العنزي الذي أعرف / بقلم:  د. سعداء الدعاس

لم يكن مجرد مسؤول عن مؤسسة تعليمية عريقة فحسب، فالمسؤولون كثر، بعضهم تستغرب كيف تقلد المنصب من الأساس، ومنهم من لا يعرف كيف يُكمل عبارتين في مناسبة عامة، أما د. علي العنزي فكان بالإضافة لكونه متحدثاً لبقاً، صاحب منجز يعرفه الوسط الثقافي، قد أحدث نقلة نوعية على مستوى المؤسسة منذ تقلده عمادة المعهد العالي للفنون المسرحية في 2018. واليوم بعد أن انتهت مهمته، بات لزاماً عليّ أن أكتب في حق هذا الرجل ما لا يعرفه الكثيرون، لإيماني بأن أصدق الكلام ذلك الذي يأتي بعد انقضاء المناصب، وتلاشي المصالح.

أول تلك الإنجازات التي قدمها العنزي للمعهد، يلحظها ويُشيد بها كل من يُقرر زيارة المكان بعد غياب، حيث التغيير الجذري على مستوى البنية التحتية، من بوابة المعهد إلى جميع قاعاته، دون أن يعرف أحد أن بعض تلك التغييرات جاءت بجهود فردية، لا علاقة لوزارة التعليم العالي بها، في ظل سعي متواصل مع جهات أخرى، لعل أبرزها نتاج الرحلة الطويلة التي قضاها العنزي في سبيل تجديد مسرح المعهد،بالتعاون مع الإخوة في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الذين تجاوبوا مشكورين بعيداً عن البيروقراطية القاتلة، هذا بجانب التغييرات التي طرأت على مبنى التلفزيون، والذي تم تشغيله لأول مرة في عهد العنزي، بعد أن كان مبنى مهجوراً، يتنقل طلبته في قاعات الأقسام الأخرى لتلقي محاضراتهم، أما المكان الأحب بالنسبة لي ولمن يعرف قيمة الكتاب، فهو المكتبة، التي انتقلت من حال إلى حال، على مستوى الشكل والمضمون، بأرفف مزينة بعشرات الإصدارات التي قام الأدباء والفنانون بإهدائها للمكتبة.

وإذا تطرقنا لأبرز مكتسبات الأساتذة في عهد العنزي، فلا يمكن لأي أستاذ أن يتجاهل موضوع الساعات الزائدة عن النصاب، التي لم تُصرف من قبلُ إلا لمرة واحدة، ولمجموعة مكونة من ستة أساتذة فقط، فجاء العنزي ليسعى بجهود موازية للعميد المساعد د.حسين الحكم، لتصبح الساعات الزائدة حقاً لجميع الأساتذة دون تمييز، ودون الحاجة للجوء إلى القضاء كما حدث مع معظم أساتذة المعهد الذين بذلوا الوقت والجهد والمال في سبيل هذا الغرض لسنوات طويلة، لكن غالبيتهم -مع الأسف- خسروا قضاياهم، وقلة قليلة منهم من ربحها، والعنزي من بين هؤلاء. ولعل هذه إحدى المكافآت التي نالها من العلي القدير يوماً ما، نظير سعيه الحثيث، آخر تلك العطايا حصوله على جائزة الدولة التشجيعية في الدراسات النقدية والأدبية واللغوية، في وقت عصيب، كان فيه يواصل الليل بالنهار من أجل النهوض بالمؤسسة، ومعالجة الكثير من الخلل الكامن فيها، مهما كانت العواقب، وتلك حكاية أخرى،قد يحين الحديث عنها يوماً ما.

أما الطلبة، فكان لهم النصيب الأكبر من وقت العنزي وجهده،حيث سعى لهم كثيراً وفي عدة ملفات تتعلق بحقوقهم التي لا يمكن حصرها في مقال، كما منح الفرص لكثيرين منهم دون الحاجة لتملقه، وواجه لأجلهم العديد من الإشكاليات والاعتراضات، دون حتى أن يعرف الطلبة ذلك، فاستمر في مساندة أبنائه لما فيه مصلحتهم، غير آبه بأي تحرك معاكس، ولعل هذا الجانب يُشكل السبب الرئيسي لكتابتي هذا المقال، حيث لمستُ فيه الأخ والسند في العديد من المواقف المفصلية الخاصة بالطلبة، والتي يعلم الجميع أنها شغلي الشاغل وهمي الأول على المستوى العملي.

فإذا كان زملائي الأعضاء في الإدارة قد خاضوا مع العنزي معركة أو اثنتين، وتجارب أخرى إدارية، فأنا تحديداً خضتُ معه عدة معارك،موضوعها الأساسي إعادة الأمل لثلة مميزة ومبدعة من الطلبة،الذين حُرموا من فرصة إكمال دراستهم، وفي اللحظة التي أعدنا لهم فيها الأمل بالحياة من جديد بفضل من الله وحده، قال العنزي حينها: “الآن أنا مستعد تماماً للخروج من العمادة”، لكن الله شاء له أن يستمر لفترة أطول مما كان يعتقد، كان ذلك في صالح طلبة آخرين، خضنا لأجلهم معارك أخرى،والسبب يكمن في قبولنا لطلبة بدون ومقيمين (يُسمَّون خطأ لغوياً بالوافدين) في معهد لا يطرق أبوابه إلا القلة القليلة من أبناء البلد، وبفضل سياسة القبول التي تبنيناها، وتحمّل العنزي عواقبها، ازداد العدد في السنوات الماضية، وفي قسمي تحديداً-قسم النقد والأدب المسرحي- تجاوز العدد الضعف.فبعد أناقتصر عدد طلبة إحدى الفرق على طالبين اثنين فقط، يدرّسهماطوال أربع سنوات، أكثر من عشرة أساتذة!بات القسم اليوم يعج بالطلبة، كثير منهم جادون ومميزون، بما يعزز من التنافس الشريف في القاعات، ويرفع من مستوى الأداء الدراسي العام، أما المقيمون تحديداً، فلا يعرف كثير منهم (على وجه الخصوص: الفرقة الثانية في النقد، التمثيل والتلفزيون) أنهم كانوا على شفير الفصل من المعهد، لولا جهود إدارة العنزي، التي أفخر أنني كنت جزءاً منها في سعينا الحثيث آنذاك(العميد المساعد ورؤساء الأقسام) ، حيث قابلنا الوزير د.محمد الفارس بهذا الشأن، مستذكرين الدور الريادي للمقيمين في إنشاء المعهد، هذا الصرح العربي العريق، والخليجي الوحيد، على يد ثلة من خيرة الأساتذة العرب، أولهم الراحل زكي طليمات.

لم تنجح مآرب الشكاوى، التي لم تتورععن استخدام وسائل غير إنسانية للوصول لمبتغاها، حيث أشارت إحدى الشاكيات لواقعة قبولنا لطالبة كويتية من ذوي الاحتياجات الخاصة، وكأنها جريمة، في اعتراض صريح منها على حكمة الله وإرادته، واعتقاداًمنها بمحدودية قدرات تلك الطالبة التي أثبتت العكس، كما هو متوقع من معظم أبناء الهمم، الذين يعوضهم الله بالكثير من القدرات.

شاء الله عز وجل أن يُكمل العنزي مدته، أما إدارته فمستمرة منذ 2018 إلى الآن، بفضل من اللهوحده، وإيمانناالكامل بمسعانا وأهدافنا النبيلة، مهما كانت العواقب، التي استعد لها العنزي جيداً، وتقبلها بعد ذلك برأس مرفوعة، بعد قضاء مدته بإنجاز تلو الآخر، حيث لم يتبقمن مدته إلا بضعة أشهر،وهكذا الأمر بالنسبة لي حيث اقتربتُ أنا أيضاً من إكمال مدتي، رفقة فريق نقي، واجه الكثير، ومستعد تماماً لمواجهة الكثير أيضاً.

العنزي الذي أعرف، كان يواجه من يختلف معهم بشجاعة، وجهاً لوجه، ولم يشمت بأعدائه يوماً، أويمشي في الممرات فرحاً بانقضاء مدتهم، فالشماتة من صفات الصغار فقط. أذكر حين انتهت مدة العميد الأسبق، كان انتقال العمادة سلساً محترماً، واستمر في تعامله الراقي مع فريق إدارة العميد الأسبق باحترام كبير، إلى أن قام بتشكيل فريقه الخاص، مؤمناً أنه سيأتي يوم وتنتهي فيه مدته، تلك المدة التي قضاها عميداً يغرق في بحر الانشغالات، ويتنفس عشرات الإنجازات جعلت المعهد للمرة الأولى في تاريخه مكاناً يرتاده الأدباء والمثقفون في جميع مناسباته.

وإلى آخر خطوة له في العمادة، ظل د.العنزي واضعاً مصلحة المكان نصب عينيه، فلم يقبل باعتذار إدارته في ظل القرار الأخير بندب عميد جديد، حرصاً منه على سير العمل بانسيابية معتادة، فبعد أن استعددتُ شخصياً للاعتذار عن رئاسة القسم، لقناعتي بأننا فريق واحد مكون من العميد ومساعده ورؤساء الأقسام، ولا يمكن لعود من الحزمة أن يغيب عن ذلك الفريق، أبى العنزي ذلك، وأكد عليه العميد المساعد، ومن ثم بعض زملائي في القسم.

وكم فاجأناالعنزي في تعامله الراقي مع الموقف، حيث هنأ خلفه د.راجح المطيري، وقام بتسليمه العهدة بكل هدوء، بل وفي اليوم ذاته الذي تسلم فيه القرار، دلالة على قدرته الكبيرة على التعامل بسلاسة ومهنية مع القرارات مهما كان نوعها.

واليوم – بعيداً عن التصريحات الرسمية – أكتب مقالي الأول عن العنزي، وهو بلا منصب، زميلاً معي في قسم النقد والأدب المسرحي، أتشرف بزمالته، وأسعد بأخوّته، وأحترم آراءه، ورغم رفضي السابق لاختياره لي لمنصبلم أسع إليه أو أرغب به، شغلني عن حياتي الشخصية والكثير من الإنجازات، إلا أنني اليوم أشكره، مرددة: “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم”، فبفضل قراره ذاك، منحني فرصة خدمة بناتي وأبنائي الطلبة بقدر ما أستطيع، كما أهداني فرصة اكتشاف الوجوه التي كانت تتملقني وتستهلك وقتي وجهدي في خدمة مصالحها، ولهذه الوجوه حكايات سأسردها يوماً ما.

أخيراً، وعلى قدر سعادتي بكل ما تم إنجازه في السنوات السابقة في المعهد، على قدر امتناني للعنزي وجميع زملائي في الإدارة (العميد المساعد ورؤساء الأقسام)، قبل المنصب وبعده، لأن أضعف الناس وأقبحهم من يتعاطون بمبدأ (مات الملك، عاش الملك).

وبناء عليه، وكلما كانت خطوات العميد الجديدفي خدمة مؤسستنا الغالية وطلبتها الأحب إلى قلبي، سنعينه على ذلك حتى وإن تقلد المنصب في توقيت لا يتناسب وقناعاتي، أما إن كان أداؤه مغايراً لما أؤمن به، فلن يشل حركتي كرسيرئاسة القسم المؤقت، والذي ستنتهي صلاحيته يوما ما، ولن يكون أكثر من سطر يُكتب في سيرتي الذاتية، التي أسعى لأن تكتظ بالإنجازات الأهم والأبقى، ولا أهم أو أبقى من أن يعيش الإنسان حراً متسقاً وقناعاته.

 

لا يتوفر وصف.

** د. سعداء الدعاس / رئيس قسم النقد والأدب المسرحي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت