دا احنا فقرا يايوسف.. صرخة الغناوي التي ضاعفت شغفي بالمسرح .. / بقلم: يوسف الحمدان
في الاعدادية الأولى وبعد أن غادرت مدرسة أحمد الفاتح أولى المدارس الاعدادية في الرفاع الشرقي في وقت مبكر من افتتاحها عام 1971 متوجها إلى مدرسة مدينة عيسى الإعدادية الثانوية للبنين للالتحاق بقرنائي الذين فضلوا هذه المدرسة على الفاتح أو الذين التحقوا بها لعدم وجود فصول لتدريس الثانوية في هذه المدرسة ( الفاتح ) أو الذين التحقوا بها قبل افتتاح هذه المدرسة الاعدادية بالرفاع الشرقي ، تبدأ حياة جديدة لم تكن في حينها تتوفر في مدارس الرفاع ، معرفتي الأولى بالمسرحي والفنان الكبير الراحل محمد عواد، الكشفية وأنشطتها الفنية المتعددة والمغرية على الانخراط فيها طوعا وحبا، الأصدقاء الجدد وتنوع الثقافات والاهتمامات، الأساتذة الذين جاؤوا بثقافات وطنية لم اعهدها في الرفاع، التعرف على شخصيات مولعة في المسرح وتمارسه وتعيشه في المدرسة وخارجها، وكما لو انتي وجدت في هذه المدرسة ضالتي التي من شأنها أن تنضج ولعي المبكر في المسرح وتوصلني إلى محطات تجسيده الحقيقي في مختلف مناطق البحرين وخاصة في المنامة والمحرق.. هذه المدرسة كانت بالنسبة لي موقع نضج عواطفي الأولى ومدرسة مراهقتي الأولى وتفتح عيناي على كتب وكتاب مختلفين وعلى وطن يتجاوز حدود خارطة الطفولة والنشىء الأولى..
كل شيء في هذه المدرسة يدفعني أكثر نحو ضرورة أن تكون لي شخصية مستقلة، شخصية ذات وصل حميم بالمسرح الوطني الأكبر، والتي فيها لأول مرة أفكر فيها أنا وبعض قرنائي الرائعين من خارج الرفاع، محمد الذوادي، علي مكي، أسامة الدلال رحمه الله، حسين المخرق ، جمال حميدان ، أفكر أو نفكر بالأحرى ، في مستقبلنا الدراسي بعد التخرج ونحن في الإعدادية الأولى أو الثانية ، فكل منا له اهتمامه الخاص بعد التخرج، ولكني كنت الشغوف بالمسرح والأدب ولا بد من تخطي معوقات بعض المواد العلمية والرياضية كي أكون مؤهلا للخلاص من عقدة مادة الرياضيات ويرتاح بعدها دماغي منها عندما انتقل إلى الثانوية قسم الأدبي..
وأذكر أني بسببها عانيت الأمرين، وذلك ذات امتحان شفوي فيها يضطرني لمعرفة ما يطلب مني في الإجابة على بعض الأسئلة، وأذكر أني دخلت الفصل وأنا في غاية الخوف والارتباك، خاصة وأني لم أذاكر الدرس تماما وأهمها أني حتما لم ولن أعرف الدرس حتى لو ذاكرته وسخرت كل الوقت له ..
وأذكر أن مدرس هذه المادة الأستاذ محمد الغناوي، وهو مدرس مصري متعمق في مادة الرياضيات ولطيف في غاية اللطف الأمر الذي يدفعك للاطمئنان لأنك حتما تعرف أنه ليس من ذوي الشدة والقسوة في التدريس كبعض المدرسين، ولكني أعلم أني تماديت كثيرا في سوء فهمي للطفه وتواضعه ودماثة خلقه، حتى جاء ذلك اليوم الذي تهتز فيه كل أركان جسدي ولم يكن المتوقع في الحسبان، فما إن طلب مني الأستاذ الإجابة على سؤال قد يبدو لبعض الطلبة في غاية البساطة، وقفت متسمرا في مكاني لا أعرف الاجابة ، بل أني اجزم بأني حتى لو عرفتها قبل الامتحان سانساها من بعده مباشرة..
وما كان من الأستاذ الحليم غناوي إلا أن شدني بقوة من صدر قميصي ولصق ظهري ، بل سمره بقوة على السبورة وهو يرفعني بيديه الطويلتين الغليظتين كي يراني كل الطلبة من خلف رأسه وهو يصرخ في وجهي بحرقة: دا احنا فقراء يايوسف.. لازم تتعلم.. أنا مش حسيبك ترسب.. لازم تتعلم.. كانت صرخته بالنسبة لي أقوى من الصفعة ذاتها، وكم رأيت حينها الحنو كله على وجهه بعد أن أسلم جسدي للأرض..
كنت في غاية الدهشة والاستغراب.. إذ كيف لهذا الأستاذ الوديع الذي تبدو على محياه الطيبة والبساطة والذي يبدو جسده من شدة نحافته كقصب السكر والمتواضع جدا في زيه وأخلاقه أن يتحول إلى كائن آخر لا يشبهه في هذه اللحظة إلا النمر ؟ .. وبعد أن انتهت الحصة جائني والحزن يملأ وجهه: يايوسف انت مش عاوز تتعلم رياضيات ليه؟ أجبته متلعثما ورأسي من شدة ثقله بعد صرخته المفاجئة في وجهي يوشك أن يسقط على الأرض: لا أعرف.. لا أفهم.. هو : يعني ما بتحبش الرياضيات.. ؟ أجبته: لا أعرف.. هو: بتحب إيه مثلا؟
أجبته: أدبي..
هو وهو يضحك: طب انجح حتى اتخش أدبي يامؤدب..
قلت: انشالله أستاذ..
هو: بتحب إيه في الأدبي يايوسف؟
أجبته: المسرح..
هو : طب خلص الاعدادي يايوسف أولا عشان تخلص من الرياضيات وتخلص مني ومن الاعدادية..
بعدها بذلت جهدا كبيرا لتعلم الرياضيات من أجل الأدبي والمسرح وكان عوني في مادة الرياضيات من الطلبة آنذاك عبدالله عبدالعزيز حجي، وهو زوج شقيقتي بعد أن جمعتهما مودة مابعد التخرج والعمل، الذي كان لشدة حبه وولعه بالرياضيات كان يتعامل معها، حسب تعبيره المبسط، بأنها أشبه بالتسلي بالحب الشمسي .. وفعلا تعلمت منه ما اسعفني على تخطي عقدة الرياضيات في الاعدادي..
وبعدها أصبحت أكثر حبا وانشغالا بالمسرح في المدرسة وفي نادي الرفاع الغربي وأكثر تأهلا للدراسة الأكاديمية في قسم النقد المسرحي والأدبي بالكويت..
هي صرخة الغناوي التي قربتني فعلا من طموحي وولعي بالمسرح ودفعتني لأن أشكر من قلبي استاذي الغناوي على هذه الصرخة التي أيقظت في روحي شغفا لولاه لكنت احلم باليوم الموعود الذي ساكون فيه طالبا في هذا الحقل ولم أصل ربما حتى هذا اليوم..