نص مسرحي: “الـــمَـــحْـــوُ / زمن المسخ ” / تأليف: نزهة حيكون

في مدينة ما في هذا العالم الفسيح، في زمن قد يكون هذا الزمن، أو ربما في مستقبل السنوات القادمة، المدينة تقرر اغلاق كل منافذها الجوية والبرية والبحرية. أصيب أهل هذه المدينة بوباء غريب، وباء يجعل ملامح وجوههم تختفي شيئا فشيئا حتى يصيبهم الاختناق ويموتون وبوثيرة متسارعة، إلى جانب غرابة هذا الداء، العدوى به أيضا غريبة إذ كل من رأى مريضا وتعاطف معه يُصاب هو الآخر، وكي لا تُصاب عليك أن تحافظ على الحياد، و”اللا إحساس” مهما رأيت من بشاعة المرض يجب أن تحافظ على برودك، بل ويستحسن أن تسخر من المصاب مهما كانت درجة قرابتك منه. وباء يمحو عند المريض به الملامح الخارجية، وأيضا يمحو الملامح الداخلية للإنسانية والشعور بالآخر عند الأصحاء.

عندما يعجز الأطباء عن معرفة أسباب وأصول هذا المرض الخطير، يتجهون للوقاية منه، ويتوجه بحثهم إلى كيفية قتل إحساس البشر بالتعاطف والشفقة مع بعضهم البعض لأنهم بهذا سيقضون على تفشي الوباء الغريب بشكل نهائي. ينصب البحث اذن عن دواء ضد الرحمة، وضد الإنسانية، ولأجل ذلك يستعين الأطباء بفئة السجناء –باعتبارهم أكثر البشر قساوة حسب رأيهم-  سجناء جرائم القتل والاغتصاب والاعتداءات الوحشية لاستخلاص مصل مضاد للمحبة وللرأفة ولكل إحساس جميل.. لكن الوضع يزداد تفاقما..

 

الشخصيات:

أ – من هيئة الأطباء: – حسن: طبيب أوبئة – ليلى: طبيبة باطنية – خالد: أخصائي تحليل دم – وئام: طبيبة نفسية – ممرضة

ب – من السجن المدني: – سامي: مدير السجن – سيف: السجان – محمود: السجين

ج – من مجلس المدينة: – رئيس مجلس المدينة – ياسين: موظف– سميرة: موظفة

د – من عموم المواطنين: -شرطي– صحفي – مواطنون مرضى – مواطنان خاليان من الوباء (سليم – سليمة)

ه – من الحلم: – القاضية – مستشار أول – مستشار ثاني– ممثل النيابة العامة – الشاهد ـ مسؤول من العاصمة.

 

1

في معمل التحاليل الطبية تنتصب طاولة كبيرة بيضاء في عرض المكان، عليها كثير من الأوراق والأنابيب وصور الأشعة، وبعض الأدوية، يجلس في طرف الطاولة الطبيب حسن وهو طبيب مختص في علم الأوبئة، وفي الطرف الآخر تجلس وئام الطبيبة النفسية، أما ليلى وهي طبيبة باطنية فتقطع المكان جيئة وذهابا، وخالد اخصائي تحليل دم يقف مذهولا يراقب المشهد برمته وهو يحمل أنبوبا به دم.

حسن: لا أستطيع الوصول إلى حل واضح، والاحصائيات غير دقيقة..

ليلى: لا يمكن أن تكون دقيقة والوباء لا مؤشرات دالة عليه

خالد: لم أستطع رصد أي مؤشر في الدم

وئام: نفسية المصابين مدمّرة، أما أهاليهم فهم أسوأ حالا

حسن: تاريخي العلمي بأكمله في الأوبئة وعلومها الدقيقة، لكن هذا الوباء هزمني

ليلى: لا أثر لأي طفح جلدي في غير الوجه، ولا مؤشر لأي التهاب كيفما كان، أجسادهم نظيفة معافاة..

خالد: دماؤهم نقية، أكاد أقول أنها أنقى من دماء الأصحاء الآن.

وئام: حتى الأصحاء سيعانون من اكتئاب، أظن أن من لم يمت بالوباء، سينتحر بسبب ما يراه من مسوخ وتشوهات..

حسن: وباء يضرب الوجه وحده، يمحي ملامحه.

ليلى: تختفي الآدان بشكل غريب، فيفقدون السمع

خالد: وحتى أعينهم تضيق ويعلوها غشاء سميك يجعلهم عميانا

حسن: عندما فحصت أحدهم البارحة بقي جزء من لسانه في يدي

ليلى: تلك النهاية.. عندما يتسلل التشوه إلى الفم أو الأنف يفقدون القدرة على التنفس ويختنقون

وئام: ما الحلول التي ترونها؟

خالد: ليس هناك حل للمرضى.. الحل يجب أن يكون للأصحاء.

حسن: نعم.. فقدنا القدرة على التصدي للداء.

ليلى: الاكتشاف الأخير كان خطيرا.

وئام: بل قولي كارثيا.. لم يسبق لي أن سمعت بهذا النوع من العدوى.

خالد: العدوى بالشفقة

ليلى: وبالتعاطف

خالد: أمور غير علمية

وئام: لكنها واقعة فعلا

حسن: تكثر العدوى في العائلات نظرا لأواصر المحبة الزائدة، لكنها تقل بين العزاب والمهاجرين وغيرهم ممن لا يعوّل على ارتباط عاطفي.

ليلى: تطلّب الأمر مني وقتا كي أصدقه.

خالد: الأطباء المتمرسون استطاعوا النجاة، أما من يملك قلبا هشا أو أولئك حديثو العهد بمزاولة المهنة فكانت العدوى تتربص بمشاعرهم الجياشة..

وئام: إلى ماذا قد يقودنا هذا الأمر؟

ليلى: ربما علينا أن نوقف العدوى، أما المصابون فالحتف ينتظرهم

خالد: لقد تم العزل في خيام خارج المدينة

حسن: هناك من مازالت لم تظهر عليه الأعراض بعد، لكنه مصاب، وهؤلاء هم المشكلة.

ليلى: اذن العزل ليس حلا جذريا

خالد: أكيد

حسن: لم أتخيل يوما أني قد أفكر بهذا الشكل، لكن علينا التفكير بشكل مختلف

وئام: كيف؟

حسن: كيف تنتقل العدوى؟

ليلى: بالنظر إلى المريض، وقد تأكدتم رغم صعوبة التصديق.

خالد: هذه مسألة محسومة بالأقنعة السوداء التي فرضناها على المرضى.

وئام: لكن العدوى مستمرة.

حسن: هل العدوى تنتقل بالنظر وحده؟

ليلى: لا بالنظر الى المريض والاشفاق عليه، وهذا حسب ما لاحظتم أيضا.

حسن: (وكأنه وجد الكلمة المفتاح) الاشفاق..

خالد: ما قصدك؟

حسن: علينا أن نقضي على هذه المشاعر.

وئام: (مصدومة ومستفزة) ماذا تقول؟

حسن: نعم.. ولهذا أنت هنا.. من موقعك كطبيبة أمراض عقلية ونفسية وعصبية، وإخصائية تحليل نفسي تقع عليك مسؤولية كبيرة لنتمكن من تنزيل هذا الحل وايقاف العدوى بالقضاء على هذه المشاعر التي ستهلك أصحابها.

وئام: (مازالت تحت هول الصدمة) كلام غير علمي.

حسن: أين العلم اذن ونحن ندفن شعبا بأكمله تحت التراب؟

ليلى: فلتهدآ معا.

خالد: (موجها كلامه لحسن) هل فكرت في الأمر جيدا؟ أنت تعرف أننا نتق في كفاءتك كل الثقة.

حسن: بل لم أفكر في غيره.. استنفذنا كل الحلول.. هذا الداء أو الوباء أو اللعنة حتى ضربت عرض الحائط كل نظرياتنا، وكل أكوام الكتب والأبحاث التي قرأنا وكتبنا طيلة مسيراتنا العلمية..

ليلى: أخشى أن أقول أن هذا قد يكون هو الحل.

وئام: أنا أيضا أخشى أن اتّهِمكم بالحماقة.. هل تجدون الأمر سهلا ومتاحا؟

ليلى: نعرف أنه ليس سهلا.

خالد: لكن هل هو مستحيل؟

حسن: لا مستحيل مع العلم.

وئام: تارة تؤمن بالعلم، وتارة تخسف به، لم أعد أفهمك..

حسن: الحقن من دم المًصاب تقنية قديمة، لكن الحقن من دم شخص سليم وبشروط معينة لم نقم به سابقا، لا أُنكر اضطرابي، وانزعاجي، بل حتى خوفي.. الوباء ينتشر.. علميا لا مجال لدواء أو حتى لقاح لأنه لا يعطي مؤشرات واضحة، علينا حماية الأصحاء اذن.

(يصمتون بشكل مفاجئ، كل واحد يهيم في أفكاره وهواجسه الخاصة، ويفكر من موقع تخصصه في الحل الذي اقترحه الدكتور حسن)

 

2

( المكان خيمة للعزل الطبي، وضعت الأَسِرة بشكل متقابل وقد حجب الواحد عن الآخر، يُسمع أنين وآهات عالية، يدخل المرضى في حوار بينهم حتى دون سابق معرفة، ودون أن يرى الواحد الآخر، فالمكان شبه مظلم لا تكاد تراه فيه شيئا..)

المريض1: (يصرخ عاليا) النمل.. الجراد.. بل هو الذباب، شيء ما يأكل وجهي.. يأكل اللحم وينخر العظم، أسمعه..زززززززز (يقلد الصوت الذي يسمع)

المريضة1: (تصرخ) لساني.. لم أعد أستطيع الكلام شفتاي تذوبان (تبكي)

المريضة2: (تئن) هواء.. أريد هواء.. أريد الهواء

المريضة1: ستموتين

المريض2: اخرسي.. دعينا نموت .. نموت في صمت.

المريض1: (يصرخ ويئن) لحم وجهي في يدي.. بين أظافري.

المريضة1: تركوننا هنا دون شفقة ولا رحمة.. خرقوا كل حقوق الإنسان.

المريض2: تتحدثين عن أوهام.. لم نعد مواطنين.. نحن على هامش المدينة والحياة نحن في الهاوية ننتظر الموت.. لا أمل في النجاة.

المريضة2: زيارة يتيمة في اليوم.. يحملون من مات الى الخارج.. لا يقترب منا أحد..

المريض1: لا دواء.. لا خبز، ولا ماء..

المريضة2: ولا هواء أنا أختنق (تئن وتصمت فجأة).

المريض2: انتهى الإرسال.. (يسخر) شششششششش (اشارة الى صوت مذياع)

المريض1: سأتبعها..

المريضة1: أو أتبعها أنا..

المريض2: أو أنا.

المريضة1: مصير محتوم.

المريض1: لم نسمع كلاما عن علاج.

المريض2: ولا عن ناجين من هذا المكان.

المريضة1: تركت ابنتي وحيدة، لم تجتز امتحانات آخر السنة، والدها مسافر، هي وحدها في البيت.. معها الله.. قلت لها ألا تجتاز عتبة المنزل، تأكل مما في البراد، وتغلق كل النوافذ، إذا كان في موتي نجاتها فلأذهب بلا رجعة..

المريض1: أبي لا يتذكر شيئا.. قد ينسى مرضي ويعتقد أنني جاحد لم أزره هذه المدة كاملة.

المريض2: مدة..؟ (يضحك) مازلتم تشعرون بالزمن.. هل هو الليل؟ أهو النهار؟ أي يوم نحن؟ في أي شهر من أية سنة..

المريضة1: (تسأله) لا عائلة لديك؟

المريض2: لدي طفلة رضيعة حملها الأطباء ربما إلى ملجأ.. زوجتي ماتت أمام عيني لحظة لحظة.. زوجتي حبيبتي جميلة الجميلات، ماتت بلا ملامح ولا مساحيق ولا عطر.. تحولت إلى مسخ مشوه سقطت جثة بلا وجه.. قال لي الممرض في سيارة الإسعاف أن العدوى لن تنتقل إلى ابنتي لأنها لم تجتز شهرها الثاني ولم تر أمها، أما أنا الذي رأيت كل شيء، أنا الذي بكيت أشلاء زوجتي وحملت حدقاتها.. حملت العينين الجميلتين اللتين تغزلت فيهما لسنوات، حملتهما كرتين صغيرتين بلا روح..أنا سأموت سأتساقط وأموت (يصمت فجأة هو الآخر).

المريضة1: هل مات؟

المريض1: كلنا سنموت..

(يسمع صوت صافرة الإسعاف)

المريضة1: قادمون؟

المريض1: الذهاب والإياب لا يعني أمثالنا، فنحن لن نبرح هذا المكان إلا للقبر.

المريضة1: (تئن.. تصرخ) آآآآآه…

المريض1: شششششششش (إشارة إلى صوت مذياع معطل)  نهاية الإرسال.. بقيت وحدي مع هذا الذباب الذي ينخرني، بقيت مع ذاكرة تؤلمني وجسد يغادرني

(يسمع صوت صافرة الإسعاف)

 

3

(في قاعة الاجتماعات بالمجلس الجماعي للمدينة، وهي قاعة فخمة، مجهزة بمعدات الصوت والصورة والكراسي المريحة، يجلس رئيس المجلس مع اثنين من موظفيه، ياسين وسميرة..)

ياسين: تفضل السيد الرئيس آخر احصائيات الإصابة

سميرة: وهذه احصائيات ملء الأسرة وعدد القبور التي تم حفرها

رئيس المجلس: ومساحيق التنظيف ومحاليل التعقيم

سميرة: هذه ميزانيتها مفصلة سيدي

رئيس المجلس: ومعطرات الجو

ياسين: لقد نفذ المخزون سيدي

رئيس المجلس: ما هذا الهراء يا ياسين؟، كنتَ أكثر دقة قبل هذا الوباء

سميرة: سيدي اضطررنا لاستخدام كمية كبيرة ليلة أمس في حفل سعادتكم

ياسين: لم يكن من اللائق سيدي أن نترك ضيوفكم يشمون رائحة الجلود المتساقطة، رائحة الوباء في كل مكان.

رئيس المجلس: (يستدرك ويحاول طي الموضوع) نمر لأشياء أخرى

سميرة: سيدي لديكم اجتماع بعد قليل مع هيئة الأطباء، ومدير السجن.

رئيس المجلس: سنرى جديدهم لليوم أيضا.

ياسين: السيد الرئيس ماذا بخصوص الأقنعة السوداء؟

رئيس المجلس: سأحسم في الامر بمعية الأطباء حتى لا يقال أني أستبد بالقرارات

سميرة: حاشا لله سيدي

رئيس المجلس: شكرا سميرة.. لا تبتعدا ابقيا قريبا مني أثناء الاجتماع، قد أحتاج بعض الملفات والأوراق.. (يخرج فجأة)

سميرة: (تهمس في أدن زميلها) إنه خائف

ياسين: جبان لا يستطيع أن يواجه الأطباء ولا ساكنة المدينة، ومدير السجن لن يكون متعاونا.

سميرة: أتعرف شيئا عن هذا الاجتماع؟

ياسين: لا، فقط توقعات.. ربما وجدوا دواء أو مصلا

سميرة: لا أظن الدكتور حسن آخر مرة كان محبطا

ياسين: لقد طلبوا اجتماعا عاجلا، سنرى ما في جعبتهم.. لكن هذا الأحمق لن يستطيع تحمل مسؤوليته كرئيس مسير لشؤون المدينة.

رئيس المجلس: (يدخل ومازال يعدل من سرواله) لا أريد أن أكون متسلطا، تعرفون أني أحب مشاركة كل المتدخلين لنسير شأن هذه المدينة بروح من التعاون والتآزر

ياسين: أكيد السيد الرئيس، هذا هو ديدنكم دائما

سميرة: لن يلومكم أحد سيدي مهما كانت قراراتكم، فالوضع استثنائي

رئيس المجلس: يلومني؟ (يضحك ساخرا) عزيزتي سميرة تنسين نفسك من حين لآخر.. من يجرؤ على لومي

سميرة: نعم نعم هذا ما قصدت..

رئيس المجلس: أعرف.. انصرفا الآن (يخرجان مسرعين)

ياسين: (يهمس) ماذا فعلت؟

سميرة: كنت أحاول تهدئته..

ياسين: لا تخافي سنضحك بعد قليل.. وإن كان الوضع لا يحتمل أصلا (يكتمان ضحكهما ويختفيان)

رئيس المجلس: من يظن هؤلاء أنفسهم، يستدعون أنفسهم لاجتماع عاجل معي، جرأة كبيرة، هذا الوباء اللعين جعل الحدود تمّحي، وأصبحت أنا أجلس في طاولة واحدة مع ذلك المعتوه مدير السجن المدني، لا شك أنه مازال يحمل لي الضغينة بعد أن حولت مقر السجن إلى خارج أسوار المدينة، مجنون هو يريد أن يجعلني أستنشق ذات الهواء مع أولئك السجناء، هل علي أن اتحمّل فشل العلماء في ايجاد دواء أو مصل للداء اللعين، أم علي أن أستضيف المرضى في ضيعة من ضيعاتي.. أو قد أتبرع لهم بسرير من أسرتي الوثيرة التي اقتنيتها من أرقى محلات المفروشات الأوربية (يضحك ساخرا) المرضى المساكين .. المسوخ المشوهون.. يا ألطاف السماء.. هو مرض أم لعنة.. أجساد متساقطة.. وجوه بلا ملامح..

(يشعر بالخوف فينزوي في كرسيه خائفا، يضع يده على خده مهموما وينتظر قدوم هيئة الأطباء ورئيس السجن)

 

4

(في خيمة الحجر الصحي تتصاعد أنات المرضى وصراخهم.. تظهر احدى الممرضات وهي تحاول ارتداء زي طبي كبير وفضفاض وتقيل على جسمها النحيل، يناديها أحد المرضى، وفي نفس الوقت تتصاعد أصوات القادمين الذين يبحثون عن أطباء وأسِرّة وعلاج محتمل..)

المريضَ1: هل سنموت؟

الممرض2: قد يجدون دواء في أية لحظة..

المريض3: أشعر بحالتي تسوء

الممرض1: لا أحد هنا.. اسمع إنه أنين المرضى فقط

المريض2: لا طبيب، ولا ممرض، ولا حتى حارس.

الممرض3: أنظر.. (يلتقون بالممرضة)

المريضَ1: سيدتي من فضلك..

الممرضة: (تقاطعه) أرجوكم ضعوا الأقنعة ولا تزيلوها.

المريض2: هل ستستقبلوننا أم نعود من أين أتينا..

الممرض3: لن نستطيع العودة على أية حال..

المريضَ1: نريد أن نرى الطبيب.. نريد العلاج

الممرضة: اهدؤوا.. ما كل هذه الفرضيات وهذه الأوامر؟

المريض2: حملونا في شاحنات كالخرفان ليتركونا في هذه الخيام حتى دون أسِرّة نمدِّد عليها أجسادنا المجهدة.

الممرضة: اسمعوا نحتاج لإفراغ الأسِرّة كي تستطيعوا استعمالها

المريض3: فليغادر من شُفي، ويترك مكانه.

الممرض1: أمجنون أنت أم حالم.. لا تسمع الأخبار؟

الممرضة: ننتظر سيارة نقل الموتى.

المريض2: ماتوا جميعا.

الممرضة: نعم للأسف مات أغلب من جاء هنا، والبقية ينتظرون وصول الوباء إلى أدمغتهم أو أجهزتهم التنفسية..

المريض3: لماذا أتيتم بنا اذن؟

الممرضة: أولا لنحد من العدوى.. وثانيا الأطباء يشتغلون ليل نهار ليجدوا مصلا وتلقيحا للوباء..

المريض1: المصل للأصحاء أما نحن انتهى أمرنا.

المريض2: فلتؤمن بالعلم يا صاح.

المريض1: لا أؤمن بغير الموت المنتشر هنا، وأنا مستعد له، لكني أريد موتا بدون ألم..

الممرض3: صحيح، ومُخيف..

المريض1: أنت يا هاته.. احقنيني بأقوى مسكن لديك.

الممرضة: لا يمكنني فعل شيء دون أوامر.. أنتظر أوامر الطبيب الرئيس.

المريض1: (يحتد عليها) بل ستفعلين..

المريض2: اهدأ يا صديقي.

المريض3: انتهى أمرنا.

المريض1: لن أقبل بهذا العذاب، إن كان الموت هو النهاية فليكن رحيما، فلتنادي على رئيسك.. يحق لي اختيار موتي، وأنا أختار الموت الرحيم.

الممرضة: ابحثوا في الوحدات الأخرى.. (تحمل هاتفها وتحاول الاتصال بالطبيب لطلب المساعدة..) ألو.. ألو.. سيدي من فضلك أنا من الوحدة خمس وعشرين.. ألو.. ألو.. (تنظر جهتهم من جديد) اذهبوا وابحثوا في الوحدات الأخرى.. (يخرجون لتبقى الممرضة تحاول ارتداء زيها ويتعالى صوت مريض يصرخ من الألم، ويرن جرس النداء)

المريض: ألا تسمعون؟ هل من أحد لنجدتي؟

الممرضة: (تجيبه من مكانها دون أن تدخل عنده) حتى لو صرخت لا مجال إلا لتركك تتوجع حتى يتفسخ جلدك وتتساقط ويُزج بك في قبر جماعي.. أما أنا فأعيش في قبر الخيمة، وفي خيمة هذا الزي الملعون..

المريض: (يصرخ) سأموت

الممرضة: أنا أيضا سأموت.. أنا أموت الآن.. ربما متّ منذ وقع علي الاختيار لآتي هنا.. (يصرخ المريض ويسكت فجأة) انها النهاية بل النهايات التي أعيش هنا في كل لحظة.. (ترفع الهاتف وتتصل) ألو.. نعم وفاة أخرى.. ستأتون؟ تنتظرون حتى نهاية اليوم؟ ستتعفن الجثة.. تريدون تجميع الجثث اليومية؟ لكن الوافدين كُثر، وقد لا أجد أسرة لهم.. ألو.. ألو.. (ينقطع الخط وتخرج)

 

5

(في مكتب مهترئ قديم، لونه بين البني والرمادي، يجلس سامي مدير السجن وهو يرتدي زيه العسكري، وقد نزع قبعته، يلعب بها بين يديه بعصبية، يدخل السجان سيف مسرعا ليخبر مديره بنتيجة التقصي عن بعض السجناء..)

سامي: تفضل ما الجديد؟

سيف: سيدي الأمور تحت السيطرة.

سامي: وهل يحق لك بغيبر ذلك؟

سيف: العفو سيدي

سامي: إذن.. ما الخطب؟

سيف: لم أفهم قصدكم سيدي..

سامي: شعرت بنظرات غريبة بين الحراس.

سيف: (يرتبك) نعم سيدي.

سامي: قل ما الأمر وبسرعة لدينا ما نفعله

سيف: المسجون الجديد: محمود الذي اغتصب اخته وقتل أباه

سامي: ما به؟

سيف: رفض مشاركة الزنزانة مع المساجين، وطالب بزنزانة منفردة.

سامي: (بغضب) طالب؟ تقول طالب؟ هراء وتسيب خطير هذا.. مسجون حقير يطالب ألا تعرف ما ينتظرنا؟ اجتماع مع هيئة الأطباء ورئيس مجلس المدينة مرض فتاك ينهش الجميع، أوضاع من الفوضى غير المسبوقة.. وأنت تتحدث عن مسجون يتمرد عن الأوضاع ويطالب؟..

سيف: سيدي لكن..

سامي: (يقاطعه بغضب) انتهى الأمر.. لا تخذلني يا سيف ولا تخن ثقتي بك.. أريد النظام والانضباط أكثر مما اعتدته منك

سيف: نعم سيد سامي وهو كذلك.

سامي: ماذا بخصوص ما طلبته منك؟

سيف: سيدي قمت بالتصنيف والاحصاء والجرد

سامي: كيف ذلك؟

سيف: سجناء الرأي والجرائم المالية

سامي: نعم

سيف: سجناء السرقات والاعتداءات والمشاجرات

سامي: نعم

سيف: سجناء الارهاب والقتل والاغتصاب

سامي: كيف هي الأعداد؟

سيف: جرائم الرأي أقلهم..

سامي: والأكثر؟

سيف: هي جرائم الاختلاسات والمعاملات المالية

سامي: وجرائم القتل؟

سيف: في مرتبة أدنى.. والأعداد فيها أقل بكثير..

سامي: أغلبهم استفاد من العفو، أو خرج بعد قضاء ثلثي المدة..

سيف: سيدي لم تعرف لما طلبوا منكم هذا الجرد غير المسبوق

سامي: لا أعرف لحد الساعة، علماء الأوبئة والأطباء يبحثون عن أي مشجب لتعليق اخفاقاتهم عليه بعد أن فشلوا في ايجاد حل للوباء

سيف: هل سيجربون دواء جديدا؟

سامي: سيدي لن أذكرك بمنظمات وجمعيات حقوق الإنسان أنت تعرفهم جيدا، وتعرف أنهم يتربصون بنا.

سيف: الوضع استثنائي، وحالة الطوارئ ستجعلهم يخرسون، ثم نحن لا ندري لحد الساعة ما المطلوب منا (يخرج سيف ويبقى مدير السجن غارقا في تفكيره..)

 

6

(قاعة اجتماعات مجلس المدينة، يجلس الرئيس متصدرا الاجتماع، ومعه الدكتور حسن عالم الأوبئة، والدكتور خالد أخصائي التحاليل الطبية، بجانبهم مدير السجن السيد سامي، ويقف بجانب رئيس المجلس الموظف ياسين وقد حمل بعض الملفات).

الرئيس: كلام غريب هذا الذي أسمعه اليوم.

حسن: السيد الرئيس تعرفون تاريخي العلمي جيدا، وأنا لن أغامر بكل ما بنيته في حياتي لأجل فرضية ضعيفة.

خالد: لم نستطع لحدود الساعة أن نتوصل إلى طريق نسلكه علميا لصنع دواء أو مصل مضاد للمرض.

حسن: استنفذنا كل الحلول، فبحثنا في طرق الانتشار للوقاية من هذه اللعنة، اضطررنا للأسف أن نقوم بتجارب سريرية وانتقلت العدوى بالطريقة التي شرحت.

خالد: نحن أمام داء غريب، داء غير مسبوق في تاريخ البشرية، وكل الفتوحات العلمية لحد الآن لن تسعف في العلاج منه.

سامي: هذا معناه أن نلغي العلم، ونتجه للغيبيات، ونعتبر الوباء لعنة أو حتى سحرا، ونبحث عن طلاسم لإبطالها.

حسن: (بنبرة مستنكرة) لم أقل هذا الكلام، بل ما توصلنا إليه هو نتيجة بحث وتقص علميين.. العلاقة بين النفسي والجسدي واضحة للعِلم منذ أبقراط..

خالد: لطالما أثرت نفسية المريض في علاجه وتَشافيه من أكثر الأمراض فتكا، وأحيانا العكس، نفسيته قد تؤدي لهلاكه أيضا، العلاقة بين النفسي والفزيقي وطيدة..

سامي: ما تبت يوما أن العدوى انتقلت بالعامل النفسي..

الرئيس: لن تفهم أكثر من الأطباء والعلماء.

سامي: هل أنت مقتنع بكلامهم؟

الرئيس: لا.. نعم.. ربما..

سامي: ربما تهوى الاعتراض على كلامي فقط.

الرئيس: ليس صحيحا، أنت من يحب مخالفة الآخرين دون وجه حق.

(في هذه الأثناء تدخل سميرة بفناجين القهوة السوداء، ويضع ياسين ملفات وأوراق أمام الحضور، يتحول الاجتماع إلى ورشتين على اليمين الدكتور حسن ورئيس المجلس وسميرة، وعلى اليمين الدكتور خالد ومدير السجن وياسين، الجميع يطالع الأوراق..)

حسن: (موجها كلامه لرئيس مجلس المدينة) أنظر السيد الرئيس تزداد العدوى بين الأسر

سميرة: هذه هي آخر الاحصائيات.

الرئيس: الأرقام مخيفة.

خالد: (موجها كلامه لمدير السجن) لقد وضعنا مريضا مع شخص كفيف أصم، ولم تنتقل العدوى، بل المريض مات بجانبه ألما، ولم تنتقل العدوى.

سامي: قد يكون من ألطاف الله ألا يزيد المعاق هم الوباء.

ياسين: وماذا عن العدوى من داخل الخيام؟.

خالد: أقل بقليل لأننا حجبنا المرضى عن بعضهم البعض، ولا يدخل الأطباء إلا لإعطاء بعض المهدئات بعد إجبار المرضى على إخفاء وجوههم.

سميرة: كيف تعالجون المصابين اذن؟

خالد: لا علاج لهم.

الرئيس: هذا إخفاق كبير.

حسن: أنا أعترف بذلك.

خالد: لذلك نحاول الحفاظ على سلامة الأصحاء.

الرئيس: المهم.. لنحاول التقدم في الاجتماع والوصول إلى خلاصات.

خالد: هذا جيد.

سامي: ما المطلوب اذن؟

حسن: نريد أن نشيد بجهودكم في المجلس، النداء الذي أطلقتم في كل المدينة بدأ يجد صداه لدى الساكنة.

خالد: للأسف الأمر غير كاف

سامي: ما المطلوب اذن؟

الرئيس: اهدأ واستمع

حسن: توصلنا مما لا يدع مجالا للشك بأن الاشفاق والتعاطف مع المرضى هو سبب العدوى، ونعرف أن أكثر البشر قساوة وصلابة هم السجناء وخاصة بعضهم، هاتين المقدمتين..

خالد: (يتمم حديث زميله) ستقوداننا إلى نتيجة نرجو أن تكون علمية وناجعة..

حسن: سنرصد هؤلاء المساجين، وندرس كل مؤشراتهم الصحية، ونعرِّضهم لرؤية المرضى

الرئيس: لن يتعاطفوا معهم أكيد

سامي: ماذا بعد؟

حسن: سنراقبهم، ونحاول استخلاص عينات دم تساعدنا على حقن الجميع بمصل ضد الشفقة والتعاطف والأحاسيس الرقيقة والجياشة..

سامي: (يدخل في نوبة ضحك هستيرية) ستحقنونهم بدل الرحمة والشفقة بالوحشية والقذارة والشذوذ

الرئيس: فلتهدأ سيد سامي.. نريد شرحا أكثر يا سادة.

حسن: سأحاول التغاضي عن هذا الاحتقار.. دعونا نكون عمليين

سامي: أنا أعتذر، لكني صراحة أعتبر الأمر شطحة من الشطحات العلمية القريبة من أفلام الخيال العلمي..

خالد: أود أن أسألك السيد سامي: هل سبق ورأيت وباء بهذا الشكل، مرض يمحي ملامح الوجه دون أن يترك أثرا في تحاليل الدم، أو أعراض حمى أو قيء أو إسهال، وباء يحول البشر إلى مسوخ مشوهة تموت بأبشع الطرق لممكنة، تموت وقد تساقط لحمها على الأرض

الرئيس: يا جماعة الوضع كارثي لا يتحمل، علينا أن نجرب كل الحلول مهما ظهرت غريبة أو حتى غير ممكنة، لأننا فعلا نعيش وضعا غير ممكن التصديق، سيد سامي هل قمتم بما كلفناكم به؟

سامي: رغم أن هذا الجرد والتصنيف هو عمل نقوم به دائما إلا أننا فعلا اعدناه وقمنا بكل ما طُلب منا.

الرئيس: جيد لنستمع إلى الأطباء ونحاول الخروج من هذا الوضع.

سامي: على كل حال نحن هنا لأجل هذا الأمر.

خالد: الآن أكثر من أي وقت مضى نحتاج إيماننا ببعضنا البعض، ونحتاج روح الفريق.

حسن: (بتأفف) هل نستطيع أن نمر إلى الإجراءات اللازمة؟

الرئيس: نعم تفضل.

حسن: (يوزع بعض الأوراق) هذه جدولة دقيقة بأهم الإجراءات والخطوات اللازم اتباعها لنخرج من هذا المأزق الذي سيجعلنا محط سخرية العالم.. الأماكن والتواريخ والمواقيت.. يجب أن نربح الوقت، ونربح معه حياة المواطنين أيضا..

(يأخذون الأوراق ويبدؤون في فحصها والتدقيق في تفاصيلها..)      

 

7

( في غرفة العلاج النفسي تجلس الدكتورة وئام الطبيبة النفسية في كرسي خلف مكتبها، وتستلقي زميلتها الدكتورة ليلى اخصائية الطب الباطني على كرسي مريح وسط الغرفة..)

وئام: لا أظن الأمر سينجح.

ليلى: يل قد ينجح، لكن نجاحه مخيف.

وئام: كيف؟

ليلى: قد ننقل للأصحاء أمراضا أخرى، فيصبح المجتمع مريضا بكامله، ويعم الوباء وكل الأمراض الأخرى.

وئام: بل سينتهي الوباء، وستقضون على الأمراض الأخرى التي ستظهر بأدويتكم، لكن الخطر لا يكمن في هذا..

ليلى: في ماذا إذن؟

وئام: الخطر في أن يجد العالم دواء يزيل الرحمة من القلوب، ويقضي على كل المشاعر النبيلة.

ليلى: مسألة مقادير، معنا خيرة العلماء والدكاترة المشهود لهم بالكفاءة.

وئام: المشهود له بالكفاءة كما يعرف المقاييس يعرف أن يضاعفها وأن ينقصها، يملك زمام الأمور، ويتحكم في اللعبة كما يشاء..

ليلى: لعبة؟ ألا ترين أنك تبالغين، وتشككين في زملائك؟

وئام: لا أبالغ، لا أشكك في زملائي بقدر خوفي عليهم، تعرفين الاختراعات الطبية وما يحوم حولها من صراعات براءة الاختراع وغيرها من حسابات أصحاب رؤوس الأموال، والتاريخ يشهد على الاختراعات التي تحولت وبالا على البشرية جمعاء..

ليلى: لكنك هنا وستستطيعين السيطرة على أي انفلات.. لا تنسي أنك جزء من المشروع..

وئام: بل زُجّ بي فيه.. أنا لا أجيد لغة المحاليل والأنابيب والأرقام.

ليلى: لكنك بارعة في التحليل النفسي، والاطلاع على كوامن النفس ودوافعها.. وما خفي منها في اللاوعي..

وئام: مهمتي كانت أن أجعل المضطرب يبحث عن السواء النفسي، أنا الآن سأقوم بالعكس.

ليلى: الوضع استثنائي

وئام: ألا تفهمين ما سيحدث؟ أتستطيعين مقاومة احساس أنك لن تشعري بألم ابنك، زوجك، أمك، أختك، أقرب أقربائك.. أتستطيعين العيش كالحجر الأصم..

ليلى: حينها لن أشعر حتى بالحاجة إلى هذه المشاعر.. لكن دعينا لا نستبق الأحداث.. اليوم موعدك في السجن مع الدكتور حسن، لا تنسي بعد ساعتين من الآن.

وئام: كيف أنسى؟

ليلى: فلتستعدي عزيزتي

(تخرج الدكتورة ليلى وتبقى الدكتورة وئام في حيرتها..)

 

8

(في زنزانة مظلمة السجين محمود قد كُبّلت يداه يجلس فوق أريكة اسمنتية، بجانبه الدكتور حسن، والدكتورة وئام، أما مدير السجن والمراقب سيف فقد وقفا بعيدا نوعا ما يهمسان في أذن بعضهما البعض..)

سيف (الحارس): كيف وافقتم سيدي على هذا الهراء؟

سامي (مدير السجن): اصمت الآن، ودعنا نرى ما سيحدث.

سيف: ستحدث الكارثة.

سامي: اخرس.

د. حسن: (يخاطب السجين..) السيد محمود، لا نريدك أن تخشى شيئا أو تخاف منا.

محمود (السجين): (يضحك عاليا بسخرية..) أخاف منكم؟ من أنتم حتى نخافكم..

حسن: جميل هذا ما نريده بالضبط.

وئام: (تهمس في أدن زميلها..) حاول ألا تتسرع.

حسن: (يعترض على كلامها) هذا دورك الذي أقوم به الآن لأنك رفضته، أو لم تقتنعي به..

محمود: ايه .. أنتم جميعا .. وخاصة أنتما بوزرتيكما البيضاوتين.. أنا لست مجنونا أنا قتلته لكني لم أغتصب أحدا، ولا لى لا تا او كان يمكن اعادة فعل القتل أكثر من مرة لفعلت كلما أتيحت لي الفرصة.

سيف: اصمت.

سامي: محاكمتك قد تمت انتهى الأمر.

محمود: اذن لما أنتم هنا؟

حسن: سيد محمود نحن لن نحاكمك.. وكما ترى نحن أطباء لا نحاكم أحدا..

محمود: جئتما لتجعلاني فأر تجارب

وئام: لديك فراسة قوية..

محمود: تريدان دراسة الحالة اذن.. (يضحك) قتل والده واتهم باغتصاب اخته، أي نوع من المرض النفسي هذا.. عقدة قديمة.. آه تراكمات من الطفولة.. نم واحك.. (ينفجر بضحكة مدوية) من منكما الطالب ومن الأستاذ؟ أنتِ؟ أم أنتَ؟

حسن: لنربح الوقت وننتهي من كل، دعني أخبرك أن الأمر فعلا له علاقة بتجربة علمية

وئام: لكن الأمر ليس كما قلت.

محمود: آه.. يعني المسألة غير ليست نفسية، تجربون دواء جديدا؟ أم تريدون أعضاء بشرية؟ دعوني أخبركم أني كنت سأصبح محاميا، وكنت أهوى قراءة كتب القانون، وأعرف أن ما قد تفعلونه يخالف كل مواثيق حقوق الإنسان.

سامي: جميل.. جميل.. محاضرة في حقوق الإنسان.. تفضل تفضل..

محمود: أظنك تحتاجها

سيف: (يهم بضربه لكنه يتماسك) اخرس أيها الحيوان..

محمود: وشتيمتك هذه أيضا خرق سافر لحقوقي كسجين..أنا محروم من حريتي وليس من إنسانيتي.

سيف: إنسانية يا ابن…

سامي: (ينهر سيف ويخاطب الطبيب) حاولا أن تُنهيا هذه المهزلة بسرعة.. أيها الحارس أغلق الزنزانة واتبعني..

(يخرج سامي وسيف ويتركان الطبيبين مع السجين محمود الذي أصبح أكثر غضبا وانفعالا)

حسن: اذن لنعود لما كنا بصدده

وئام: اجلس يا سيد محمود

محمود: سيد؟.. (يضحك ساخرا)

حسن: ربما تناهي إلى علمك خبر الوباء الذي ضرب البلاد والعباد.. وأيضا أكيد سمعت بأعداد الضحايا الذين ندفن كل يوم.. المقابر امتلأت وخيام الحجر الصحي لم تعد قادرة على استقبا المرضى الموبوئبين..

وئام: يريد الدكتور حسن أن يقول لك أننا هنا لأجل هذا الأمر.. فهو وزملاء آخرون..

حسن: (يستطرد منبها اياها) ومعنا أنت

وئام: نحن جميعا توصلنا إلى ..

محمود: دواء؟

وئام: لا، ليس تماما، ولكن لنقل فرضية دواء

محمود: انظرا.. أيا كان أنا لا أمانع في أن أشرب أي دواء، فهو لن يكون أسوأ مما أنا عليه هنا.

حسن: ستكون أنت الدواء.

محمود:  (باستغراب) كيف؟

وئام: توصلت الأبحاث والمعاينات إلى أن كل من يرى المرضى يُصاب هو الآخر حتى دون أن يكون هناك تقارب جسدي بينهما، المرض ينتقل بالنظر إلى المريض فقط

محمود: وإذن؟

حسن: ليس بالنظر فقط.. بل بالتعاطف مع المريض والاشفاق عليه، فكل من تأثر بمنظر المريض وأشفق على حاله يُعدى.. عكس الذين أبقوا مشاعرهم محايدة، أو لنقل عكس القساة، ومن يملكون صلابة ورباطة جأش، فلم يحدث لهم شيء.

محمود: وإذن؟

وئام: نريد أن نقول اننا سنعرضك للعدوى من خلال رؤية المرضى ..

محمود: (يصرخ) ماذا..؟

حسن: اهدأ قليلا.. كما رأينا في ملفك الإجرامي أنت أكثر المسجونين قساوة، وأكيد أنك لن تتعاطف مع المرضى مهما كانت قساوة ما تراه أمامك، وبالتالي فلن تُعدى..

محمود: وماذا بعد؟

وئام: ما يفرزه جسدك سيختلف عما تفرزه الأجساد الأخرى.. مسألة أنزيمات وهرمونات وسوائل لن تفهمها أكيد.. لذلك سنعرض جسدك ..

محمود: (يقترب منها) يغريك جسدي؟

حسن: يا سيد محمود اهأ.. لا تنسى أنك قتلت والدك بدم بارد.. وبعدها اغتصبت أختك.. وكل سوابقك تقول أنك بلا قلب..

محمود: (يزمجر في وجهه) لم أغتصب أحدا، أخرجا والا قتلتك، واغتصبت دميتك هاته، وعندها تجربون قسوتي على أصولها، أخرجا..

وئام: دعنا نشرح لك من فضلك.. نحن لن نؤديك.

محمود: اخرجا..

وئام: اهدأ.. (تقترب منه لتهدئته) اجلس واهدأ، سأشرح لك بهدوء، أرجوك دكتور دعني معه.. سأكلمه، وأشرح له

(ينسحب الدكتور حسن ويترك الطبيبة النفسية تشرح للسجين محمود المطلوب منه)

 

9

(في ساحة كبيرة تتوسطها أعمدة كهربائية غير مضيئة، ومكبرات صوت ضخمة، يظهر المرضى بعضهم بأقنعة تخفي كل الوجه، وبعضهم بدونه، تظهر على ما تبقى من ملامحهم علامات الخوف والفزع، ينضاف إليها احساسهم بالوجع والألم الشديدين إذ يفقدون ملامح وجوههم شيئا فشيئا، تنبعث التحذيرات من مكبرات الصوت، تارة بارتداء القناع الواقي، وتارة بالتنبيه لعدم رؤية المرضى والتحديق فيهم أو التعاطف والاشفاق عليهم..)

النداء: (المنبعث من مبكر الصوت) أيها المواطنون، أيتها المواطنات، نهيب بكم جميعا أخذ الحيطة والحذر، الوباء ينتشر ولا نستطيع التصدي له بشكل كبير وواضح، لكن أطباء وعلماء الوطن وكل من يحمل مسؤولية تسيير شؤون هذا الشعب سيقفون بجانبكم إلى أن نجتاز جميعا هذه المحنة، لذلك ندعوكم للقيام بمجموعة من الإجراءات التي سنشرحها لاحقا. لابد للمرضى من ارتداء أقنعة سوداء سميكة ستغطي كل الوجه، عليهم أيضا اجتناب الاختلاط بأُسرهم وبكل من يحبون، عليهم التوجه مباشرة للخيام خارج المدينة فسيارات الاسعاف لم تعد قادرة على حمل الأعداد الكبيرة يوميا. أما الأصحاء فنرجو منهم الابتعاد قدر الإمكان عن المرضى وعدم رؤيتهم أو التحديق فيهم خاصة ذوي القربى، حاربوا احساس العطف أو الشفقة التي قد تشعرون بها اتجاه المريض مهما كانت قرابتكم به، وسنشرح لكم هذه الإجراءات لاحقا

سليم: لن تشرحوا شيئا، تعبنا من كل هذا..

سليمة: أفهمت ماذا يقصدون؟

سليم: ومتى كان كلامهم واضحا مفهوما

سليمة: كيف لنا ألا ننظر للمرضى من أسرنا؟

سليم: لحسن الحظ انا هنا وحدي، وأهلي في مدينة أخرى لم يصلها الوباء

سليمة: كل أسرتي في خيام العزل، ولا أستطيع القاء وحدي في البيت رغم التحذيرات

الشرطي: ماذا تفعلان هنا؟ ارجعا من أين أتيتم.. ألا تعرفان ما نمر به؟

سليم: بلى لكننا نحتاج لأشياء من خارج البيت

الشرطي: أسرعا اذن.. المرضى في كل مكان هنا ابتعدا وحاولا ألا تنظرا جهة أحد، وإلا كانت العاقبة وخيمة

(يخرج الشرطي، ويدخل أحد المرضى من جهة أخرى دون أن يراه، وما إن تقع عليه عيون الرجل والمرأة حتى يلتفتان إلى اتجاه آخر ويتحدثان إليه دون رؤيته مباشرة)

المريض: لماذا تلتفتان؟ سمعتما النداء اذن؟.. غير معقول (يئن ويصرخ) ألا يكفي ما نمر به؟ أتعرفان أن تعيشا بألم جلودكم تتساقط مهترئة نتنة فتفقد وجهك، عيونك.. آذانك.. أنفك.. فمك.. شعرك.. فكك.. أسنانك.. (يئن ويصرخ)

سليم: عليك ألا تشعر بالحرج من النداء، أتريد لغيرك نفس مصيرك، تصور لو كان ابنك أو ابنتك، زوجتك، أو أمك.. أترضى لهم بالعدوى والموت بهذا الداء اللعنة؟

المريض: لن أرضى، لكني لن أتقبل معاملتي كوحش أو متحول فضائي أنا مجرد إنسان مريض

سليمة: بل موبوء..

سليم: يا عزيزي لا تحزن وحافظ على معنوياتك عالية

المريض: تسخر مني

سليم: أحاول التخفيف عنك، سأتركك أنتِ، حاولي شراء ما تريدين وادخلي بيتك بسرعة..

سليمة: وهذا المسكين

سليم: اياك والالتفات لرؤيته، مشاعرك النبيلة قد تقودك لخيام العزل، أو للموت، لننتظر حتى نفهم ما يحدث وما سر هذا النداء

(يعود النداء ليعلو من مكبر الصوت، يغادر المواطن الخائف، ويبقى المريض، والسيدة الأخرى.. ينتهي النداء من جديد)

سليمة: ما رأيك اذن؟

المريض: لا رأي لي.. أنا أموت، هل للميت رأي؟

سليمة: ما بك؟

المريض: (يصرخ ويئن، ويقوم بقلع جلد وجهه من الألم) آآآآآآآه

سليمة: لا تخفني أرجوك، لا أستطيع مساعدتك، حتى لو التفتت لرؤيتك لن أفيدك في شيء

المريض: (يستمر في الصراخ) الرحمة.. آآآآه

سليمة: (تصدر صراخا قويا وتلتفت لمساعدته رغم علمها بإمكانية العدوى) لا أستطيع التحمل.. ماذا أفعل؟ (تضع رأسه بين يديها لكنه يصرخ بشدة ويموت، فتبكي بحرقة) ماذا اذن؟ هل انتقلت إلي العدوى؟ يا رب السموات.. يا رب السموات رحمتك..

الشرطي: (يدخل مسرعا) أنت ثانية؟ ماذا؟ تحضنينه؟ يالك من بلهاء .. تحملي مصيرك المشؤوم اذن (لكنها لا تهتم وتحضن الميت وتبكي)

(في هذه الأثناء تتعالى الآهات والصراخ مع النداء الذي يعود ليُبَثّ من جديد، وصافرة الإسعاف التي تأتي لتحمل الميت والسيدة المتعاطفة معه)

 

10

(في غرفة الفحص يجلس السجين محمود وقد وُصل جسده بأسلاك وُصلت هي الأخرى بجهاز كشف طبي، بجانبه سرير عليه مريض يئن وقد تمت تغطيته بالكامل، الدكتور حسن بجانب الجهاز، وهناك ستارة كبيرة تحجب كل هذا عن بقية المكان حيت يجلس الصحفي الذي انتدبته الهيئة الصحية لمراقبة التجربة ونقلها للرأي العام)

حسن: سيد محمود اسمح لي سآخذ عينة من دمك قبل التجربة، اهدأ.. بعدها سأزيل الغطاء عن المريض، قد شرحت لك الدكتورة وئام الأمر، وهي ستأتي بعد قليل..

محمود: لا يهم.

حسن: صحيح، المهم ما سيحدث الآن.. (يستمر الدكتور حسن في اجراءاته.. يزل الغطاء عن المريض المتألم، ويتجه صوب الصحفي بعد أن تأكد من أن الستارة تحجب ما قد يحدث بين المريض ومحمود..)

الصحفي: سعادة الدكتور هل أنتم واثقون أن تجربتكم ستنجح وتخلص المدينة من الوباء؟

حسن: علينا المحاولة.. فلا خيار آخر نملكه.

الصحفي: وإذا لم تنجح التجربة؟

حسن: لا أريد أن أكون متفائلا زيادة عن اللزوم، لكن مع ذلك نحن نملك شروط نجاحها كاملة، لا تنسى أننا قطعنا شوطا في الأبحاث لنصل لمعرفة طرق العدوى المحتملة، والآن تأكدت لنا..

الصحفي: كيف تستقبلون سيدي الآراء المُنتقدة.. بل السخرية والتهكم.

حسن: كما استقبل العلماء عبر التاريخ آراء المتهكمين فيما لازلنا نستعمله من اكتشافات ومخترعات علمية.

الصحفي: أيعني كلامكم أننا بصدد فتح علمي كبير؟

حسن: نعم يمكن قول ذلك بكثير من الثقة.

الصحفي: دعوني أخبركم أيضا أن جهات حقوقية تناهض التجربة، ونرى انها ضد حقوق الإنسان، خاصة وأنها تستعين بالسجناء..

حسن: (يقف متأففا) لابأس اذن فليطوع أحدهم لنقوم بالتجربة عليه هو.. شخصيا لا أُمانع، لكن شريطة أن يمتلك صلابة وقساوة تجعله لا يتعاطف مع المرضى.. (يضحك ساخرا) لكن لا أعتقد، فهؤلاء من ذوي القلوب الهشة..

الصحفي: لكن العدوى قد تنتقل للسجين اذا لم تنجح التجربة، وبهذا تحرمونه حياته، والحياة حق من حقوقه..

حسن: الحياة حق من حقوق حتى أولئك الذين يدفنون في القبور الجماعية كل يوم، الحياة من حق الأطفال والشباب والرجال والنساء المُنتجين والصالحين للوطن.. الحياة من حقي وحقك وحق الآخر، الوباء جاء ليحرمنا جميعا من هذا الحق، لابأس من أن نُضيف واحدا للمحرومين وللموتى قد يكون هو الحل للجميع.. المسألة محسومة.

الصحفي: هناك من يرى أنكم تربحون وقتا لتهدئة الرأي العام، ونظريتكم حول العلاج غير علمية.

حسن: انظر هناك.. (يشير جهة السجين والمريض) نحن نعمل، نضع الفرضية ونجربها ونبحث عن نتائج تنقد الجميع.. نحن نعمل.. لا نتكلم كلاما في الهواء.. نصارع الوقت، ونصارع الموت المتربص بالمئات بل الآلاف.. ألا تعرف أنهم وصلوا في العاصمة إلى حل سيدمرنا جميعا.

الصحفي: ما هو؟

حسن: الحل هو تدمير المدينة كاملة، قد يرسلوا صاروخا يدمر كل شيء، وينتهون من المشكلة بشكل جدري، حينها لن تكون أنت هنا لتنقل إلي كلام المعتوهين، بل سنكون جميعنا رمادا، وخبر الوباء حكاية تُحكى.

الصحفي: وهل يجرؤون؟

حسن: ما الذي سيمنعهم؟ الأوطان تضحي ببعض من أبنائها لتحمي البقية، الا تدخل حروبا؟ سيعتبرنا الوطن ضحايا حربه ضد العدو، والعدو وباء غريب يمحو الملامح، ويسقط الجلد عن الوجوه، أهناك عدو أقوى لتضحي ببعض من البشر لإنقاذ البقية؟

الصحفي: ما نسبة نجاح التجربة؟

حسن: من صفر إلى مئة بالمئة.

الصحفي: الأمر مفتوح على كل الاحتمالات.

حسن: نعم..

الصحفي: عندما تستخلصون المصل، أليس هناك خوف من نزع كل احساس بالإنسانية لدى الناس، وقد يفقدون تعاطفهم لا مع المرضى فقط بل مع الجميع، ونصبح كالذي يعيش في غابة وحوش..

حسن: لن أستمع لهذا الكلام المُغرق في الشاعرية، نحن أمام أرواح تُزهق يوميا، وأمام وباء يجعل الوجوه مسخا أكثر من أي وحش تتصوره.. شاهد ما يحدث، واعلم أنك في حضرة العلم، وقد نعيش في هذه اللحظة فتحا علميا مُبينا..

الصحفي: لا بد من مضاعفات محتملة لأي مصل أو دواء.

حسن: لحبة الأسبيرين التي تأخذ لوجع رأسك مضاعفات تصل حد الموت، هل يمنعك ذلك من شربها؟ لفنجان القهوة والشاي مضاعفات؟ للحوم؟ للهواء الملوث؟ للماء، ولغيره.. المخاطر محدقة بنا من كل صوب، ما معنى أن نتوقف عن الاكتشاف العلمي خوفا من المضاعفات؟

(يتجه الدكتور حسن صوب الجهة الأخرى ليتابع التجربة، ويترك الصحفي وحيدا لأفكاره..)

 

11

(في غرفة الفحص، يجلس الدكتور حسن وحده على الكرسي، وعلامات الفرح بادية على وجهه، أمامه على المكتب صورة في اطار متوسط الحجم لأبيه، ووُضِعت أنابيب كثيرة عليها محاليل بألوان فاقعة..)

حسن: لك أن تفرح يا أبي، فابنك حسن استطاع تخليد اسمك، واستمر في تحقيق النجاحات التي لطالما حلمتَ بها. تمكنتُ من ايجاد مصل للوباء.. مصل للمحو الذي يصيب الوجوه، للمسخ واللعنة التي أصابت المدينة.. السجين محمود لم يمرض، يا ربي أنا أطير فرحا.. لم تُنقل العدوى له، ودمه صار هو منجم الماس الذي سيحقق كل أحلامي.. أحلامي بالخلود العلمي وبالانتصار.. أبي حبيبي، لم يُصب لحد الساعة أي من السجناء الذين حقنتهم بالمصل، وعرضتهم لرؤية المرضى.. تعرف الآن يا أبي أنني أنا من سيخلص الإنسانية من هذا الداء.. أنا ولا أحد غيري.. بعد لحظات سيرن جرس الهاتف، بل جرس المعمل، بل جرس البيت.. ستُقرع كل أجراس المجد.. كل المختبرات والشركات ستتسابق لتأخذ براءة اختراعي.. كلهم سيتصارعون لأجل التصنيع، وأنا.. أنا العالِم المشهور.. أنا رائد علماء الأوبئة من سيختار.. حقيقة يا أبي وكما تعرف جيدا، هذه المدينة الصغيرة إن لم أقل الحقيرة لن تستطيع تقدير هذا العمل العلمي الجبار، فتلك الشركات البسيطة، والمختبرات المتواضعة لن تُقَيِّم المصل حق قيمته، ربما قد ألجأ لجهة أجنبية.. هم في العاصمة سيضعون اليد على اكتشافي ويعتبرونه مُلكا قوميا لهم، ولن أستفيد قرشا واحدا كما أن كل الألق والنجاح سيُنسب لهم ولهيئة الأطباء المجانين الذين لم يصدقوا نظريتي في البداية، وهم الآن يتملقون ليشاركوني نجاحي، نعم يا أبي أرادوا أن يزجوا بي في مصحة للمجانين كما فعلوا بك، أنا نجحت يا أبي نجحت.. بجحت في ايجاد مصل ينزع الرحمة من قلب البشر الضعفاء والأغبياء.. وداعا للرأفة والرحمة والشفقة، آن للإنسانية اليوم أن تفرح بعهد جديد لن يؤمن فيه الإنسان إلا بالعلم وفتوحاته الحقة.. (يحمل إطار صورة والده عاليا..) أبي معذرة يا أبي لكني تعبت من الحنين، وتعبت من تحمُّل إخفاقاتك، سيكون آخر عهد لي بك، لقد عدلت المصل وجعلته أقوى، وسأحقن به نفسي كي لا أعود للصور، ولا أعود للحكايات القديمة، سألغي من تاريخي كل ما يمكن أن يُعيدني إلى الوراء (يرمي صورة والده أرضا وتنتشر شظاياها في كل المكان) وداعا يا أبي.. (يحمل أنبوبا ويضع المحلول في حقنة ويحقن نفسه.. ثم يبدأ في الرقص..) يا أنا يا عبقري.. لقد نجحت.. لقد نجحت.. أنا عبقري.. لقد نجحت..(يجلس متعبا بعد أن تراقص هو وأنابيبه كالطفل الصغير، يتهالك على الكرسي وهو يلهث، وانفاسه متقطعة، ويغرق في نوم عميق…)

 

12

( الدكتور حسن مازال مستغرقا في نومه، يتقلب على الكرسي، نتسلل إلى دماغه لنكشف عن حلمه الذي يجعله في حركة دائمة أثناء النوم، إلى أن يسقط من الكرسي، ويكتشف مكانا آخر غير غرفة الفحص الذي كان فيها حقيقة، وكل الشخصيات التي شكلت الأحداث السابقة قد تحولت إلى شخصيات في محكمة، والمُحاكمة منصوبة على الشكل التالي:

حسن (المتهم) – وئام (القاضية) – مدير السجن (مستشار أول) – رئيس مجلس المدينة (مستشار ثاني) – السجين محمود (النيابة العامة) – الصحفي (الشاهد) –الحارس سيف (مسؤول من العاصمة)).

القاضية: نبدأ المحاكمة.

المستشار1: الوثائق والمستندات التي تدينه كلها موجودة هنا.

المستشار2: نستمع إلى ممثل النيابة العامة.

القاضية: وهل حضر الشهود؟

النيابة العامة: سيدتي القاضية السادة المستشارين، إن المتهم الماثل أمامكم اليوم قام بجرم كبير ضد الإنسانية جمعاء..

حسن: الدكتورة وئام كيف تسمحين بهذه المهزلة، أنا حسن رئيس هيئة الأطباء، لما ترتدين زي القاضي..

القاضية: اصمت أيها المتهم، لا تتحدث دون إذن.. لديك الحق في الرد، لكن انتظر دورك.. أنت متهم ونحن نستمع الآن للنيابة العامة.

حسن: النيابة العامة؟ إنه محمود، محمود السجين، إنه القاتل المٌغتصب..

القاضية: آخر مرة تقاطع المحاكمة، تفضل السيد ممثل النيابة العامة..

النيابة العامة: هذا المتهم يا سادة قد خالف كل نواميس الطبيعة، وتسبب في خلخلة توازن البشر، وخرق مواثيق حقوق الإنسان.

القاضية: أوضح من فضلك، ودون مقدمات.

النيابة العامة: المصل الذي استخلصه من دم السجين جعل كل من حُقن به يتحول إلى وحش..

القاضية: السادة المستشارين  حسب علمي كان السيد حسن وفريقه مطالبين بمصل يوقف العدوى.. هل نجحوا في الأمر؟

المستشار1: نعم سيدتي الوثائق تقول أن المصل كان ناجحا.

حسن: ظهر الحق يا سادة، اكتشافي العلمي ناجع كل النجاعة.

المستشار1: لكن ما عايناه من أحداث يثبت أنهم لم يُصابوا بالوباء لكن أصيبوا بغيره.

القاضية: ماذا حدث؟

المستشار2: كل الذين حُقنوا تحولوا إلى وحوش بشرية تنهش بعضها البعض.

النيابة العامة: أيها السادة المتهم لم يأخذ ترخيصا بتجريب اللقاح.

حسن: أنت.. أنت السجين محمود.. تريدون جعلي أجن.. وأنت الطبيبة النفسية وئام كنت معي لتأهيل السجين نفسيا، وأنت مدير السجن السيد سامي، وأنت.. أنت رئيس مجلس المدينة..

النيابة العامة: ترون سعادتكم حجم الخلل في دماغه، وكيف أُصيب بالعظمة والنرجسية، بل الجنون.. لقد استغل ثقة مدير السجن ليقوم بحقن مجموعة من السجناء بالمصل، كما أخرج عددا من المرضى من خيام الحجر الصحي، عرّض حياتهم وحياة المواطنين للخطر، ليتمم تجاربه غير العلمية، ولو تفضلتم اسمحوا لي بمناداة الشاهد..

القاضية: تفضل.. (يتقدم الشاهد إلى أمام المنصة)

حسن: إنه الصحفي.. الصحفي الذي نقل تجربتي العلمية الفذة للعالم، سيقول الحق.. سيشهد بالحق..

القاضية: اصمت.

الشاهد: أقسم لمحكمتكم الموقرة أن أقول شهادتي صادقة دون ضغط من أحد..

النيابة العامة: تفضل نحن ننتظر.

الشاهد: أنا أعمل في قسم التمريض بالسجن المدني، جاء الدكتور يوم الفحص الأسبوعي للسجناء وأعطاني قنينات صغيرة بها سائل شفاف، وقال لي أنه جاء بأمر المدير، وطلب مني أن أحقن السجناء، وأن أحتفظ بمريض جاء به مغطى على سرير متحرك..

النيابة العامة: هل رأيته بعدها؟

الشاهد: لا لم أره بعد ذلك، كل ما حدث أن كل من حُقِن من السجناء أصيب بنوبة من الهستيريا، ودخلوا في شجار مع بعضهم، بل قد هاجموا المريض الممدّد على السرير ونهشوا جلده..

القاضية: ألم تقل السيد ممثل النيابة أن من حُقن لم يعدى، ولم يمرض لحد الساعة؟

النيابة العامة: لم يتفسخ جلد وجهه، لكن تفسّخت إنسانيته.. الدكتور حسن لم يلتزم بالإجراءات والتراخيص المعمول بها.

حسن: أنا قدّمت للمدينة لقاحا في مدة قياسية، وخلّصتها من الوباء.

المستشار1: وأوقعتها في كارثة أكبر.

المستشار2: كيف سنتحكم في تلك الوحوش البشرية؟

النيابة العامة: غاسمحوا لي سيادتكم بتقديم الشاهد الثاني، صراحة هو ليس شاهدا بل مدع، إنه مسؤول كبير من العاصمة، وقد جاء للتو.. تفضل سيدي..

(يدخل المسؤول وهو يرتدي بدلة أنيقة سوداء ويضع نظارة لا تُظهر ملامحه جيدا، ويحمل حقيبة صغيرة سوداء)

المسؤول من العاصمة: أيها السادة، عفوا لأني قاطعت هذه المحاكمة، لكن لدي اتهامات أخرى يجب أن تأخذوها بعين الاعتبار..

القاضية: تفضل سيدي.

المسؤول من العاصمة: ضبطت اجهزتنا الاستخباراتية الدكتور حسن وهو على اتصال بدول تُكِنّ العداء لدولتنا، إنه متهم بالتجسس..

حسن: التجسس؟.. كلام فارغ، من أنت أصلا.. كيف تقول أنك مسؤول من العاصمة، أنا لا اعرفك..

المسؤول من العاصمة: (يُزيل نظارته) على العكس كلامي موثّق برسائلك الالكترونية، ومكالماتك، وحتى تقاريرك..

حسن: سيف؟ أنت سيف؟ حارس السجن؟

القاضية: لن تكف عن الكلام بدون إذن؟

حسن: ما يحدث مهزلة وإجحاف في حق مساري العلمي الطويل، وفي حق اكتشافي الكبير.. أرفض كل هذا.. أنتم مجانين تعقدون محاكمتي، بدل تتويجي.. من أنتم حتى يحق لكم محاكمتي..

(يُزيل سيف نظاراته وبدلته لتظهر ثياب عادية، وترمي وئام بعباية القاضي، مدير السجن ورئيس المجلس البلدي ينزلان من على المنصة، يقهقه السجين محمود هو والصحفي، يعودون جميعا لشخصياتهم الحقيقية، يلتفون حول القفص ويحيطون به بحركات دائرية وهم يرددون..)

الجميع: يا مجنون.. يا مجنون.. يا مجنون..

حسن: (يصرخ بأعلى صوته) لن تنالوا مني.. لن تُحبطوني.. لن تُسفِّهوا مجهودي العلمي.. أنا من أنقذ المدينة من الوباء اللعنة.. أنا من أزال المحو عن وجوهكم..

الجميع: مجنون.. ابن مجنون..

حسن: (يزداد غضبا) لا.. لا.. لا..

(يستيقظ حسن من نومه، يكتشف أنه كان يحلم فقط، يتنفس الصعداء بعد أن وجد الأنابيب في مكانها، وجمع أجزاء صورة والده وشظايا الزجاج، في هذه الأثناء يدخل كل من الدكتور خالد أخصائي تحاليل الدم، والدكتورة وئام الطبيبة النفسية)

خالد: مساء الخير دكتور حسن.

حسن: أهلا صديقي، لقد تعبت كثيرا هذه الفترة حتى أني نمت على الكرسي، أهلا دكتورة وئام

وئام: هذه الفترة صعبة على الجميع..

حسن: لن تبقى صعبة.

خالد: دعني أخبرك ببعض الأمور يا صديقي.

حسن: تفضل.

خالد: ظهرت بوادر التهابات في عينات دم الملقحين.

حسن: ربما أمراض قديمة يعانون منها.

خالد: وأعراض الوباء أيضا ظهرت عندهم.

حسن: ليس كلهم أكيد؟ أليس كذلك؟ قولي شيئا دكتورة وئام..

وئام: دكتور حسن دعني أخبرك ان السجين محمود قد أصيب بالوباء.

حسن: ماذا؟

خالد: بدأ الطفح الجلدي في وجهه.

حسن: معنى كلامكما أن التجربة قد فشلت؟

خالد: أخشى أن أقول نعم.

حسن: درسنا كل المعطيات.. ألم يكن محمود أكثر السجناء قساوة.. كيف لم يتحكم في مشاعره؟

وئام: اعترف محمود لي أن صلابته تخفي شخصا خائفا وحزينا، هو لم يغتصب أخته.. هو قتل أباه لأنه كان يبيع ابنته كل ليلة لمن يدفع أكثر على طاولة القمار.. قتله بعد أن وجد أحد هؤلاء يعتدي على أخته، وأبوه واقف يتفرج، قتله غضبا وغيضا من فعلته الشنيعة..

حسن: ما شأني بكل هذه الحكاية؟

وئام: بلى، هي تعنيك، أنت لن تجد مصلا مضادا للشفقة والعطف والإنسانية، الإنسان مجبول على أن يكون رحيما..

حسن: كلام فارغ.

خالد: قُضي الأمر علينا أن نُخلي المعمل، ستأتي لجنة من العاصمة وتُباشر أبحاثها..

وئام: أما الخيام فقد أُحرقت كإجراء سريع للحد من الوباء، والسجناء أُعدموا كنوع من الموت الرحيم لهم..

خالد: الجيش نزل إلى الشوارع، الكل سيلزم بيته، والبيت الذي يضم بين جدرانه مريضا، قد يُحرق أو يهدّم..

حسن: أليس هذا دمارا؟

خالد: قانون الطوارئ يبيح كل هذا وغيره.. سيد حسن يؤسفني أن أخبرك انك مدعو للتحقيق..

حسن: أخرجوا.. اغربوا عن وجهي.. لن ينال مني أحد.. ولن يسرق جهدي أحد.. (يفتح أنبوبا تلو الآخر ويشربه بسرعة، بعد أن يُنهيها يبدأ في التلوّي  ويصرخ ألما كمن يقطع أحشاءه، يصرخ قليلا، ويسقط بلا حراك..)

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت