كتاب الخميس (الحلقة الثامنة و العشرون)/ عرض و قراءة: كريم الفحل الشرقاوي
اسم الكتاب : “ مسرح ما بعد الدراما .. أربع مقاربات”
الكاتب: كريستل فايلر – حسن المنيعي – محمد سيف – د. خالد أمين
الناشر: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة ـ سلسلة رقم:15
*****************************
يعتبر كتاب “مسرح ما بعد الدراما أربع مقاربات” الصادر عن المركز الدولي لدراسات الفرجة الذي يديره الدكتور خالد أمين من أهم الإصدارات النقدية العربية التي حاولت مداهمة شعريات هذه الظاهرة الفرجوية الما بعد حداثية وذلك بالنظر للأسماء الوازنة التي تغيت استكناه واستبطان جمالياتها المتكاثفة والتوغل في مساربها المتشابكة ومعاقرة أسئلتها المقعرة كما هو الحال بالنسبة للباحثة الألمانية “كريستل فايلر” التي حاولت موضعة مفهوم مسرح ما بعد الدراما في سياقاته التاريخية والدلالية والإستطيقية. في حين سيختار الباحث العراقي د. محمد سيف اقتحام حقول الألغام التي أثثها شعراء الخشبة الطليعيين وما بعد طليعيين والذين شكلت ثوراتهم الركحية أرضية خصبة لجماليات مسرح ما بعد الدراما . أما د. حسن المنيعي و د. خالد أمين فسيسعيان – مع سبق الإصرار و الترصد النقدي – إلى مداهمة مناطق التماس الممغنطة بين مسرح ما بعد الدراما وبعض تجارب المسرح العربي.
*كريست فايلر ومسرح ما بعد الدراما:
المقاربة الأولى لمسرح ما بعد الدراما من توقيع الباحثة في الجامعة الحرة ببرلين و منسقة برنامج “تناسج ثقافات الفرجة” الدكتورة كريستل فايلر التي حاولت اقتفاء أثر المصطلح وتعقب أصوله و نشأته التاريخية وملامحه الجمالية مؤكدة بأن مصطلح ما بعد الدراما استخدم في البداية من طرف الباحث الألماني أندريز فيرت Andrzej Wirth سنة 1987 لرصد التجارب المسرحية المعاصرة المتمردة على بنية القواعد الدرامية السائدة والتي نحتت حضورها منذ سبعينيات القرن الماضي على يد مخرجين ما بعد طليعيين ك روبرت ويلسون و بينا باوش و ريتشارد فورمن و جورج تابوري و غيرهم من شعراء الخشبة الذين حاولوا فك الارتباط التراتبي بين النص الدرامي و العرض المسرحي وإطلاق العنان للكتابة الركحية التي تحتفي بنص الفرجة المسرحية بكل انزياحاته البصرية و لغاته الممشهدة.
إضافة إلى ما سبق ستؤشر الدكتورة كريستل فايلر على أن الباحثة هيلجا فنتر ستلتقط هي أيضا – وفي نفس الفترة تقريبا – هذه التجارب المسرحية الانزياحية باعتبارها مسرحا ما بعد حداثيا يتجاوز “أطر النص و مسرح القصة لصالح تفكيك النظم العلاماتية و تفاعلاتها . ويظهر بدلا من ذلك وبفعل التزامن و الإضافة و المونتاج نماذج لأزمنة و أماكن و أشخاص تشير في مضمونها إلى الذاتية المنحرفة (1) التي تنتهك وتتجاوز بنية الدراما السائدة بكل أنساقها الأرسطية والملحمية والوجودية والعبثية .
غير أن الباحثة كريستل فايلر – ورغم هذه الأطروحات النقدية السابق ذكرها – ستؤكد بأن الباحث الألماني هانس تيز ليمان Hans This Lehmann يعتبر المنظر الأساسي لمسرح ما بعد الدراما و ناحت مصطلحاته و مفاهيمه الفكرية و الجمالية و المتعقب لتجاربه الركحية وعروضه الانزياحية التي انتعشت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن 20 وذلك من خلال الإصدار الذي نشره في سنة 1999 والذي ينحت من خلاله الملامح الأساسية لمسرح ما بعد الدراما “حيث لم تعتمد محاولته على منهجية علمية بحتة. بل معتمدا على التقاط الظواهر المسرحية غير المتجانسة . والنظر إلى تطور مسرح القرن العشرين للوصول إلى منظور واضح لخط تطور المسرح المعاصر و الحديث (…) لوجود وفرة وتنوع في الأعمال المسرحية التي تضع أشكال الدراما التقليدية و ما يصاحبها من أشكال العرض في موضع تساؤل”(2) كما هو الحال بالنسبة لروبرت ويلسون الذي مافتئ يستلهم فرجاته من من فن التصوير الفوتوغرافي و الاحتفال بالفضاء التشكيلي و أيضا ريتشار فورمن و جورج تابوري اللذان سينسفان كل الحدود بين المسرح و فنون الرقص التعبيري … وغيرها من التجارب المسرحية المابعد طليعية التي تحتفي بالتفكيك والتشذر والتشظي وتقويض المحاكاة والصراع الدرامي وانتفاء الغائية والخطاب الرسالي . غير ان مسرح ما بعد الدراما – كما تشير الباحثة – لا ينفي و لا يلغي النص اللساني من جدول أعماله بل يحتفي برواد الكتابة الما بعد درامية كما هو الحال بالنسبة ل هاينر موللر و ألفريد يلينكه و ألبرت أوسترماير و رينيه بولش وغيرهم .
وفي ختام مقاربتها ستعتبر كريستل فايلر أن مشروع هانس ليمان و رهاناته التنظيرية “محدودة الصلاحية بشكل واضح . وهذه المحدودية سوف يتم تعيينها من المسرح نفسه. من خلال مراقبة مظاهر التغير في بداية القرن الواحد والعشرين” (3).
د.حسن المنيعي : المسرح العربي ما بعد الدراما:
يعتبر الدكتور حسن المنيعي بأن مسرح ما بعد الدراما يشكل ثورة جمالية وتجاوز للثوابت الراسخة للدراما التقليدية كسلطة النص الأدبي و النسقية الخطية و المحاكاة و الإيهام و الأداء السيكولوجي للممثل لكون مسرح ما بعد الدراما “مسرح يحتفي بحضور جسد الممثل في حد ذاته وليس إطارا يولد الإيهام بحدث درامي مادام الجسد الما بعد درامي هو جسد الحركة يرفض دوره كدال”(4) ليتحول جسد الممثل بذلك إلى علامة داخل غابة من العلامات المتشظية التي لا تسعى للملمة الخلاصات و تدبيج الأنساق المكتملة بقدر ما تسعى إلى تفجير عالم من الجزئيات والجزيئات البلورية الشفافة المثيرة والمستفزة لمدركات المتلقي . هذا المتلقي الذي لا يخضع نمط تلقيه في مسرح ما بعد الدراما إلى نسق خطي وتراتبية غائية بقدر ما يستنفر إدراكا تزامنيا يشتبك مع سيل من التدفقات العلاماتية السائلة التي لا تسعف المتلقي بأي خلاص تطهيري “لأنه لا يستطيع فهم النتاج في شموليته ولا الوقوف على بنية أو نظام يطمئنه كما هو الشأن في المسرح الدرامي . لأنه يجد نفسه دوما أمام روابط متنافرة تحول دون بروز الخلاصة مما يعني أن التواصل مع الجمهور يمر عبر حس متزامن synesthesie”(5) .
المقاربة التحليلية للدكتور حسن المنيعي لم تقف عند حدود قراءة تضاريس مسرح ما بعد الدراما كما نحتها الباحث الألماني هانس ليمان وإنما سيشد الرحال نحو صحاري المسرح العربي مشيرا في هذا الصدد إلى أن العرب لم يستثمروا خلال عصورهم القديمة فرجاتهم الشعبية اللادرامية بل سينتظرون عهودا طويلة قبل أن يستوردوا ويتلقفوا الظاهرة المسرحية بنسقها الإيطالي الغربي ليصبح المسرح العربي المحدث فضاءا مشاعا لتوطين واستنبات التيارات المسرحية الغربية خصوصا اللاأرسطية التي أسعفت محاولاتهم الحثيثة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لتأصيل الظاهرة المسرحية ومحاولة تجذيرها في التربة الثقافية العربية نقدا وإبداعا وتنظيرا من خلال العودة إلى الموروث الفرجوي المحلي والعربي اللادرامي في تناسجه مع شعريات مسرحية غربية ضد درامية خصوصا طقوسية أرطو وملحمية بريشت “كمحاولة من بعض رجاله لإحياء طقوس وظواهر احتفالية و وضعها في قالب مسرحي الشيء الذي ساعدهم على ترسيخ ممارسة مسرحية كونية ووطنية في نفس الوقت تقترن وجوهها وأبعادها بتأملات حول أوضاع الفن الدرامي وتوجهاته الحديثة ومنها على الخصوص مسرح ما بعد الدراما”(6).
من هذا المنطلق سيؤكد د.حسن المنيعي بأن أغلب الملامح التي يتصف بها مسرح ما بعد الدراما كما نظر له هانس ليمان “تنسحب على الممارسة المسرحية العربية . ذلك أنه منذ منتصف السبعينات حاول الكثير من المسرحيين العرب تجاوز المسرح الدرامي الذي يجعل من النص البنية العميقة والمحتوى الرئيسي لفن الدراما . وتعويضه بكتابة جدولية تقوم على مشاهد ولوحات”(7). من المؤكد أن مقاربة باحث أكاديمي من عيار الراحل الدكتور حسن المنيعي لا تروم – بأثر رجعي – إسقاط مضامين كتاب “مسرح ما بعد الدراما” لهانس ليمان (صدر في 1999) بخلفيته الما بعد حداثية على التجارب التأصيلية لمسرحنا العربي في سبعينيات القرن الماضي بقدر ما سيستدعي بعض تقنياته الضد درامية (مشاهد ولوحات منفصلة .. تهشيم الدراما الخطية .. فن الكولاج .. الوثائقية الفيلمية …) وهي تقنيات سبق وأن لجأت إليها بعض التجارب المسرحية العربية والمغربية لتكريس حداثتها التأصيلية التي مارست تجريبيتها داخل مساحات البينية التي تتأرجح بين الذات و الآخر .. الهوية والغيرية . كما أن الدكتور خالد أمين في رصده لبعض التجارب المسرحية العربية المعاصرة التي تنهل من تقنيات مسرح ما بعد الدراما يؤشر على أنها تجارب لا تحمل خاصية ما بعد حاداثية – كما هو الحال في الغرب – بقدر ما تحمل خاصية ما بعد كولونيالية .
د.محمد سيف : مسرح ما بعد الدراما وشعراء الخشبة:
المقاربة النقدية للباحث العراقي د. محمد سيف تغيت رصد الثورات الركحية لشعراء الخشبة الذين فجروا الهزات الجمالية الانزياحية التي غذت شعريات مسرح ما بعد الدراما من خلال تنصل مؤلفي نص العرض من هيمنة النسق الدرامي الأدبي والاحتفاء بالكتابة الركحية التي تتوسل بالكتابة بالصورة والكتابة بالجسد والكتابة في الفضاء والكتابة بالضوء و اللون والحركة والإيقاع … في حين يحضر النص الدرامي اللساني الملفوظ كعنصر من عناصر الفرجة المسرحية ليس إلا .
وفي قراءته التفصيلية الممتعة لكتاب مسرح ما بعد الدراما سيتم التطرق وبإسهاب للأرضيات الجمالية لبعض النظريات اللاأرسطية كمسرح القسوة والمسرح الملحمي مشيرا أيضا إلى تأثر أهم التجارب المسرحية الغربية ورموزها بالفرجات اللادرامية الشرق أسيوية كما هو الحال بالنسبة لأرطو ومسرح بالي الأندونيسي . و بريشت و أوبرا بكين . و غروتوفسكي و يوجينيو باربا ومسرح الكاتاكالي . و أريان منوشكين والمسرح الياباني . و بتر بروك والمسرح الهندي … وهي تجارب تثاقفية أسهمت في تجذير الأرضيات الجمالية لمسرح غربي لا درامي .
وفي مقاربته لمفهوم مسرح ما بعد الدراما سيخلص د.محمد سيف إلى أن هذا النوع من المسرح يقوض تمركز البنية الدرامية و سلطة المحاكاة ولا “يقوم على مبدأ الفعل والقصة وإنما يعرض وضعا او حالة كبديل لهما . إنه كما يشرحه ليمان لم يعد يبحث عن وحدة المكونات الجمالية ويأخذ شكله وطبيعته من التشذر وكل ما هو متجزئ وهو يكشف في هذه الطريقة وغيرها عن قارة جديدة لفن الأداء”(9). إنها قارة أدائية ما بعد حداثية منفلتة من النسق الأدبي الدرامي الشمولي وقواعده المهيمنة كالحكاية الخطية و الصراع الدرامي و الحبكة و الحدث و المحاكاة و التمثيل … مع الرهان على كتابة ركحية تتغذى من الأدائية المفرطة و الوسائط الرقمية و لغة الصورة و لغة الجسد والوثائق الفيلمية وتكثيف العلامات البصرية المشفوعة بالتشظي و التفتيت و إرجاء المعنى .
وانطلاقا مما سبق سيحاول الباحث اقتفاء أثر شعراء الخشبة الذين ستبشر تجارب بعضهم كما ستسعف أخرى جماليات مسرح ما بعد الدراما من خلال تمردهم على الدراما التقليدية كما هو الحال بالنسبة ل “تادور كانتور الذي استرجع مناخ الاحتفالية المسرحية و كلاوس مايكل غروبر ومسرحه الذي يعتمد على الأصوات . و روبرت ويلسون الذي يحول الفضاء المسرحي إلى منظر تأملي أكثر مما هو فضاء نقوم بتفسيره إلى جانب لليون بول فارج و جان فابر”(10) وغيرهم من المخرجين الطليعيين وما بعد طليعيين الذين سيقومون بأسلبة الفضاءات الركحية وتحويلها إلى عوالم تضج بالكتابة الممشهدة الكثيفة العلامات والمتعددة اللغات و المستويات . هذه التجارب المسرحية – حسب الباحث – ستطلق العنان لشعريات الكتابة الركحية “كظاهرة جديدة في المسرح المعاصر تعمل على اكتشاف طريقة خلق جديدة و غير معهودة تتقاطع مع تقاليد المسرح الغربي . إنها كتابة للعرض مباشرة على المسرح باستخدام كافة التخصصات الفنية من أجل خلق لغة حسية فورية في العرض”(11). هذه الكتابة الركحية ستشكل الحفريات الثورية لمؤلفي نص العرض ولشعراء الخشبة الجدد الذين سيراهنون على الكتابة الشذرية ولغة الجسد الحر وبلاغة التشكيل وسيتوسلون بكل الطقوس والأشكال الفنية المتجاورة والمتحاورة مع الوسائطية المفرطة كما هو الحال بالنسبة لفرانسوا تانكي و روميو كاتستلوتشي و رودريكو كارسيا و ماتيوس لانكوف و أنتول فاسيلي وغيرهم من مؤلفي نص العرض الجدد .
وفي نفس الاتجاه سيعمد محمد سيف إلى القيام بقراءت تحليلية عميقة لعينات من الفرجات الغربية المابعد درامية كما هو الحال بالنسبة لعرض “تراجيديا” لروميو كاتستلوتشي التي قدمها في حلقات متسلسلة حيث سيتم عرض كل حلقة في مدينة أوروبية . وعرض “فوكو71” لجماعة ف71 الذي يستمد مادته السردية من نصوص الفيلسوف مشيل فوكو وحفرياته المتوغلة في عوالم السجون وذلك باعتماد الكتابة الركحية على أرشيف سمعي بصري . إضافة لعرض للمخرج الألماني فالك ريختر بعنوان “فندق فلسطين” وهو فندق في بغداد كان يستضيف الصحفيين والإعلاميين الغربيين خلال الغزو الأمريكي للعراق حيث سيتحول العرض إلى مؤتمر صحفي وسجال مشحون بين الإعلاميين و المسؤولين الأمريكيين .