كتاب الخميس (الحلقة الثامنة و العشرون)/ عرض و قراءة: كريم الفحل الشرقاوي

اسم الكتاب : “ مسرح ما بعد الدراما .. أربع    مقاربات” 

الكاتب: كريستل فايلر – حسن المنيعي – محمد سيف – د. خالد أمين

الناشر: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة ـ سلسلة رقم:15

 

*****************************

يعتبر كتاب “مسرح ما بعد الدراما أربع مقاربات” الصادر عن المركز الدولي لدراسات الفرجة الذي يديره الدكتور خالد أمين من أهم الإصدارات النقدية العربية التي حاولت مداهمة شعريات هذه الظاهرة الفرجوية الما بعد حداثية وذلك بالنظر للأسماء الوازنة التي تغيت استكناه واستبطان جمالياتها المتكاثفة والتوغل في مساربها المتشابكة ومعاقرة أسئلتها المقعرة كما هو الحال بالنسبة للباحثة الألمانية “كريستل فايلر” التي حاولت موضعة مفهوم مسرح ما بعد الدراما في سياقاته التاريخية والدلالية والإستطيقية. في حين سيختار الباحث العراقي د. محمد سيف اقتحام حقول الألغام التي أثثها شعراء الخشبة الطليعيين وما بعد طليعيين والذين شكلت ثوراتهم الركحية أرضية خصبة لجماليات مسرح ما بعد الدراما . أما د. حسن المنيعي و د. خالد أمين فسيسعيان – مع سبق الإصرار و الترصد النقدي – إلى مداهمة مناطق التماس الممغنطة بين مسرح ما بعد الدراما وبعض تجارب المسرح العربي.

*كريست فايلر ومسرح ما بعد الدراما:

المقاربة الأولى لمسرح ما بعد الدراما من توقيع الباحثة في الجامعة الحرة ببرلين و منسقة برنامج “تناسج ثقافات الفرجة” الدكتورة كريستل فايلر التي حاولت اقتفاء أثر المصطلح وتعقب أصوله و نشأته التاريخية وملامحه الجمالية مؤكدة بأن مصطلح ما بعد الدراما استخدم في البداية من طرف الباحث الألماني أندريز فيرت Andrzej Wirth سنة 1987 لرصد التجارب المسرحية المعاصرة المتمردة على بنية القواعد الدرامية السائدة والتي نحتت حضورها منذ سبعينيات القرن الماضي على يد مخرجين ما بعد طليعيين ك روبرت ويلسون و بينا باوش و ريتشارد فورمن و جورج تابوري و غيرهم من شعراء الخشبة الذين حاولوا فك الارتباط التراتبي بين النص الدرامي و العرض المسرحي وإطلاق العنان للكتابة الركحية التي تحتفي بنص الفرجة المسرحية بكل انزياحاته البصرية و لغاته الممشهدة.

إضافة إلى ما سبق ستؤشر الدكتورة كريستل فايلر على أن الباحثة هيلجا فنتر ستلتقط هي أيضا – وفي نفس الفترة تقريبا – هذه التجارب المسرحية الانزياحية باعتبارها مسرحا ما بعد حداثيا يتجاوز “أطر النص و مسرح القصة لصالح تفكيك النظم العلاماتية و تفاعلاتها . ويظهر بدلا من ذلك وبفعل التزامن و الإضافة و المونتاج نماذج لأزمنة و أماكن و أشخاص تشير في مضمونها إلى الذاتية المنحرفة (1) التي تنتهك وتتجاوز بنية الدراما السائدة بكل أنساقها الأرسطية والملحمية والوجودية والعبثية .

غير أن الباحثة كريستل فايلر – ورغم هذه الأطروحات النقدية السابق ذكرها – ستؤكد بأن الباحث الألماني هانس تيز ليمان Hans This Lehmann يعتبر المنظر الأساسي لمسرح ما بعد الدراما و ناحت مصطلحاته و مفاهيمه الفكرية و الجمالية و المتعقب لتجاربه الركحية وعروضه الانزياحية التي انتعشت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن 20 وذلك من خلال الإصدار الذي نشره في سنة 1999 والذي ينحت من خلاله الملامح الأساسية لمسرح ما بعد الدراما “حيث لم تعتمد محاولته على منهجية علمية بحتة. بل معتمدا على التقاط الظواهر المسرحية غير المتجانسة . والنظر إلى تطور مسرح القرن العشرين للوصول إلى منظور واضح لخط تطور المسرح المعاصر و الحديث (…) لوجود وفرة وتنوع في الأعمال المسرحية التي تضع أشكال الدراما التقليدية و ما يصاحبها من أشكال العرض في موضع تساؤل”(2) كما هو الحال بالنسبة لروبرت ويلسون الذي مافتئ يستلهم فرجاته من من فن التصوير الفوتوغرافي و الاحتفال بالفضاء التشكيلي و أيضا ريتشار فورمن و جورج تابوري اللذان سينسفان كل الحدود بين المسرح و فنون الرقص التعبيري … وغيرها من التجارب المسرحية المابعد طليعية التي تحتفي بالتفكيك والتشذر والتشظي وتقويض المحاكاة والصراع الدرامي وانتفاء الغائية والخطاب الرسالي . غير ان مسرح ما بعد الدراما – كما تشير الباحثة – لا ينفي و لا يلغي النص اللساني من جدول أعماله بل يحتفي برواد الكتابة الما بعد درامية كما هو الحال بالنسبة ل هاينر موللر و ألفريد يلينكه و ألبرت أوسترماير و رينيه بولش وغيرهم .

وفي ختام مقاربتها ستعتبر كريستل فايلر أن مشروع هانس ليمان و رهاناته التنظيرية “محدودة الصلاحية بشكل واضح . وهذه المحدودية سوف يتم تعيينها من المسرح نفسه. من خلال مراقبة مظاهر التغير في بداية القرن الواحد والعشرين” (3).

 

د.حسن المنيعي : المسرح العربي ما بعد الدراما:

يعتبر الدكتور حسن المنيعي بأن مسرح ما بعد الدراما يشكل ثورة جمالية وتجاوز للثوابت الراسخة للدراما التقليدية كسلطة النص الأدبي و النسقية الخطية و المحاكاة و الإيهام و الأداء السيكولوجي للممثل لكون مسرح ما بعد الدراما “مسرح يحتفي بحضور جسد الممثل في حد ذاته وليس إطارا يولد الإيهام بحدث درامي مادام الجسد الما بعد درامي هو جسد الحركة يرفض دوره كدال”(4) ليتحول جسد الممثل بذلك إلى علامة داخل غابة من العلامات المتشظية التي لا تسعى للملمة الخلاصات و تدبيج الأنساق المكتملة بقدر ما تسعى إلى تفجير عالم من الجزئيات والجزيئات البلورية الشفافة المثيرة والمستفزة لمدركات المتلقي . هذا المتلقي الذي لا يخضع نمط تلقيه في مسرح ما بعد الدراما إلى نسق خطي وتراتبية غائية بقدر ما يستنفر إدراكا تزامنيا يشتبك مع سيل من التدفقات العلاماتية السائلة التي لا تسعف المتلقي بأي خلاص تطهيري “لأنه لا يستطيع فهم النتاج في شموليته ولا الوقوف على بنية أو نظام يطمئنه كما هو الشأن في المسرح الدرامي . لأنه يجد نفسه دوما أمام روابط متنافرة تحول دون بروز الخلاصة مما يعني أن التواصل مع الجمهور يمر عبر حس متزامن synesthesie”(5) .

المقاربة التحليلية للدكتور حسن المنيعي لم تقف عند حدود قراءة تضاريس مسرح ما بعد الدراما كما نحتها الباحث الألماني هانس ليمان وإنما سيشد الرحال نحو صحاري المسرح العربي مشيرا في هذا الصدد إلى أن العرب لم يستثمروا خلال عصورهم القديمة فرجاتهم الشعبية اللادرامية بل سينتظرون عهودا طويلة قبل أن يستوردوا ويتلقفوا الظاهرة المسرحية بنسقها الإيطالي الغربي ليصبح المسرح العربي المحدث فضاءا مشاعا لتوطين واستنبات التيارات المسرحية الغربية خصوصا اللاأرسطية التي أسعفت محاولاتهم الحثيثة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لتأصيل الظاهرة المسرحية ومحاولة تجذيرها في التربة الثقافية العربية نقدا وإبداعا وتنظيرا من خلال العودة إلى الموروث الفرجوي المحلي والعربي اللادرامي في تناسجه مع شعريات مسرحية غربية ضد درامية خصوصا طقوسية أرطو وملحمية بريشت “كمحاولة من بعض رجاله لإحياء طقوس وظواهر احتفالية و وضعها في قالب مسرحي الشيء الذي ساعدهم على ترسيخ ممارسة مسرحية كونية ووطنية في نفس الوقت تقترن وجوهها وأبعادها بتأملات حول أوضاع الفن الدرامي وتوجهاته الحديثة ومنها على الخصوص مسرح ما بعد الدراما”(6).

من هذا المنطلق سيؤكد د.حسن المنيعي بأن أغلب الملامح التي يتصف بها مسرح ما بعد الدراما كما نظر له هانس ليمان “تنسحب على الممارسة المسرحية العربية . ذلك أنه منذ منتصف السبعينات حاول الكثير من المسرحيين العرب تجاوز المسرح الدرامي الذي يجعل من النص البنية العميقة والمحتوى الرئيسي لفن الدراما . وتعويضه بكتابة جدولية تقوم على مشاهد ولوحات”(7). من المؤكد أن مقاربة باحث أكاديمي من عيار الراحل الدكتور حسن المنيعي لا تروم – بأثر رجعي – إسقاط مضامين كتاب “مسرح ما بعد الدراما” لهانس ليمان (صدر في 1999) بخلفيته الما بعد حداثية على التجارب التأصيلية لمسرحنا العربي في سبعينيات القرن الماضي بقدر ما سيستدعي بعض تقنياته الضد درامية (مشاهد ولوحات منفصلة .. تهشيم الدراما الخطية .. فن الكولاج .. الوثائقية الفيلمية …) وهي تقنيات سبق وأن لجأت إليها بعض التجارب المسرحية العربية والمغربية لتكريس حداثتها التأصيلية التي مارست تجريبيتها داخل مساحات البينية التي تتأرجح بين الذات و الآخر .. الهوية والغيرية . كما أن الدكتور خالد أمين في رصده لبعض التجارب المسرحية العربية المعاصرة التي تنهل من تقنيات مسرح ما بعد الدراما يؤشر على أنها تجارب لا تحمل خاصية ما بعد حاداثية – كما هو الحال في الغرب – بقدر ما تحمل خاصية ما بعد كولونيالية .

 

د.محمد سيف : مسرح ما بعد الدراما وشعراء الخشبة:

المقاربة النقدية للباحث العراقي د. محمد سيف تغيت رصد الثورات الركحية لشعراء الخشبة الذين فجروا الهزات الجمالية الانزياحية التي غذت شعريات مسرح ما بعد الدراما من خلال تنصل مؤلفي نص العرض من هيمنة النسق الدرامي الأدبي والاحتفاء بالكتابة الركحية التي تتوسل بالكتابة بالصورة والكتابة بالجسد والكتابة في الفضاء والكتابة بالضوء و اللون والحركة والإيقاع … في حين يحضر النص الدرامي اللساني الملفوظ كعنصر من عناصر الفرجة المسرحية ليس إلا .

وفي قراءته التفصيلية الممتعة لكتاب مسرح ما بعد الدراما سيتم التطرق وبإسهاب للأرضيات الجمالية لبعض النظريات اللاأرسطية كمسرح القسوة والمسرح الملحمي مشيرا أيضا إلى تأثر أهم التجارب المسرحية الغربية ورموزها بالفرجات اللادرامية الشرق أسيوية كما هو الحال بالنسبة لأرطو ومسرح بالي الأندونيسي . و بريشت و أوبرا بكين . و غروتوفسكي و يوجينيو باربا ومسرح الكاتاكالي . و أريان منوشكين والمسرح الياباني . و بتر بروك والمسرح الهندي … وهي تجارب تثاقفية أسهمت في تجذير الأرضيات الجمالية لمسرح غربي لا درامي .

وفي مقاربته لمفهوم مسرح ما بعد الدراما سيخلص د.محمد سيف إلى أن هذا النوع من المسرح يقوض تمركز البنية الدرامية و سلطة المحاكاة ولا “يقوم على مبدأ الفعل والقصة وإنما يعرض وضعا او حالة كبديل لهما . إنه كما يشرحه ليمان لم يعد يبحث عن وحدة المكونات الجمالية ويأخذ شكله وطبيعته من التشذر وكل ما هو متجزئ وهو يكشف في هذه الطريقة وغيرها عن قارة جديدة لفن الأداء”(9). إنها قارة أدائية ما بعد حداثية منفلتة من النسق الأدبي الدرامي الشمولي وقواعده المهيمنة كالحكاية الخطية و الصراع الدرامي و الحبكة و الحدث و المحاكاة و التمثيل … مع الرهان على كتابة ركحية تتغذى من الأدائية المفرطة و الوسائط الرقمية و لغة الصورة و لغة الجسد والوثائق الفيلمية وتكثيف العلامات البصرية المشفوعة بالتشظي و التفتيت و إرجاء المعنى .

وانطلاقا مما سبق سيحاول الباحث اقتفاء أثر شعراء الخشبة الذين ستبشر تجارب بعضهم كما ستسعف أخرى جماليات مسرح ما بعد الدراما من خلال تمردهم على الدراما التقليدية كما هو الحال بالنسبة ل “تادور كانتور الذي استرجع مناخ الاحتفالية المسرحية و كلاوس مايكل غروبر ومسرحه الذي يعتمد على الأصوات . و روبرت ويلسون الذي يحول الفضاء المسرحي إلى منظر تأملي أكثر مما هو فضاء نقوم بتفسيره إلى جانب لليون بول فارج و جان فابر”(10) وغيرهم من المخرجين الطليعيين وما بعد طليعيين الذين سيقومون بأسلبة الفضاءات الركحية وتحويلها إلى عوالم تضج بالكتابة الممشهدة الكثيفة العلامات والمتعددة اللغات و المستويات . هذه التجارب المسرحية – حسب الباحث – ستطلق العنان لشعريات الكتابة الركحية “كظاهرة جديدة في المسرح المعاصر تعمل على اكتشاف طريقة خلق جديدة و غير معهودة تتقاطع مع تقاليد المسرح الغربي . إنها كتابة للعرض مباشرة على المسرح باستخدام كافة التخصصات الفنية من أجل خلق لغة حسية فورية في العرض”(11). هذه الكتابة الركحية ستشكل الحفريات الثورية لمؤلفي نص العرض ولشعراء الخشبة الجدد الذين سيراهنون على الكتابة الشذرية ولغة الجسد الحر وبلاغة التشكيل وسيتوسلون بكل الطقوس والأشكال الفنية المتجاورة والمتحاورة مع الوسائطية المفرطة كما هو الحال بالنسبة لفرانسوا تانكي و روميو كاتستلوتشي و رودريكو كارسيا و ماتيوس لانكوف و أنتول فاسيلي وغيرهم من مؤلفي نص العرض الجدد .

وفي نفس الاتجاه سيعمد محمد سيف إلى القيام بقراءت تحليلية عميقة لعينات من الفرجات الغربية المابعد درامية كما هو الحال بالنسبة لعرض “تراجيديا” لروميو كاتستلوتشي التي قدمها في حلقات متسلسلة حيث سيتم عرض كل حلقة في مدينة أوروبية . وعرض “فوكو71” لجماعة ف71 الذي يستمد مادته السردية من نصوص الفيلسوف مشيل فوكو وحفرياته المتوغلة في عوالم السجون وذلك باعتماد الكتابة الركحية على أرشيف سمعي بصري . إضافة لعرض للمخرج الألماني فالك ريختر بعنوان “فندق فلسطين” وهو فندق في بغداد كان يستضيف الصحفيين والإعلاميين الغربيين خلال الغزو الأمريكي للعراق حيث سيتحول العرض إلى مؤتمر صحفي وسجال مشحون بين الإعلاميين و المسؤولين الأمريكيين .

 

خالد أمين : المسرح العربي بين الدراماتورجيا الركحية وأسئلة ما بعد الدراما:
في مستهل مقاربته التحليلية الرصينة سيستحضر الدكتور خالد أمين ظواهر وأشكال فرجوية ساهمت في استثارة وتطعيم الثورات الجمالية لمسرح ما بعد الدراما كفن الأداء وفن الحياة وفن التجهيز وفن الأرض وفن الجسد وفن المينيمال وفن الفيديو وفن النت … وغيرها من الفنون المجاورة الأخرى . غير أن الباحث سيركز على ظاهرتين أساسيتين أولاهما فن الأداء Performance كواقعة مشهدية حرة عابرة وظرفية تفجر حدثا ما .. أو طلقات أدائية ما .. دون التقيد بأي مرجعية جمالية أو قواعد منهجية باعتبارها أدائية شاسعة بلا حدود .. بلا ضفاف .. تقتحم كل الأمكنة والأفضية الممكنة والمحتملة ليتجاوز بذلك فن الأداء كل مساحات الفنون الأخرى بما فيها المسرح . غير أن حممه وشظاياه ستداهم بعض التجارب المسرحية الما بعد طليعية و الما بعد درامية التي ستلسعها حرارة هذه الظاهرة المفرطة في رحابتها الأدائية بما يمكن اعتبارها – حسب الباحث – عنصرا ممهدا ومؤثرا في مسرح ما بعد الدراما كما نظر له هانس ليمان .
الظاهرة الثانية التي سيرصدها خالد أمين كظاهرة مؤثرة في تشكيل ملامح مسرح ما بعد الدراما تتمظهر في المنعطف الوسائطي كخاصية ما بعد حداثية حيث “أدى انفتاح المسرح على الثقافة الرقمية إلى استشكال آليات صناعة الفرجة المسرحية . وواقع الحال أن الثقافة الرقمية تجمع ما بين الفرجة المباشرة التي تميز المسرح من جهة . وحزمة بروتوكولات الإنترنيت وتفاعلات وسائل الإعلام من جهة ثانية” (12) .
وفي مقاربته لجماليات مسرح ما بعد الدراما كما نظر لها الباحث الألماني هانس ليمان سيعتبر خالد أمين هذه الظاهرة الما بعد حداثية المستوعبة لهزات التجارب الما بعد طليعية وانزياحات الفنون المجاورة وسياحات فنون الأداء واجتياحات الوسائط الرقمية لا تعني في “ما بعديتها” نسفا ودفنا وإقصاء للدراما التقليدية بقدر ما هي استيعاب و تجاوز لها ولأنساقها الخطية والجدلية وللمحاكاة والإيهام والصراع الدرامي وسيكولوجية التمثيل والانفلات من صنمية النص الدرامي الأدبي كتراتبية حتمية كرستها الدراما الأرسطية ولم يتجاوزها المسرح الملحمي أيضا رغم تهشيمه لنسقها الخطي لأن “مسرح ما بعد الدراما يعتبر ابتكارات برشت جزءا لا يتجزأ من التقليد الدرامي رغم انفلاتها منه . لذلك نعتقد أن “سوندي” لم يتمكن من رؤية ومقاربة الحساسية المسرحية الأخرى الخارجة عن بنية التقاطب التي تموضع المسرح الدرامي في مقابل المسرح الملحمي”(13).
من هنا يمكن اعتبار كتاب مسرح ما بعد الدراما لهانس ليمان – حسب الباحث – مراجعة نقدية تفكيكية لكتاب “نظرية الدراما الحديثة” للناقد الهنغاري بيتر سوندي الذي رسخ نسقا نقديا مهيمنا على الخطاب النقدي الغربي طيلة النصف الثاني من القرن الماضي .
وفي قراءته لخصائص مسرح ما بعد الدراما سيحاول خالد أمين بكثير من الدقة المفاهيمية الإمساك بملامحه الأخدودية والقبض على أنساقه المقعرة حيث سيؤشر على أن هذا الاتجاه المسرحي الما بعد حداثي يجنح إلى تفكيك وتفتيت مركزية البنية الدرامية الشمولية ( الأرسطية والملحمية والطليعية) والانفلات من النسق الأدبي والاجهاز على التراتبية الخطية والتوسل بالهجنة الأسلوبية والوسائطية المفرطة والشذرية والتشظي والتجزئ لأجل تأجيل الارتماء في أحضان المعنى الحتمي المبتذل والقهري. بما يجنح الى تكثيف العلامات المسرحية حد التخمة والالتباس بما فيها جسد الممثل الذي لايحضر ” كحامل معنى ولكن كحضور فيزيقي حركي . فجسد الممثل من حيث هو علامة مسرحية مركزية أصبح يرفض خدمة الدلالة “(14). غير أن هذا التشظي الدلالي الذي يتوسل به مسرح ما بعد الدراما لا يعني حجب ” الحقيقة ” بقدر ما يحفز على استحضارها داخل حلبة الواقعية المفرطة وهي تستعرض نسخها المهيمنة التي أنتجتها الثقافة الاستهلاكية الرهيبة .
وفي قراءته لبانوراما الدراماتورجيا المغايرة في المسرح العربي المعاصر سيؤكد خالد أمين بأنه ” بحكم تناسج الثقافات الفرجوية أصبحت بعض ملامح مسرح ما بعد الدراما تغزو المسرح العربي ما بين الفينة والأخرى (…) وهنا يتعين التأكيد أنني لا أدعي أن مسرح ما بعد الدراما أصبح ظاهرة مسرحية في عالمنا العربي . وإن كان هذا لاينفي أنه قد أصبحت بعض من أوجهه تتمظهر في بعض التجارب العربية خاصة مع بداية الألفية الثالثة “(15). كما هو الحال بالنسبة للفنان اللبناني ربيع مروة التي سيقوم الباحث بنحت قراءة عميقة لأهم الملامح الجمالية والركحية لهذه التجربة التي تتفاعل مع فنون الأداء ومحاضرات الفيديو والأرشيف السمعي بصري والأفلام التسجيلية والوسائط الرقمية والتي تتمظهر بالخصوص في عرضه “بيوخرافيا ” وهي فرجة غير خاضعة للتصنيف . وعرضه “ثلاث ملصقات” وهو عبارة عن محاضرة فيديو video performance . وفرجته “وجه أ وجه ب” وهي ذاكرة بصرية تمتح من فنون الأداء والفن التسجيلي والتوثيق السمعي البصري . إضافة الى عرضه “من يخاف التمثيل” الذي يعتبر – حسب الباحث – أحد أهم فرجات ربيع مروة حيث سيتحرر المسرح من الدراما والايهام ويحضر الحقيقي بدل التمثيل ويتحول العرض إلى شبه محاضرة تحتفي بشظايا الذاكرة الحية التي تلفظها الوسائط والوثائق البصرية وتتقاذفها الأدائية المفرطة .
وإضافة لتجربة اللبناني ربيع مروة ورفيقته لينا صانع سيمعن خالد أمين في قراءته التحليلية الممتعة لعينات من عروض مسرحية من تونس والمغرب تعتمد على شغب الكتابة الركحية بكل انزياحاتها الممشهدة .
هذه التجارب العربية التي تعتمد على الدراماتورجيا الركحية الجديدة تجعل من الممارسة المسرحية في الوطن العربي حسب خالد أمين ممارسة “متفاعلة بشكل أو بآخر مع تحولات صناعة الفرجة المسرحية على المستوى الكوني وذلك نتيجة ما تطلق عليه الباحثة الألمانية إريكا فيشر بتناسج ثقافات الفرجة . فلم يعد بعد المسرح ذلك الفن الهامشي في عالمنا العربي اليوم بل أصبح تلك الاستعارة الثقافية الممتدة في الحياة اليومية”(16).
هوامش :
*الدراسة الوحيدة المترجمة في الكتاب / ترجمة مروة مهدي – مصطفى عبيدو.
1- كريستل فايلر – حسن المنيعي – محمد سيف – خالد أمين / مسرح ما بعد الدراما أربع مقاربات – منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة – الطبعة الأولى – ص 9.
2- نفس المرجع – ص 9
3- نفس المرجع – ص 13
4- نفس المرجع – ص 19
5- نفس المرجع – ص 20
6- نفس المرجع – ص 16
7- نفس المرجع – ص 20
8- نفس المرجع – ص 23
9- نفس المرجع – ص 25
10- نفس المرجع – ص 38
11 – نفس المرجع – ص 60
12 – نفس المرجع – ص 82
13 – نفس المرجع – ص 87
14 – نفس المرجع – ص 96
15 – نفس المرجع – ص 98
16 – نفس المرجع – ص 115

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت