مظاهر الشعرية في مسرحية (الجهة المقابلة) / أ.د مجيد حميد الجبوري
في مجموعته المسرحية الموسومة “ما تبقى ليس هنا”؛ فأن الشاعر (علي الربيعي) يقدم ثلاث نصوص مسرحية؛ من ذوات الفصل الواحد؛ تتجلى فيها مظاهر شعرية عديدة تعمق من درامية تلك النصوص المسرحية وتمنحها افاقا وأعماقا جديدة، ومن منطلق أن بالإمكان رصد مظاهر شعرية تتداخل مع بنية الدراما وتزيد من طاقتها وفعالياتها، فأن الباحث أختار نص مسرحية “الجهة المقابلة” لدراسة المظاهر الشعرية التي وردت فيها؛ ولعل من أولى مظاهر الشعرية التي تبرز في هذه المسرحية ، هي تلك البداية الاستهلالية التي يقدم فيها المؤلف الشخصية الرئيسة وهي شخصية (الدوار)، والدوار هنا ليس أسما للشخصية ، وإنما هـي صفة عامة تطلق في العراق على كل من يمتهن الدوران في الشوارع والأزقة دافعا أمامه عربة خشبية ذات عجلات، مناديا (عتيق للبيع) ؛ وهذه البداية تسجل عدة مظاهر شعرية، فأسم الشخصية تحرر من خصوصيته ليصبح صفة عامة تتعلق بشريحة اجتماعية موجودة في المجتمع؛ غير أنها شريحة مهمشة تتلقط مصدر عيشها من خلال التعامل بشراء وبيع المواد المعطوبة أو المستهلكة أو المنتهية صلاحيتها، ومع ذلك فهي شريحة متهمة ومشكوك في ولائها ومراقبة أين ما حلت وارتحلت؛ فهناك من يتهمها بأنها عيون لعصابات السرقة تدخل البيوت لتتفحص مداخلها ومخارجها، وهناك من يتهمها بأنها تستغل حاجة الناس للمال وتشتري المواد المستعملة بأبخس الأثمان؛ وغيرها من الاتهامات، اما المظهر الثاني فأنه يتعلق بعملية الشراء والبيع، فهذا الشخص يشتري من الناس أي شيء، وفي العادة يكون الشراء لما هو جديد، غير أن هذا الشخص يشتري ما هو مستهلك ومعطوب ومنتهية صلاحيته، وهذا ما يعد خرقا للسنن، والمظهر الثالث هو ذلك التضاد الواضح بين مظهر الشخصية المتعب الذي يدلل على فقـر مدقع وبيــن اللغة العالية التي تشير إلى مستوى ثقافي عالٍ يتحدث به هذا الشخص، إذ أنه يستهل المسرحية بالعبارة الآتية:
((الدوار: أيتها الحارقة! …رفقــا بي، رفقا بابنك المعطوب، فمن سنين وأنا أدور أيتها الحارقة ))(1) ، ويدلل هذا التضاد بين المظهر واللغة على أن هــذا الشخص يمتـلك شهادة لا تقل عن مستوى الشهادة الجامعية، لكنه أضـطر نتيجة لعـدم وجــود وظائف تليق بشهادته أو عدم توفر فرص عمل تحترم مســتواه الاجتماعي، أن يمتهن هذه المهنة القاسية. وهي حالة ســائدة في المجتمع العراقي المعاصر، إذ بلغت مستويات البطالة أقصاها بعد عام 2003، ما أضطر كثير من الشباب الحاصلين على شهادات جامعية الاشتغال بأي مهنة توفر لهم ولعوائلهم لقمة العيش، ولا تقتصر مظاهر الشعرية على التضاد أعلاه، بل تتعدى ذلك إلى مظاهر أخرى، فالدوار يخاطب ما أسماه (الحارقة)، وهو يقصد (الشمس) ، وهذا يشير إلى مظهر شعري أخر هو الإحلال والتعويض لبيان صورة أخرى للشمس، هي غير الصورة المقترنة بالأمل والإشراق، بل هي صورة تحرق السائرين تحتها، ولو تذكر أي متلقٍ بأن (الحارقة) هي من صفات (جهنم) لتبين له مدى قسوة هذه البداية الاستهلالية ومدى توترها، ثم ها هو الدوار يتوسل بــ(الحارقة) أن ترفق به، فكيف يمكن تصور أن يرفق ما هو حارق بضحاياه !! غير أن الدوار يعد هذه (الحارقة) أما له لذلك فهو يسألها الرفق، والأم معروفة بحنانها ورقة تعاملها مع أبنائها، إلا أن الأم هنا قاسية حارقة وفي هذه الصورة يبرز مظهران شعريان في آن واحد: الأول هو جمع المتضادات (الشمس الحارقـة مقابل الأم الحنون)، والمظهر الثاني هو خرق السنن، فسواء الشمس أو الأم، فأن كلا منهما خرق ما هو مألوف عنه ليقوم بوظيفة مغايرة.
وعودة للعبارة الاستهلالية لقراءتها صوتيا، فأن القارئ سيلحظ مظهرا شعريا آخـر يتمثل في تكرار حرف القلقة (القاف) وهيمنته على العبارة بأكملها، وهـو ما يثير شعورا بالقلق، فضلا عما يدلل من مظهر شعري يبين الانسجام الأسلوبي الذي يمكن ملاحظته على مستوى الإيقاع الداخلي المتدفق للكلمات.
وبعد أدراك أن هذه الأم /الشمس المحرقة لا تستحق معنى الأمومة لأن شيمتها التعذيب والحرق؛ فأن (الدوار) يحاول قطع أي صلات تجمع بينها وبينه، فيسوق الحجة البلاغية الآتية، التي لا تقل شعرية عما سبقها (( الــدوار: طيب ، طيب أنت فطمت على النار ، ما ذنبي أنا لأحرق فيك؟))(2)، والمعروف أن فطام الرضيع يكون عن الحليب، أما فطام الشمس فجاء هنا عن النار ، وفي هذا خرق واضح لسنن التعبير، أما التساؤل الأخير ففيه مقاربة من الأسئلة الوجودية، إذ فيه عتاب من إنسان عاقل على ظاهرة طبيعية لا يمكن لها أن تعقل هذا العتاب، وهو خرق أخر لسنن التعبير، ولا يمكن مغادرة هذه العبارة دون الإشارة إلى ذلك التكرار الذي يظهر في بدايتها والذي يؤكد أبتداءً قناعة راسخة للقائل بما يعقبه من معنى.
ويتحقق أكثر من مظهر شعري في عبارة قصيرة تالية؛ تحمل بلاغتها من خلال تكثيف المعنى وحسن سبك العبارة، وذلك عندما يخاطب (الدوار) زملاءه الفقراء بقوله:((أيها الباذخون في الفقر))(3) والبذخ يقترن بالثراء ولا يقترن بالفقر؛ فمع ما في التعبير من تجاور للأضداد (البذخ – الفقر)، فأن في التعبير خرق للسنن المألوفة. وثالـث المظاهر الشعرية في هذه العبارة القصيرة هو : ذلك الانسجام الأسلوبي الذي يلوح بين نظم المعاني والإيقاع الداخلي المتدفق للكلمات، حتى أن إيقاعها يحملّها موسيقية لا تخفى على أذن المتلقي ذي الحس المرهف؛ تأتي من استمرارية في حروف المد (الألف والياء والواو) والتي تختم بحرف قصر ساكن هو (الراء) .
ويظهر الانحراف الأسلوبي على أشده في ذلك الانزياح على المستوى اللفظي والمضموني الذي تحمله عبارة قصيرة أخرى يقولها الدوار هي: (( أبيعوني من هزائمكم !!!) (4) ومع ما تحمله صياغة كلمة (أبيعوني) من غرابة في النحت، تجعلها غريبة على الأذن؛ غير أن محمولاتها الدلالية والشعرية تبدو واسعة وكثيرة، فالفعل الرباعي (أبيع) جاء بمعنى (أشتري) وهو ليس موجها إلى فرد وإنما إلى جماعة، ففيه انتقال مما هـو خاص إلى ما هو عام، وأن هذا الذي تشترك فيه الجماعة هو أن لديها الكثير من مادة فائضة عـن حاجتها ويرغب (الدوار) بشرائها، غير أن المفاجأة التي تأتي لتكسر أفق التوقعات أن هذه المادة الفائضة هي (الهزائم)، وهي غير قابلة للبيع أو الشراء، وبالتالي تجتمع في هذه العبارة القصيرة أيضا، عدة مظاهر شعرية هي: الانزياح الأسلوبي على المستوى اللفظي والمضموني، وكسر أفق التوقع، وتحرير المعنى، فضلا على ما فيها من خرق لسنن التعبير.
وتتعزز عوامل الإدهاش والتوتر عندما يردف (الدوار) ما تقدم ؛ بمناداته وبأعلى الصوت ((من عنده أرق للبيع … قلق للبيع … رمق للبيع))(5) ، ومرة أخرى يبرز مظهر خرق سنن التعبير واضحا بسؤال الدوار أن يبيعه الناس ما يستحيل بيعه أو شراءه، وما مع ما تحمله المناداة من انسجام أسلوبي يكشف عنه الإيقاع الداخلي المتدفق من كلمات متقاربة في اللفظ والرسم وتكرار لحرف القلقة (القاف) وارتباطه بحروف قصر؛ فأن التصويت بهذه العبارة يشير إلى وجود مستويين متقاطعين هما المستوى العمودي الذي تدل عليه حروف القصر، والمستوى الأفقي الذي تدل عليه حروف المد التي تتكرر في الكلمة المهيمنة على العبارة وهي كلمة (للبيع)، وتقاطع هذين المستويين مع ما فيه من مظهر شعري يشير إلى تقاطع بين متضادات فأنه في الوقـت عينه يعزز من درامية العبارة ويزيد توترها بخاصة عندما تكشف العبارة عن ماهية المطلوب بيعه أو شراءه، التي تزداد مأساوية في الجزء الأخير منها عندما يعرض حتى (الرمق) للبيع. وليس من داع لإعادة التحليل وتكرار مؤشراته في العبارة التي يقولها (الدوار) وهو يخرج من المسرح في منتصف المسرحية مناديا ((جرح للبيع … حزن للبيع .. حلم للبيع)) (6)، والفارق الوحيد أن هذه العبارة هي أكثر تدفقا على مستوى الإيقاع الداخلي للكلمات، وذلك بسبب تعزيز هذا الإيقاع من خلال تكرار حرف (الحاء) القابل للمد معضدا التدفق الإيقاعي الذي يمنحه تكرار حرف المد الصريح (الياء).
وفي موضع آخر من النص تقفز عبـارة ((كالنهرِ حينَ يسافرُ في مكانهِ كمخادعٍ))(7)لتعطي انطباعا بأن العبارة هي بيت شـعري موزون يتخلله انسجام لفظي على المستوى الإيقاعي للنظم، وهو ما يشير إليه توالي حرفي (الكاف ، والنون) في أماكن متقاربة، فضـلا على ما تنطوي عليه العبارة من اجتماع لمتضادين على المستوى المضموني ؛ فالسفر يقترن بالانتقال من مكان إلى آخر ، غير أن السفر هنا لم يكن (إلى مكان)؛ بل جاء سفراً (في المكان)، ومع أن قائل العبارة يبرر هذا السفر على أنه أشبه بالخديعة في نهاية العبارة؛ غير أن ذلك لا يمنع من تلمس وجود ضدين اجتمعا؛ ليقدما مظهرا شعريا ثالثا في هذه العبارة وهو كسر أفق التوقعات.
وعلى نحو مماثل تأتي العبارة الآتية التي يقولها (الدوار) لتعطي انطباعا بتدفق شعريتها على المستوى الإيقاعي والمضموني، حتى أنها توحي وكأنها مقطع شعري في قصيدة، أكثر من إيحائها ، بأنها جزء من حوار مسرحي : ((إن مدينتي بيضاءَ جميلة كالنوارسِ ، كالأنبياءِ يتساقطونَ إلى أعلى))(8) ، وفضلا عما تقدم فأن العبارة تضيف مظهرا شعريا بارزا هو خرق سنن التعبير ، فالسقوط – كما تقره السنن – يكون باتجاه الأسفل ، إلا إن المؤلف عمد إلى منح عبارته منحىً مغايرا ، منحىً مستحيلا، ذلك لأن السقوط هذا لا يرتبط ببشر عاديين؛ بل يرتبط بالأنبياء ذوي السمو والشأن الرفيع، فهم حتى في سقوطهم لا يمكن أن ينحدروا إلى أسفل، بل هم يسمون إلى أعلى، يســمون نحو الرب، وفكرة (السقوط إلى أعلى) تعد مظهرا شعريا يشير إلى قدرة المؤلف على التجاوز المبدع وحسن التخلص، وأجمالا فأن البياض المحلق في الفضاء، هو الذي يهيمن على الصورة النهائية للعبارة، فهو بياض يجمع بين لون المدينة ولون النوارس وهالة الأنبياء، والثلاثة مجتمعين يحلقون في فضاء واسع يعلو على البشر، وهـو ما يجعل هذه العبارة على المستوى الدرامي غنية بما هو مضمر، فهي من ناحية أولى تعد من العبارات النادرة – في هذا النص – التي تحمل إشراقا بالأمل، ودعوة للسمو، ونشدانا لفضاء الحرية، وهي من العبارات النادرة – أيضا – التي يهيمن في اللون الأبيض وسط مدينة جللها سواد الحرائق والحروب.
وآخر مفارقة شعرية يسوقها المؤلف في هذه المسرحية ذات الفصل الواحـد؛ تأتي في قول (الدوار): ((حديد عتيق … عتيق حديد))(9) ، وشتان بين معنى الشطر الأول من العبارة وبين معنى الشطر الثاني منها، فمع التماثل والانسجام الأسلوبي على مستوى التصويت واللفظ والرسم، وما تحمله العبارة من إيقاع موسيقي بين، ألا أنها تحمل مفارقة كبيرة على المستوى المضموني، فسـمة (العتيق) تحمل معاني الاستهلاك والقدم وبلاء الشيء وعدم فائدته وهي أوصاف للحديد الوارد هنا، غير أن الجزء الثاني جعل من (العتيق) صلدا متماسكا يمتلك قوة لا تضاهى هي قوة (الحديد).
الهوامش:
- علي الربيعي ، مسرحية (الجهة المقابلة) ضمن كتاب: (ما تبقى ليس هنا : ثلاث مسرحيات ذات الفصل الواحد) ، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة ، 2008 ، ص:47.
- المصدر نفسه، ص:47.
- المصدر نفسه:ص48.
- المصدر نفسه:ص:48.
- المصدر نفسه:ص:48.
- المصدر نفسه:ص:48.
- المصدر نفسه:ص:50.
- المصدر نفسه:ص:51.
- المصدرنفسه:ص:56