التي تمتلك صفة الجمال، والعملية المشتركة بين ما هو نظري وما هو عملي في بناء المعايير الجمالية هي من تحقق للظاهرة الجمالية التي تعكس الهوية الجمالية في أطارها الكلي في عصر من العصور. أما المفهوم الخاص بالجمال من وجهة نظر المتفكر الجمالي، الذي يعد الجمال ” صفة تُلحظ في الأشياء، وتبعث في النفس السرور والرضا. والجمال من الصفات ما يتعلق بالرضا وللطف، وهو أحد المفاهيم الثلاثة التي تنسب اليها أحكام القيم، أعني الجمال، والحق، والخير (…) والجمال والقبح بالنسبة الى الانفعال كالخير والشر بالنسبة الى الفعل، والحق والباطل بالنسبة الى العقل، والجمال مرادف للحُسن وهو تناسب الأعضاء ” (6)، فالنفس الإنسانية تبقى دائماً تبحث عما يدخل عليها السرور والفرح حتى يتشكل فيها مبدأ الجمال، ويتشكل مع الحق في العقل والخير في الافعال والجمال في التكوين الحسي والشعوري عند الفرد، فمن هذه المرادفات واشتغالاتها يبرز لدينا مكانة للجمال بين المفاهيم الثلاثة التي تشكل مبدأ الهوية الجمالية لدى الانسان وأحكامه القيمة المتعلقة بهذه الظاهرة .
الهوامش
- أميرة حلمي مطر: مدخل الى علم الجمال وفلسفة الفن، بيروت : دار التنوير ، 2013، ص12.
- نفسه ، ص13،ص14.
- د. جميل صليبا : المعجم الفلسفي ، بيروت : دار الكتاب اللبناني ، 1978، ص409.
- نفسه ،ص408،ص409.
- نفسه ، ص409.
- نفسه ، ص407.