كلكامش … يعود للفتيان/ حبيب ظاهر حبيب
الفتيان
الفتوة مرحلة مفصلية في حياة الإنسان لأنها مرحلة التحول من الطفولة الى الرشد، مما يستدعي ضبط بوصلة توجهات الفتيان ، والعناية بمتطلباتهم ومداراة حساسيتهم.
يستثنى الفتيان والمراهقين من الرعاية الوالدية بالتفاصيل الدقيقة كما هو حال الأطفال الأصغر منهم سنا، وتتركز حاجة الفتيان عادة بالدعم النفسي والارشادي فقط، وذلك انطلاقا من أن سيكولوجية الفتى والمراهق تدفعه بشدة نحو التشبه بالراشدين والذهاب الى عالم الكبار ، ولا يقر الفتى بما تبقى في نفسه من عالم الطفولة المبكرة والمتوسطة لأنه يريد أن يكبر بسرعة.
وتمتاز مرحلة الفتوة (المراهقة) بأنها مرحلة قلقة لأن وضع الفتى/ المراهق يكون متأرجحا حينها بين الطفولة والرشد ، وتختلط فيه خصائص الأطفال مع شيء من خصائص الراشدين ، لذا أهم ما يميز مرحلة الفتوة هو هاجس القلق المرافق للتطلعات الأعلى من مستوى المدركات الحسية والعقلية الحقيقية التي يتمتع بها الفتيان ، وهذا يتزامن مع التغيرات البيولوجية التي تجعل الفتى / المراهق على درجة عالية من الحساسية المفرطة الناتجة من فيض المشاعر في نفوسهم ، مما يجعلهم أقرب إلى روح رفض النصائح والمواعظ والاتجاه إلى المغالاة في سلوكهم ، وربما يذهبون الى التمرد على التعليمات والأنظمة ، وقبالة هذا يميلون الى تحمل مسؤولية سلوكهم نتيجة بزوغ الاعتداد العالي والثقة المفرطة بالنفس، ومن الضروري أن يعمل الوالدين والمعلمون على توجيه وضبط سلوك الفتيان من خلال الإرشاد التربوي المستمر، ومن الأفضل أن يكون هذا الإرشاد وذاك التوجيه بطريقة غير مباشرة ، خشية نفورهم من الطريقة المباشرة التي تضعف تركيز انتباههم إليها ، وقد يتحاشون الاصغاء الى من يتعامل معهم بهذه الطريقة . وخير وسيلة للتعامل غير المباشر مع الفتيان – وعموم مراحل الطفولة – هي الفنون والآداب بمختلف أنواعها وتوجهاتها ، لما للفنون والآداب من أهمية وقدرة في تربية الفرد جماليا وتنمية الحس الفني لديه فضلا عن فتح آفاق توعوية وفكرية.
كلكامش كتبها كثيرون والفكرة أزلية
منذ أن ترجمها (العلامة طه باقر) عن الأصل السومري ، وملحمة كلكامش محطة للدراسة والبحث والتناصات العديدة ، قدمها للمسرح استاذنا (سامي عبد الحميد) في كلية الفنون وأخرجها للفرقة القومية ، وكتب مسرحية (كلكامش) الموجهة للأطفال – حسب درايتي – الكاتب والمخرج (عقيل مهدي) والكاتب (جبار صبري العطية) وحاليا أعدها الكاتب والمخرج (حسين علي هارف) لماذا هذا التركيز على كلكامش؟ الاجابة : ضرورة التعريف بالبطل والحضارة العراقية فضلا عن الفكرة الحية للأبد (سعي الإنسان للخلود) مع التركيز على قيمة الصداقة بين كلكامش وانكيدو ، وأهم من كل شيء هو ان كلكامش لم يسعَ لتخليد نفسه وحسب عندما حاول جلب عشبة الخلود بقدر ما ارادها لشعب أوروك، وكانت الملحمة الخالدة نتاج سعي كلكامش نحو الخلود.
ما الجديد الذي جاء به معد النص ومخرج العرض (حسين علي هارف)؟
يعد عرض (كلكامش … الذي رأى) علامة مهمة وبارزة في تاريخ المسرح العراقي ، ويشكل محاولة لأنهاء ندرة النصوص/ العروض المسرحية الموجهة للفتيان ، ومبادرة طيبة وجهود جمالية ومتسقة ومتضامنة بروح الفريق الذي ضم مجموعة كبيرة واسماء لامعة من الفنانين والفنيين.
الجديد في (كلكامش) هو أسلوب العرض ، قدم المخرج عرض مسرحي فسيفسائي بامتياز ، وذلك يرجع الى التنوع الذي اشتمل عليه العرض ، مما جعل المتلقي أمام دهشة واسعة ، وعمل فريق العرض على حركة مستمرة من اضطراد دخول وخروج الشخصيات وشغلها مساحة خشبة المسرح بتكوينات حيوية وحركات ايقاعية، فقد تنوع الجانب البصري وحفل بـــــــ (الممثل الحي على خشبة المسرح، المؤثرات البصرية على الداتا شو، خيال الظل، الاقنعة) وتناغم الجانب السمعي وحفل بـــ ( صوت الممثلين المسجل، الموسيقى العالمية، الموسيقى والمؤثرات الصوتية المحلية) ومن الملحوظ في العرض الاقتصاد بقطع المنظر المسرحي أمام البذخ في الأزياء والاقنعة، وهذا الاهتمام بالأزياء متأت من الاهتمام بالشخصيات المسرحية والاعتماد على الخلفيات المنظرية المعروضة على الشاشة بديلا عن المنظر المسرحي والاكتفاء بقطع موحية بالتاريخ واجواء الحضارة العراقية مثل القيثارة السومرية.
امسك المخرج وفريقه بحضور السارد للملحمة، فكان ضرورة يختزل أحداثها الطويلة وتشعباتها الكثيرة، ويوفر تمهيد وتعريف بالشخصيات، هذه كانت وظيفة الراوي السومري (خالد احمد مصطفى) بحركته مع القيثارة وانفعالات ملامحه الممهدة لكل مشهد، يرافقه في ذلك الصوت ذي الثراء والسعة التعبيرية للمؤدي (فاضل عباس) مع الاشارة الى ان جميع الاصوات تمتعت بقدرات أدائية/ تعبيرية اوصلت صورة واضحة عن طبيعة الشخصيات وأفعالها وانفعالاتها، بل وكان للصوت والإلقاء الحصة الأكبر في إثارة المتلقي والمحافظة على بقائه في أجواء العرض المشحونة بالتوترات.
عمل المخرج على توظيف الاقنعة وخيال الظل بصورة جعلت العرض يتقرب الى فئة الفتيان (12- 15 سنة) التي استهدفها العرض، ويسعى لأن يكون مقبولا لديهم ومقنعا لهم، فصانع الأقنعة عمل على المبالغة في إيضاح الملامح وتضخيمها، رغم أن كبر حجم القناع شكل احيانا اعاقة لحركة الممثل، وفي الوقت نفسه وفر على الممثل التعبير الذي يفترض أن يضاهي الشخصية، أما خيال الظل فقد امتزج مع المؤثرات البصرية الاخرى من مناظر وحركة متداخلة بين شخصيات خيال الظل والشخصيات على خشبة المسرح مما اعطاها بعدا جماليا، على الأخص في مشاهد المعارك بين خمبابا والصديقين كلكامش وأنكيدو ، وفي مشهد صراع الصديقان مع الثور السماوي.
وقد وصل الإتقان في صناعة الدمى وفي المزج والتداخل بين خيال الظل والفعل الحي على خشبة المسرح غايته الجمالية وطاقته التعبيرية في مشهد صراع كلكامش مع العقرب ، بدأ المشهد بتكوين شكل العقرب الذي وفر قناعة عالية لدى المتلقي من خلال ظهوره خلف الشاشة ، ثم انتقل بحركته على خشبة المسرح ، وإذا به تجسيد تفصيلي لأذرع وجسد وذيل العقرب بحجم ضخم ، ومن خلال الاختيار الدقيق للون القماش /الجلد وتفاصيل صناعة جسد الشخصية والحركة المعبرة جعلت هذا المشهد نقطة تحول في العرض من عالم المصاعب التي تواجه كلكامش الى لقاء الجد (اتونابشتم) حيث الحكمة والإرشاد إلى طريقة عشبة الخلود.
وإذا اتفقنا أن الفتيان الموجه لهم العرض يتمتعون بحساسية عالية وتركيز دقيق فإنهم يلاحظون وقد يتساءلون:
- لماذا وجه الجد اتونابشتم ابيض جدا ويده سمراء جدا.
- الافعى لم تأكل عشبة الخلود بنفسها بل جاء بها انسان متلفع بالسواد وهو الذي وضع العشبة في فمها، لماذا تنسب أيها الراوي للأفعى ما فعله الإنسان ؟
- نحن الفتيان نقول: اطال علينا جدنا اتونابشتم حديثه مع كلكامش بما لا يتناسب مع قدرتنا على التركيز.
- أكثر من خمسين دقيقة بلا فترات ترفيه ثقيلة علينا نحن الفتيان، رغم ما في العرض تنوع في المشاهد والشخصيات والأحداث التي ضمها إيقاع متسارع ملؤه التشويق والاثارة.
- صنعت سيوف كلكامش وانكيدو من مادة خفيفة سريعة الكسر وتمت معالجة أحدهما بشريط لاصق.
قد تكون بعض الأمور مقصودة انسجاما مع المنهج البريختي الذي انتهجه العرض منذ البداية بوجود الراوي والاغنية والحركات الايقاعية … ولكنها البعض الآخر من الأمور – ربما – شغلت المتلقي و – ربما -شتت تركيزه بما أثارته من تساؤلات وملاحظات.
وأخيرا لا بد من القول ان فريق (كلكامش … الذي رأى) بقيادة المخرج تمكن من تقديم صورة التكامل الفني/ الفكري في عرض كل ما فيه يؤشر تميزا من الأداء الصوتي الى الاداء الحركي الى صناعة الدمى الى المؤثرات الصوتية والضوئية وخلفيات المناظر وتحولاتها إلى اخذت المتلقي في سياحة جمالية بصرية وصوتية في اجواء التاريخ وروح كلكامش ومعالم مدينة أوروك السومرية.