الكلمة في المسرح جسد يشتعل / بقلم : يوسف الحمدان
المسرحي في غالبية معاهد وأكاديميات الفنون المسرحية في وطننا العربي، يكتسب الأداء الصوتي، الكلمي أو اللفظي، من خلال مادة الإلقاء النظري أو التطبيقي المستمدة من مصادر تقليدية محددة ، قوامها إلقاء الشعر والخطابة وترتيل القرآن .
هذه المصادر تحتوي على ” تعاليم ” ذات صيغ ثبوتية متكررة شبه أزلية متوارثة في مسرحنا العربي وبالذات في المسرح التقليدي منذ عرفت اللغة في التمثيل وحتى يومنا هذا ، منسحبة هذه التعاليم ـ بتصرف ـ على أداء الممثل باللغة الدارجة .
وأهم ما جاء في بنود هذه التعاليم : الحروف المضافة للحروف الأبجدية المعروفة ( التجويد )، الإدغام)، (أنواع الحروف)،(مخارج الحروف) بمعنى التمييز بين الحرف الأنفوي والحرف اللثوي، الحرف الإنفجاري والشفوي، الحرف السني والمتردد، وغيرها. وبجانب معرفة هذه المخارج هناك معرفة طرق الإلقاء المسرحي وإيقاع الإلقاء، هل هو متصاعد أو تنازلي أو بين بين، حاد أو غليظ متموج أو منغم، رخيم أو تفخيمي، وغيرها .
هذا بعض ما تعلمناه في مادة الإلقاء، ولا شك أن في بعض بعضه عائدا فنيا إيجابيا على مستوى كيفية الإلقاء بشكل عام وعلى مستوى التحصيل المعرفي، وليس لأي فنان غنى عنه بأي حال من الأحوال إلا من تجاوزت مخيلته حدود الركون على المفاهيم السائدة للإلقاء، لكن الإشكالية الجوهرية تتمحور في أن هذه المادة الإلقائية ساهمت ـ وفقا لما أراده جامعوها ـ في قولبة مخيلة الفنان الصوتية وتعليب أدائه، وجرّ المسرح لمدرسية مصادر هذه المادة التقليدية وكما لو أن المسرح وعاء فارغ يجب أن يمتليء بهذه المصادر ” الحية ” ! .
وهنا بطبيعة الحال تغيب خصوصية المسرح الفنية والتقنية والإبداعية، ويبقى تابعا ـ باعتباره لاحقا ـ لا مبدعا بمعنى أن يكتشف المسرحي مادته الجديدة وفقا لما توفر له من هذه المصادر، طبعا هناك بعضُ حاول أن يهرب من تعاليم هذه المادة الجامدة ولكنه لجأ إلى ما هو أكثر جمودا منها، وذلك عبر الاستخفاف المفرط بلغة الأداء، وهناك من تحرر من هذه التعاليم الخرسانية واقترب من قلب المسرح ، وبعضُ طلّق اللغة العربية تماما من كثرة ما تعرض له من مراقبة ساطية أو ( سوطية ) طاغية أثناء أدائه، خصوصا من قبل جهابذة اللغة العربية والدراسات الإسلامية في المدارس والجامعات و ” إصلاحيات ” التعريب .
هناك إشكالية أخرى وهي أن أغلب الأساتذة المحاضرين والمعيدين في مادة الإلقاء بمعاهد وأكاديميات الفنون المسرحية يعتبر ممن تعايش وتخضرم مع هذه المصادر والتعاليم وتشربها سمعُه ووجدانه بكثافة، لذا تجد من الصعوبة جدا أن يكون للجسد المسرحي حضورا دون صوته، أو لصوته دور دون كلمة، أو لكلمته قيمة دون تجويد أو إدغام، وعلى هذا الأساس تأتي ملاحظاتهم على أدائه. الصوتي أولا وقبل أي شيء آخر، فتصورهم متفرجين على عرض مسرحي صامت، يا ترى ماذا سيكون عليه حالهم ؟! .
هذا النوع من الإلقاء التقليدي لا تزال بعض المسارح تصر على ضرورة ممارسته والاحتفاء به في بعض الأمسيات ، دون إضافة أي جديد عليه ، أو دون محاولة منها حتى لمعرفة ما هو مسرحي في هذا النص المقترح للقراءة وما هو غير مسرحي.
والطريف في الأمر هو أن بعض هذه المسارح تصر على ضرورة الإلقاء المسرحي باللغة العربية الفصحى ، في الوقت الذي تزاول فيه نشاطها المسرحي عبر الإمعان والتأكيد على اختيار نصوص باللغة الدارجة ، بل العامية القح ، فأية مفارقة هذه ؟! .
أعتقد أن اللغة في المسرح حالة تتجاوز هذه التعاليم وهذه المصادر ، حالة لا تقف عند حدود الفصحى واللغة الثالثة والعامية ، إنها فن ومخيلة وحالات متداخلة ورؤى غرائبية ، إنها فن يقبل التأويل دائما ، فن حي التحامي اشتباكي متوالد الدلالات ، الكلمة فيها تستحيل جسدا يشتعل ، صور تتمرأى ، تتوالى ، المسرح فن يستحضر البدئي غير المكتشف من الحروف والصوتيات في أداء الممثل ، يحيل الكلمة حركة شاعرية ويضيف للكلمة روحا مثْراءة .
هكذا فعل كثير من المخرجين التجريبيين المبدعين ، وهكذا فعل أبوللينير أولهم مع اللغة عندما راح يمعن في تفكيك اللغة ليكتشف جمالية مسرحية جديدة تستثير تمرده وهوسه ، وهكذا فعلت أريان نوشكين عندما رأت أهمية المسرح تكمن فيما تكتشفه اللحظة من جماليات جديدة في لغة المسرح ، لا فيما نستحضره كضرورة تعليمية من تعاليم مسرح ستانيسلافسكي ، وهكذا فعل مخرجنا المبدع جواد الأسدي عندما أضاف بعد معاناة حرفا جديدا لممثلته ندى حمصي في مسرحية ” خيوط من فضة ” ، وأكثر من كل هذا وذاك فعل مخرجنا المبدع توفيق الجبالي عندما أحال اللغة كلها صورا شاعرية سحرية آسرة في مسرحيته ( المجنون ) ، وهكذا يحلو لنا عندما يتعسر علينا تجويد الكلمة ، تشكيلها ، وفقا لما هو تقليدي ، أن نمعن الاهتمام بجمالية الحفر في الحركة والامتداد في حيز الفراغ المسرحي ، فغالبا ما يتوارى ويترصد خلف وبين هذه الجمالية وهذا الامتداد شيء غامض ومثير يحفزنا على انتظاره بشهوة صارخة لا حدود لها .