“حلم ليلة منتصف الصيف” كما أخرجها المخرج الشكسبيري البريطاني جون كايرد / د. فاضل الجاف
ملاحظة: جرى العرض على المسرح الملكي في ستوكهولم عام 2000 ، نشر المقال في جريدة الشرق الأوسط قبل إثنين وعشرين عاما.
********************
خلق المجنون والعاشق والشاعر من الخيال جميعا: ف
أحدهم يرى من الشياطين مالا تسعه الجحيم الشاسعة
ذاك هو المجنون. أما العاشق فهو لا يقل خبلا
إذ يرى جمال هيلين في جبهة غجرية!
وأما عين الشاعر التي تدور في حماس رهيف
فهي تهبط من السماء إلى الأرض ,
ثم تصعد من الأرض إلى السماء,
وبينما يجسد الخيال صور المجهول,
يشكلها قلم الشاعر, ويجعل لهباء العدم مكانا في الوجود ويمنحه اسما محددا.
فالخيال القوي قادر على هذا الخداع فإذا أحس ولو بفرح قليل,
تصور مصدرا ما لهذا الفرح , وإذا توهم بعض الخوف أثناء الليل فما أيسر أن يتصور الشجرة دبا مفزعا!
( المشهد الاول من الفصل الخامس, ترجمة د. محمد عناني )
حقق عرض مسرحية ” حلم ليلة منتصف الصيف” لشكسبير على المسرح الملكي باستوكهولم نجاحا باهرا على الصعيدين الفني و الجماهيري, لم يحققه أي عرض شكسبيري اخر على المسارح السويدية طوال العقود الاخيرة . فقد اجتاز العرض الموسم المنصرم باقبال شديد عليه, ولايزال الاقبال هذا في أوجه, مما يدل على أن العرض سيجتاز الموسم الجاري إلى المواسم المقبلة.
من الأرجح ان مسرحية “حلم ليلة منتصف الصيف” كتبت حوالي عام 1595 أي في السنة نفسها التي كتب فيها شكسبير مسرحيتي “روميو وجوليت” و “تاجر البندقية”. ويذهب مؤرخوا المسرح الى الاعتقاد بأن أول عرض للمسرحية جرى في قصر لآل ساوث هامبتون في تشانسري لين في هولبورن بلندن عام 1604, وأن المسرحية كتبت خصيصا لتقديمها في حفلة زفاف إحدى السيدات التي كان شكسبير يرتبط مع إبنها بأواصر صداقة متينة. وبرغم ما قال فيها الناقد بيبوس عام 1662 من أنها أتفه وأسخف مسرحية شاهدها في حياته. فانها أكثر مسرحيات شكسبير رواجا و شعبية. فقد باتت تقدم بأشكال فنية مختلفة, حيث أخرجها للمسرح على مر العصور كبار المخرجين من أمثال باسيل دين و ماكس رينهاردت و بيتربروك وبيتر هول و روبرت ليباج في الوقت الحاضر, كما انها كانت على مر العصور مصدر إلهام لعروض شهيرة في الباليه والاوبرا من قبل المع مؤلفي الموسيقي الكلاسيكية من امثال بورسيل وميندلسوهن و بريتين. ناهيك عن الافلام السينمائية العديدة التي جسدت هذه المسرحية.
في معظم المعالجات الاخراجية تشكل رؤية المخرج للغابة النواة والبذرة الاولى في تناول المخرجين لهذه المسرحية السهله ظاهريا والشائكه جوهريا. ان الغابة في مسرحية “حلم ليلة منتصف الصيف” لا تمثل الطبيعة فحسب بل تتعداها لكي تمثل غرائزنا أيضا على حد قول يان كوت في كتابه القيم (شكسبير معاصرنا), فعلى سبيل المثال كانت الغابة في إخراج المخرج النمساوي ماكس رينهاردت الأخير للمسرحية عام 1927 تجسيدا حقيقيا لعالم الجن في اطار حلم قائم على مشاهد مسرحية موسيقية راقصة كأنها نموذج من فن الباليه. ولاشك ان المبادرة في تناول “حلم ليلة منتصف الصيف” ورواجها و شعبيتها في المسرح الحديث تعود بشكل أساسي الى رينهاردت الذي أستمر يعيد إخراجها منذ عام 1905 مرة تلو الاخرى 1927 حتى بلغت إثنتي عشرة مرة. ليخلدها أخيرا في إنتاج سينمائي لايزال يحتل مكانة متميزة إلى يومنا هذا. اما في إخراج بيتر بروك الشهير على مسرح رويال شكسبير في السبعينات من القرن المنصرم فقد كانت الغابة فضاء مسرحيا عاريا تضمه جدران بيضاء, في حين كان الممثلون يقفون على مرأى من المتفرجين متأهبين للدخول الى المسرح المصمم على شكل مكعب كبير. كان كل شئ ممسرحا بدقةا لى اقصى درجات المسرحة أو التمسرح , وكان أداء الممثل المرتكز على الفعل الحركي والقائم على العاب السحر والسيرك والمصارعة واللعب على الاراجيح, يشكل لولب العرض. كان واضحا ان بروك استلهم اسلوب اخراج المسرحية من منهج مييرهولد البيوميكانيك كما اقر بذلك بنفسه في برنامج العرض. جاء عرض برووك كرد على عرض مسرحية “حلم ليلة منتصف الصيف” للمسرح نفسه من إخراج بيتر هال قبل ذلك بأحد عشر عاما, وبإسلوب مسرف في التفاصيل الواقعية والطبيعية. ففي مشاهد القصر لجأ هول الى التجسيد بالكواليس في محاولة لخلق التأثير الواقعي. أما في الغابة فقد كانت ثمة شجرة كبيرة موحية بالغابة قابعة وسط المسرح.
في التسعينات حول المخرج الكندي روبرت ليباج خشبة مسرح ( أوليفيه ) الفسيحة في المسرح القومي بلندن الى مستنقع موحل يتمرغ فيها العشاق في جنون وشبق بينما أيادي الجن المخفية تعبث بهم وتقودهم الى الطيش والجنون.
هذه بعض امثلة لعروض مسرحية “حلم ليلة منتصف الصيف”, ولا يسع المقام لذكر امثلة اخرى لكثرتها. استقدم المسرح الملكي في استوكهولم لإخراج هذه المسرحية المخرج البريطاني جون كايرد أحد أهم مخرجي بريطانيا في الوقت الحاضر والذي عمل في رويال شكسبير كومباني إثنتي عشر عاما. وهذه هي المرة الثانية يخرج فيها كايرد مسرحية “حلم ليلة منتصف الصيف”. اما احدث اعماله الاخراجية في بريطانيا فقد كان اخراجه مسرحية “هاملت” على المسرح القومي بلندن في صيف عام المنصرم. اشتهر كايرد منذ بداية مسيرته الفنية بتعاونه الوثيق مع المخرج تريفور نن المخرج الاول ومدير المسرح القومي ( استقال منه قبل شهرين فقط ) ذلك التعاون الذي أثمر عن اخراج مشترك لتسعة اعمال مسرحية طويلة لعل اشهرها اخراجهما المشترك للمسرحيات الموسيقية الشهيره ( نيكولاس نيكلبي لتشارليس ديكنز ) و ( البؤساء لفيكتور هوغو). ولايزال الإقبال عليها شديدا برغم مضي 17 عاما على عرضها الإفتتاحي.
يطرح كايرد رؤياه للغابة في البيان الصحافي التمهيدي للعرض على النحو التالي:
ان المشهد الاول في المسرحية مشهد غريب جدا. كان بإمكان هذا المشهد ان يكون مشهدا إستهلاليا لاية مسرحية تراجيدية, فهو شبيه لمطلع مسرحية روميو و جولييت, أب غاضب, دوق, اولاد يائسون, يعانون من مشاكل الحب الابدية. في المشهد الثاني يدخل عدد من الممثلين وهم يخططون لإخراج مسرحية. حينذاك فقط يدرك المرء من سياق الأحداث ان المسرحية كوميدية. ثم ننتقل مع بوك و الجنيات الى الغابة. ونفهم ان المسرحية ليست مجرد ملهاة بل انها كوميديا مجنونة, عالم مجنون تلاشت فيه قواعد السلوك الإنساني بأسرها.
مسرحية “حلم ليلة منتصف الصيف” مسرحية مظللة يصعب على المخرج لم عوالمها المتعددة الالوان والأجواء في بناء إخراجي محكم ومتزن تتمتع فيه جميع اجزاء المسرحية بنفس النسبة من البناء الفني المتناسق. انها مسرحية تبدو سهلة في ظاهرها كأية حكاية مألوفة من حكايات العشاق وعوالم الجن والاحلام , مما يغري الكثير من المخرجين ويدفعهم بالتصدي لإخراجها. لكن معظمهم يخفقون في إيجاد ذلك التوازن
الضروري بين أجزائها ما لم يعتمد المخرج تقنية عالية ويتمتع بقدرة فنية كبيرة مثل ماكس رينهاردت و بيتر بروك. ذلك لأن أجزاء هذه المسرحية , دون الكثير من المسرحيات, تشكل عوالم مختلفة في طابعها و مناخاتها وشخصياتها ولغتها وبنائها الدرامي. عالم العشاق : خصام ورومانتيكية وجنون وفظاظة في نفس الوقت. عالم الجن : عالم السحر و الشاعرية والمسخ واللامعقول والشبق ممتزج بالخوارق. عالم القصر: الإرادة الابوية المدعمة بسلطة الدوق الحاسمة في تحديد مصير العشاق. وأخيرا عالم الحرفيين: عالم فضاء المسرح الفقير والمسرح الشعبي.
وينفرد الحرفيون بعالم ممتيز لا يضاهي العوالم الاخرى سبكا ومتانة فحسب, بل انه الأصعب تجسيدا على الخشبة بما ينطوي عليه من افكار هامة في فن الممثل وجماليات التجسيد الابداعي في علاقة الممثل بالمتلقي, إلى جانب تصورات شكسبير العميقة عن المسرح الشعبي وضرورة مسرحة كل ما هو قائم على المسرح, بالإضافة إلى تأكيده على اسلوب المسرح داخل المسرح.
مركزا على تحليل الجانب الإيروسي من المسرحية, أغفل يان كوت في دراسته العميقة للمسرحية, أهمية مشاهد الحرفيين التي منها تنبع اصول الاداء الشكسبيري وبناء المسرحية القائم على مبادئ المسرحة البحتة.
ويمكن القول ان مشاهد الحرفيين تحمل في طياتها تجسيدا فينا بارعا لما يسمى بالاسلبة والمجازية والإيحاء و التلويح عند مييرهولد وعرض الدور دون تقمصه والعلاقة بين الممثل و المتلقي عند بريخت, وصورة واضحة لما يسميه بروك بالمسرح الخشن. وبهذا يكون شكسبير قد سبق مخرجي المسرح الحديث والمعاصر ممن تصدوا للاساليب الواقعية والطبيعية, أو مهد لهم السبيل في كثير من كشوفاتهم الإخراجية.
و من دون فهم هذا الجانب يتعذر على المخرج تجسيد المسرحية في صورتها الفنيه الآ.سرة. وفي إعتقادي ان سر إبداع بروك في إخراجه الذي خلده تأريخ المسرح, يكمن في فهمه العميق لهذه النقطة بالذات. إن للعشاق والمجانين عقولا فوارة وخيالهم قوي خلاق, يرى ما يعجز عن إدراكه العقل الهادئ ( المشهد الأول من الفصل الخامس). بهذا المنطق يرد الدوق على عشيقته هيبوليتا في تفسيره سلوك العشاق وما جرى لهم من اعاجيب القصص. بنفس المنطق يقيم جون كايرد عرضه المسرحي الشيق مؤكدا بالدرجة الأولى على سلوك العشاق الساذج وتقلباتهم السريعة المضحكة ومطارداتهم الهوجاء لبعضهم وتحولاتهم في أقاليم الغابة السحرية. ان الإطار الاسطوري السهل للمسرحية والممتع في آن واحد, تشكل نبرة العرض الأساسية بعيدا عن تعقيدات المدارس النفسية والتحليلات الفرودية التي ظلت تثقل كاهل هذه المسرحية الخفيفة خفة الأحلام الشفافة. ومن الناحية الفنية أيضا يبتعد المخرج كل الابتعاد عن الاساليب المسرحيه المقحمة و اللامألوفة بقصد خلق تأثيرات مسرحية في الاسلوب من النوع الذي يسمى أحيانا بالتجريبية. فالغابة غابة فحسب والجنيات ليست إلا جنيات كما تصورها الكتب والاساطير وليست ضربا من مرضى فرويد المصابين بالهيستيريا, كما يقول الناقد السويدي ليف زيرن. ان كايرد مزج في إخراجه مسرحية “حلم ليلة منتصف الصيف” التقاليد الشكسبيرية بتقاليد الويست إيند الخلابة ببهجته الموسيقية الشجية و عنفوان رقصاته الجياشة, مما حدا بالسويديين ممن عرفوا بدأبهم للسفر الى الويست أيند وولعهم بمشاهدة العروض المسرحية هناك الى القول: لقد جاء الويست إيند بنفسه إلينا هذه المرة.